أما بعد: فقال الله تعالى: يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون [يوسف:46]. هذه الآية العظيمة فيها دروس عظيمة، وقد ذكرت طرفاً منها في الجمعة الماضية، وأنا أذكر بعضها اليوم. فمن دروسها: أن التلطف مع المخاطب للتوصل بذلك إلى المقصود هو الأسلوب الصحيح، تأملوا كيف تلطف ذلك السائل، وهو صاحب حاجة جليلة الشأن، صاحب حاجة مهمة، كيف تلطف مع يوسف عليه السلام: يوسف أيها الصديق يناديه باسمه تحببا إليه، يناديه باسمه المجرد كأنما يريد بذلك الإيحاء بما بينهما من معرفة سابقة وودّ قديم منذ كانت محنة السجن جمعت بينهما، وأردف ذلك بوصفه بهذا الوصف الجليل، أيها الصديق كل ذلك ليستميل قلب يوسف، لعله يقضي حاجته، ويحقق له المراد الذي جاء من أجله، خاصة وهو يخشى أن يكون يوسف قد استوحش منه لأنه نسيه بمجرد خروجه من السجن، نسيه بضع سنين، ونسي حاجته ووصيته، التي كان قد أوصاه بها حينما قال له: اذكرني عند ربك [يوسف:42]. فهو يتوقع الآن أن يعامله يوسف بالمثل فيعرض عنه ويعرض عن حاجته، ولكن ليس من أخلاق الأنبياء الانتقام، بل خلقهم الصبر والصفح الجميل ومقابلة السيئة بالحسنة، ألم تر أن إمامهم أمام الأنبياء وسيدهم وخاتمهم محمداً رسول الله كيف قابل الإساءة البالغة التي ألحقها به وبأصحابه قومه قريش كيف قابلها بالصفح الجميل، والعفو الجميل، وخاصة لما أمكنه الله منهم، أمكنه من رقابهم عام الفتح، فوقفوا جميعاً بين يديه أسرى، لو شاء لأعمل سيفه في رقابهم، بما اقترفوا من ذنوب وآثام، وإساءات بالغة لا يلومه أحد على ذلك، ولكنه قال لهم في ذلك الموقف الرهيب : ((أقول لكم كما قال يوسف لقومه: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [1]. وهكذا نبي الله يوسف عليه السلام قابل إساءة ذلك الساقي ساقي الملك ذلك السائل قابل إساءته بالإحسان، فقضى حاجته، وحقق له المراد الذي جاء من أجله، ففسر له تلك الرؤيا الجليلة الشأن، وقد ترتب على هذا من المصالح الشيء العظيم. كما سيأتي بيانه في تفسير الآيات التالية أن شاء الله. ومن دروس هذه الآية: وجوب الأدب مع الكبراء، وهل هناك ناس أكبر شأناً وأعظم مكاناً من الأنبياء ثم يتلوهم أتباعهم من العلماء، انظروا كيف تأدب ذلك السائل وهو بين يدي نبي الله يوسف عليه السلام، مع أنه فيما يبدو لا يقر بنبوته، ومع ذلك وصفه بذلك الوصف العظيم الجليل أيها الصديق وإن مناداته له في البداية باسمه المجرد لا يعد نقصا منه في الأدب ما دام قد أردفه بهذا الوصف الجليل. أما لو كان قد اكتفى باسمه المجرد فإنه يعد منه من سوء الأدب ولذلك لحق التوبيخ الإلهي أولئك الأعراب الذين نادوا سيدنا رسول الله محمداً باسمه المجرد فقالوا: يا محمد اخرج إلينا، فأنزل الله توبيخهم في قوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون [الحجرات:4]. وأنزل الله تعالى في تعليم هذه الأمة كيف تتأدب في مخاطبتها مع إمام الكبراء، وسيد الخلق أجمعين، قوله سبحانه: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً [النور:63]. وهكذا العلماء فإنهم ورثة الأنبياء، وهم الواسطة بيننا وبينهم، فنحن إنما نتلقى العلم، علم الوحي المنزل على الأنبياء بواسطة العلماء، فعلماء الأمة وأئمتها، علماء الأمة وأئمتها يجب توقيرهم والأدب معهم فإن هذا من علامات الإيمان، وصحة العقيدة، وكمال العقل، ولكننا في هذا الزمان الفاسد، أصبحنا نرى فيه حمى العلم نهبة يقتحمه كل من هب ودب، ولا يجدون حوله حراساً يمنعونهم ويزجرونهم، وأصبحنا نرى فيه أعراض العلماء مستباحة، سالفهم وحاضرهم، يهجم على أعراضهم من شاء كيفما شاء، ولا يلقى من يؤدبه ويضرب على يده، في هذا الزمان الفاسد وإن كنا بحمد الله نشاهد فيه صحوة إسلامية عامة، وإقبالاً من الشباب على تعلم العلم الشرعي وتعلم دين الله وسنة المصطفى غالبية الشباب والحمد لله، شباب الصحوة يتلقون العلم والأدب معاً، ولكن إلى جانب ذلك بلينا بشرذمة قليلة، بلينا بخلف لا عقول لهم، بضاعتهم مزجاة، وعقيدتهم مشوشة، قد أرسلوا ألسنتهم في أعراض العلماء، سالفهم وحاضرهم، شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بمثالب العلماء، شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بمثالب العلماء، إنهم فئة ليسوا من أهل العلم، أو هم من المبتدئين فيه، ومع ذلك سلطوا ألسنة حداداً على أئمة هذه الأمة وعلمائها، فصرنا نسمع اليوم من يطعن في أحد الأئمة الأربعة، ولا يجد من يؤدبه، أو يكفر النووي أو الشوكاني ولا يجد من يؤدبه ويضرب عليه بيد من حديد، بل أعجب من ذلك وأسوأ بلغ من هوس هؤلاء الخلوف أن بعضهم اشتغل بتجريح العلماء المعاصرين من أهل العقيدة الصحيحة الذين يعلمون الناس التوحيد، ولهم أثر جليل عظيم في تعليم الشباب التوحيد، إذ شغلوا أنفسهم واشتغلوا بإحصاء المثالب والزلات والعيوب، حتى بلغ الهوس بأحدهم وقد سمعت كلامه بنفسي في شريط أنه يحكم على بعض الناس على بعض هؤلاء العلماء بأنهم مبتدعة في بواطنهم، وإن كانوا موحدين في ظواهرهم، هذا الجاهل من جهالته وضع نفسه في مكان لم يوضع فيه حتى سيدنا رسول الله ، لم يدع حتى الرسل، فسيدنا رسول الله يقول لأصحابه: ((إنما أقضي على نحو مما أسمع)) [2] أي إنما أقضي بالظواهر أما البواطن فعلمها عند الله عز وجل، هؤلاء الخلوف أخذوا من تلك الملتين الخبيثتين أخبث ما عندهما، من الخوارج والروافض، أخذوا من الروافض شعروا أم لم يشعروا اشتغالهم بالسب والشتم واللعن وإحصاء المثالب والعيوب والتشكيك في علماء الأمة وأئمتها من الصحابة من الرعيل الأول إلى اليوم. وإن كان هؤلاء لا يشتمون الصحابة لكنهم أخذوا منهم واقتبسوا هذه الخلة وهي الاشتغال بإحصاء مثالب العلماء وعيوبهم وزلاتهم، وأخذوا من الخوارج شدتهم وغلظتهم في الذنوب والزلات إن كانت هناك ذنوب وزلات، ومسارعتهم ومبادرتهم إلى تكفير الناس وتفسيقهم وتبديعهم، والحكم عليهم بالنفاق فإن هذه خلة من خلل الخوارج وهي من أخبث الفرق التي شغبت على المسلمين وشوشت عليهم عقائدهم، وشوشت عليهم ثقتهم بأئمتهم وعلمائهم. إن هؤلاء الخلوف وقد سلطوا ألسنتهم على الأئمة والعلماء سالفهم وحاضرهم سوف يسلطون ألسنتهم على من هو دونهم فإن من اجترأ على الأعظم شأناً والأكبر مكاناً وهم العلماء، فسوف يجترئ من باب أولى على من هو دونهم وهم أئمة المسلمين وعامتهم، وإن هؤلاء الخلوف وقد سلطوا ألسنتهم الحداد وسلوها ففي الغالب سوف يسلّون سيوفهم، لقد علمتنا تجارب التاريخ بل والتاريخ القريب أن غالب من يكون شأنه وديدنه وعادته سلّ لسانه على الناس وخاصة العلماء فسوف يسلّ سيفه فهؤلاء الخلوف وقود فتنة عظيمة قادمة، إن لم يطفئها العقلاء، فسوف تأكل الأخضر واليابس، وسوف تأكل حتى أولئك الذين يرضون بسوء أدبهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا [آل عمران:147]. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10]. اللهم ارض عن أئمة هذه الأمة وعلمائها أجمعين، اللهم ارحمهم أجمعين، من فقهاء ومحدثين، وبلغاء ومفسرين، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة المتبوعين أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، اللهم اجزهم جميعاً عنا وعن أمة محمد خير الجزاء، اللهم آمين. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو عبيد في الأموال (143) مرسلاً. [2] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة [6566]. |