الطلاق الثلاث بلفظ واحد
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد:
فبناءً على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة ، المنعقدة
في شهر ربيع الثاني عام 1393هـ بحث مسألة (الطلاق الثلاث بلفظ واحد)
واستناداً إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر أو بتوصية من الهيئة ، أو من أمينها ، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة ــ فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة في ما بين 29/10/1393هـ و12/11/1393هـ في هذه الدورة جرى دراسة الموضوع.
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع (الطلاق الثلاث بلفظ واحد).
وبعد دراسة المسالة ، وتداول الرأي ، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قول من إيراد ـ توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً ؛ وذلك لأمور أهمها ما يلي:
أولاً: لقوله تعالى : )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً(
فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة ، وما كان صاحبه بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان . وهذا منتفٍ في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة ، فلم يكن طلاقاً للعدة ، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة ، إذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقاعه لغير العدة ، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة )وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(
وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً ، عصيت ربك وبانت منك امرأتك .
ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلاُ فقد ظلم نفسه ، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثاً فلا يقع من طلاقه إلا واحدة ، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المهرج واليسر ، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة، فلقد جعل الشارع على من قال قولاً منكراً لا يترتب عليه مقتضى قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة المظاهر من امرأته بكفارة الظهار، فظهر والله أعلم : أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثاً بإنفاذها عليه وسد المخرج أمامه ، حيث لم يتق الله فظلم نفسه وتعدى حدود الله .
ثانياً : ما في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاًَ فتزوجت فطلقت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال : ((لا ، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول ))، فقد ذكره البخاري رحمه الله تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثاً)، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بن وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنه طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات.
ورد الحافظ ابن حجر رحمه الله الاعتراض بأن غير رفاعة قع وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة ، فلا مانع من التعدد، فإن كلاً من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلاً منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها ، ثم قال : وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظناً منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب .
وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاوس (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة الخ …..) فإن الحال لا تخلو من أمرين : إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنه مجتمعة أو متفرقة ، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم ، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج ، وإن كانت متفرقة فلا حجة في حديث طاوس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة ، وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه .
ثالثاً : لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة ـ رحمة الله ـ حيث يقول : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً فصح مجتمعاً كسائر الأملاك والقرطبي رحمه الله حيث يقول : وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جداً، وهو أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجاً غيره ، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعاً وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقاً في النكاح والعتق والأقارير ، فلو قال الولي : أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد ظن كما لو قال : أنكحتك هذه وهذه وهذه ، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام . وغاية ما يمكن أن يتجه تعلى المطلق بالثلاث لومه على الإسراف برفع نفاذ تصرفه .
رابعاً : لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل ، استناداً إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول ، من أن : ( ثلاثاً جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة ) ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل ، حيث قال : ومن قال لا لغو في الطلاق فلا حجة معه ؛ بل عليه ؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقاًُ، وأما إذا قصد اللفظ به هازلاًُ فقد عمد قلب ذكره .
فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق بل هو من صريحة ، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقيه بلا مسوغ ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس ، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله.
خامساً: إن القول بوقوع الثلاث ثلاثاً قول أكثر أهل العلم ، فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة : ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال به الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي، وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب رحمه الله قوله : اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في معرض بحثه الأقوال في ذلك : الثاني : أنه طلاق محرم ولازم وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه اختارها أكثر أصحابه وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين .
وقال ابن القيم : واختلف الناس فيها ــ أي :في وقوع الثلاث بكلمة واحدة على أربعة مذاهب : أحدها:أنه يقع ، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة .
وقال القرطبي قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف .
وقال ابن العربي في كتابه : [ الناسخ والمنسوخ] ويقله عنه ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] : قال تعالى :)الطَّلاقُ مَرَّتَانِ( . زل قوم في آخر الزمان فقالوا إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم ، وجعلوه واحدة ، ونسبوه إلى السلف الأول ، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة ، ورننا في ذلك حديثاً ليس له أصل …. إلى رواية له عن أحد إلى أن قال : وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة.
سادساً: لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس رضي الله عنه: (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة) إلى آخر الحديث، مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه ، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي:
(أ) ما قيل من أن الحديث مضطرب سنداً ومتناً:
أما اضطراب سنده: فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ، وتارة عن أبي الجوزاء عن أبن عباس.
وأما اضطراب متنه : فإن أبا الصهباء تارة يقول : ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاُ قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، وتارة يقول: ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة.
( ب ) قد تفرد به عن ابن عباس طاوس ، وطاوس متكلم فيه من حيث راويته المناكير عن ابن عباس، قال القاضي إسماعيل عي كتابه [أحكام القرآن]: طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس، وقال ابن عبد البر : شذ طاوس في هذا الحديث، وقال ابن رجب : وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال : رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار والحجاز والسام والمغرب.
(ج) ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث شاذ من طريقين :
أحدهما : تفرد طاوس بروايته ، وأنه لم يتابع عليه ، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور : كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى طاوس ، وقال الجوز جاني : هو حديث شاذ ، وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي : وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلاُ.
الثاني : ما ذكره البيهقي ، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث ، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ويفتي بخلافه ، وقال ابن التركماني : وطاوس يقول : إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل أعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم.
فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، فقد قال للأثرم وابن منصور: بأنه رفض حديث ابن عباس قصداًُ ؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد، لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمداً لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد ، ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك .
(د) أن حديث ابن عباس يتحدّث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف ، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق أحادي عن ابن عباس فقط ، ولم يروها عن ابن عباس غير طاس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير، ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصل من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته ، فقد قال احب [ جمع الجوامع] عطفاً على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر: والمنقول آحاداً فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافاً للرافضة.
وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي :إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في كاذب قطعاً خلافاً للشيعة.
فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ،من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافراً لا يمكن إنكاره ، ولاشك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس ، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين : إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد ، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد ، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحاداً مع توفر الدواعي لنقله .
(هـ) ما عليه ابن عباس رضي الله عنه من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها ، يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر رضي الله عنه من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وصدر من خلافة عمر من أنه يجعل واحدة .
فلا يخفي خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه ، وإلى قوته رضي الله عنه في الصدع بكلمة الحق التي يراها ، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال
رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر.
(و) على فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء تمام عليه الحال المعتبرة شرعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ,أبي بكر وصدر من خلافة عمر ــ يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث في ذلك العهد، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد ، ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا ً منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه.
(ز) ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس ؛ لأنهم قد استعجلوا أمراُ كان لهم فيه أناة. وهذا مشكل ، ووجه الإشكال : كيف يقرر عمر رضي الله عنه ـ وهو هو تقاً وصلاحاً وعلماً وفقهاً ـ بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها ، وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام ، ونعني بالطرف الآخر : الزوجات ، حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث ، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج ، وحقوق الرجعة ، مما يدل على أن حديث طاوس عن ابن عباس فيه نظر.
وأما المشائخ : عبد العزيز بن باز ، وعبد الرزاق عفيفي , وعبد الله خياط ، وراشد بن خنين ، ومحمد بن جبير فقد اختاروا القول بوقوع الثلاث واحدة ، ولهم وجهة نظر مرفقة ، وأما الشيخ صالح بن لحيدان فقد أبدى التوقف.
وبالله التوفيق ، وصلى الله على محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء (2)
2- وجهة نظر المخالـفين
نرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة ، وقد سبقنا يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة ، وقد سبقنا إلى القول بهذا ابن عباس في رواية صحيحة ثابتة عنه، وأفتى به: الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود من الصحابة في رواية عنهم، أفتى به : عكرمة ، وطاوس وغيرهما من التابعين ، وأفتى به ممن تعدهم : محمد بن إسحاق ، وهلاس بن عمرو ، والحارث العكلي ، والمجد بن تيميه ، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيميه ، وتلميذه شمس الدين ابن القيم وغيرهم.
وقد استدل على ذلك بما يأتي :
الدليل الأول : قوله تعالى:)الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ(
وبيانه : أن الطلاق الذي شرع للزوج فيه الخيار بين أن يسترجع زوجته أو يتركها بلا رجعة حتى تنقضي عدتها فتبين منه مرتان : مرة بعد مرة ، سواء طلق عي كل مرة منهما طلقة أو ثلاثاً مجموعة ؛لأن الله تعالى قال :)مَرَّتَان(ِ : ولم يقل طلقتان ، ثم قال تعالى في الآية التي تليها : )فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ(
فحكم بـن زوجته تحرم عليه بتطليقه إياها المرة الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره، سواء نطق في المرة الثالثة بطلقة واحدة أم بثلاث مجموعة ، فدل على أن الطلاق شرع مفرقاً على ثلاث مرات ، فإذا نطق بثلاث في لفظ واحد كان مرة وعتبر واحدة.
الدليل الثاني : ما رواه مسلم في [صحيحه] من طريق طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال :كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه : (إن الناس قد استعجلوا فيأمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه عليهم .
وفي [ صحيح مسلم ] أيضاً عن طاوس عن ابن عباس : أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبي بكر واحدة ؟َ! قال : (قد كان بذلك ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم ).
فهذا الحديث واضح الدلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد، طلقة واحدة على أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر سنتين من خلافة عمر؛ ولأن عمر علل إمضاءه ثلاثاً بقوله :(إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) ولم يدع النسخ ولم يعلل الإمضاء به ، ولا بظهوره بعد خفائه؛ ولأن عمر استشار الصحابة في إمضائه ثلاثاً، وما كان عمر ليستشير أصحابه في العدول عن العمل بحديث علم أو تظهر له أنه منسوخ.
وما أجيب به عن حديث ابن عباس فهو : إما تأويل متكلف ، وحمل للفظه على خلاف ظاهره بلا دليل ، وإما طعن فيه بالشذوذ والاضطراب وضعف طاوس ، وهذا مردود بأن مسلماً رواه في [صحيحه] وقد اشترط ألا يروي في كتابه إلا الصحيح من الأحاديث ، ثم إ، الطاعنين فيه قد احتجوا بقول عمر في آخره: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) ، فأمضاه عليهم ، فكيف يكون آخره حجة مقبولة ويكون صدره مردوداً لاضطرابه وضعف راويه ؟
وأبعد من هذا ما ادعاه بعضهم من أن العمل كان جارياً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الطلاق الثلاث واحدة لكنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك ، إذ كيف تصح هذه الدعوى والقرآن ينزل والوحي مستمر ، وكيف يعتذر عمر في عدوله عن ذلك إلى إمضائه عليهم بما ذكر في الحديث من استعجال الناس في أمر كانت لهم فيه أناة.
ومن الأمور الواهية التي حاولوا بها رد الحديث معارضته بفتوى ابن عباس على خلافه ، ومن المعلوم عند علماء الحديث وجمهور الفقهاء أن العبرة بما رواه الراوي متى صحت الرواية ، لا برأيه وفتواه بخلافه لأمور كثرة استندوا إليها في ذلك ، وجمهور من يقول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر ثلاثاً يقولون بهذه القاعدة ، ويبنون عليها الكثير من الفروع الفقهية وقد عارضوا الحديث أيضاً بما ادعوه من الإجماع على خلافه بعد سنتين من خلافة عمر رضي الله عنه مع العلم لأنه قد ثبت الخلاف في اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً ، واعتباره واحدة بين السلف والخلف ، واستمر إلى يومنا ، ولا يصح الاستدلال على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً بحديث عائشة رضي الله تعالى تعنه في تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة رفاعة القرظي عليه حتى تنكح زوداً غيره لتطليقه إياها ثلاثاً ؛ لأنه ثبت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، كما رواه مسلم في [صحيحه] فكان الطلاق مفرقاً ، ولم يثبت أن رفاعة بن وهب النضري جرى له مع زوجته مصل ما جرى لرفاعة القرظي حتى يقال بتعدد القصة ، وأن إحداهما كان الطلاق فيها ثلاثة مجموعة ولم يحكم ابن حجر بتعدد القصة بل فال : إن كان محفوظاً _ يعني حديث رفاعة النضري _ فالواضح تعدد القصة ، واستشكل ابن حجر تعدد القصة في كتابه [ الإصابة] حيث قال : لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير.
الدليل الثالث: ما رواه الإمام أحمد في [ مسنده ] ، قال : حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : طلق ركانة بن عبد يزيد ــ أخو بني المطلب ــ امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليه حزناُ شديداً ، قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كيف طلقتها )) ، قال : طلقتها ثلاثاً قال؛ فقال : (( في مجلس واحد )) قال : نعم ، فقال : (( فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت )) ، قال : فراجعها ، قال : فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر.
قال ابن القيم في كتابه [إعلام الموقعين] : وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه) ، وضعف أحمد وأبو عبيد والبخاري ما روي من أن ركانة طلق زوجته بلفظ _ البتة.
الدليل الرابع : بالإجماع ، وبينه ابن تيميه وابن القيم وغيرهما بأن الأمر لم يزل على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة في عهد أبي بكر وسنتين ، أن ثلاث من خلافة عمر ، وأن ما روي عن الصحابة من الفتوى بخلاف ذلك فإنما كان من بعضهم بعد ما أمضاه عمر ثلاثاً تعزيراً وعقوبة ، لما استعجلوا أمراً كان لهم فيه أناة ، ولم يرد عمر بإمضاء الثلاث أن يجعل ذلك شرعاً كلياً مستمراً ، وإنما أراد أن يلزم به ما دامت الدواعي التي دعت إليه قائمة ، كما هو الشأن في الفتاوى التي تتغير بتغير الظروف والأحوال ، وللإمام أن يعزر الرعية عند إساءة التصرف في الأمور التي لهم فيه الخيار بين الفعل والترك بقصرهم على بعضها ومنعهم من غيره ، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا من زوجاتهم مدة من الزمن عقوبة لهم على تخلفهم عن غزوة تبوك مع أن زوجاتهم لم يسئن ، وكالزيادة في عقوبة شرب الخمر ، وتحديد الأسعار عند استغلال التجار مثلاً للظروف وتواطئهم على رفع الأسعار دون مسوغ شرعي إقامة للعدل ، وفي معنى هذا تنظيم المرور ، فإنه فيه منع الناس من المرور في طرق قد كان مباحاً لهم السير فيها من قبل ؛ محافظة على النفوس والأموال ، وتيسيراً للسير مع أمن وسلام.
والدليل الخامس : قياس الطلاق الثلاث على شهادات اللعان ، قالوا : كمنا لا يعتبر قول الزوج في اللعان : أشهد بالله أربع شهادات أني رأيتها تزني إلا شهادة واحدة لا أربعاً ، فكذا لو قال لزوجته : أنتِ طالق ثلاثاً لا يعتبر إلى طلقة واحدة لا ثلاثاً ، ولو قال : أقر بالزنا أربعاً مكتفياً بذكر اسم العدد عن تكرار الإقرار لم يعتبر إلا واحدة عند من اعتبر التكرار في الإقرار، فكذا لو قال لزوجته : أنت طالق ثلاثاً مكتفياً باسم العدد عن تكرار الطلاق لم يعتبر إلا واحدة ، وهكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول لا يكتفي فيه عن التكرار ذكر اسم العدد كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات المكتوبة .
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وسلم.
حرر في 12/11/1393هـ
عبد العزيز بن باز عبد الرزاق عفيفي عبد الله خياط راشد بن خنين محمد بن جبير