أيها الإخوة: ستكون خطبتنا اليوم عن أفضل رجلين في هذه الأمة، أفضل رجلين بعد النبي صلى الله عليه وسلم .. الأول عبد الله بن عثمان، أبو بكر الصديق .. عتيق رضي الله عنه، والثاني الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنني أعلم عدم استطاعتي أن أفي الرجلين حقهما في الوصف وذكر المناقب في خطبة واحدة، ولكن هي وقفات نقفها عند بعض صفاتهما ومناقبهما لنتعرف خلالها على تاريخ رجلين من سلفنا الصالح وسيرتهما المضيئة التي هي امتداد لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتي أُمرنا بالسير عليها والاهتداء بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)). فأبو بكر أسلم دون تردد، وصّدق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به دون ريبــة أوشــك، لقد قـال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: ((ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له عنده كبوة وتردد غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم)). لقد كان رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وصاحبه في الهجرة .. دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه حينما آذاه كفار قريش عند الكعبة وقال لهم: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)، فضربوه حتى أدموا وجهه، وأغمي عليه رضي الله عنه عند الكعبة فنقــل إلى بيته، فـأول مـا أفاق سأل عن رسول الله فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم اطمأن وهان عليه ما لاقاه مادام رسول الله سالماً. كـان أبو بكر أبيض نحيفاً، لا يستمسك إزاره في حقويه، معروق الوجه ناتيء الجبهة أكحل العينين سابل اللحية واضح الثنايا أحمش الساقين. يضرب شعره شحمة أذنيه، هيناً ليناً متواضعاً كريماً تعرف فيه الخير حين تراه. وكان أبو بكر رضي الله عنه معروفاً بالتجارة، لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أربعون ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين حتى قدم المدينة بـ (5000) درهم ففعل فيها مثلما كان يفعل بمكة. وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أرحم أمته بأمته، وأنه أحب الرجال إليه حيث سأله عمرو بن العاص فقال: قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)) قلت: إنما أعني من الرجال قال: ((أبوها)). شهد أبو بكر رضي الله عنه بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها، وكانت معه الراية يوم تبوك، وكان فيمن ثبت يوم أحد مع رسول الله، وحج بالناس في السنة الـ 9 هـ. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فقدمنا أبا بكر). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لأحدٍ عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله)). أي يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمان، والخلة أعلى درجات المحبة. أما الفاروق رضي الله عنه، لقد كان إسلامه فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة، كما قال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي...) أي كفار قريش. والقتال هنا، المضاربة باليد، لأن الجهاد لم يؤذن به إلا بعد الهجرة. لقد أعلن عمر رضي الله عنه إسلامه وجهر به وازداد المسلمون عزه وقوة بإسلامه. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)). وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً عن عمر رضي الله عنه: ((كان فيما خلا قبلكم من الأمة ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب)). والمحدث هو الملهم وهي منزلة جليلة من منازل الأولياء. وقد قيل عنه رضي الله عنه: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال عمر: إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر. وقد وافق القرآن قول عمر رضي الله عنه في عدة مواقف منها ما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحجب زوجاته أمهات المؤمنين فنزل الأمر بالحجاب، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما طاف بالكعبة في العمرة: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . وحينما هجر النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته قـال عمر: (عسى ربُّه إن طلقكن أن يبدلهُ أزواجاً خيراً منكن)، فنزل القــرآن بمثل ما قال، وكذلك في قصة الصلاة على المنافقين وقصة أسارى بدر وغيرها كثير، وقيل أنها تصل إلى خمسة عشر موقعاً وافق فيها القرآن قول عمر رضي الله عنه. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل عمر وعلمه حيث قال: ((رأيت كأني أوتيت بقدح لبن، فشربت منه، فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب)) قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: ((العلم)). قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو وضع علم أحياء العرب في كفة ووضع علم عمر في كفه لرجح به علم عمر). عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره))، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) رواه مسلم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر دائماً أبا بكر وعمر، وكثيراً ما يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، آمنت به أنا وأبو بكر وعمر، كما حدث في قصة البقرة التي تكلمت، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقال: إني لم أخلق لهذا، ولكن إنما خلقت للحرث)) فقال الناس: سبحان الله تعجباً وفزعاً: أبقرة تتكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر)) ولم يكونا موجودين في تلك اللحظة. وصعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين على جبل أحد فارتج الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)). أيها الإخوة: إن التنافس على الخير والمسابقة على فعل الطاعات هو دأب سلفنا الصالح، فهذان الخيران الجليلان كانا يتسابقان على فعل الخير، ويتنافسان على فعل المعروف، فكان السبق والفوز من حظ أبي بكر رضي الله عنه. عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله قلت لا أسبقه إلى شيء أبداً. وهذا اعتراف من عمر أنه لا يستطيع التقدم على أبي بكر في معروف .. وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء. عن حذيفة رضي الله عنه قال :كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لست أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - واهتدوا بهدي عمـار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد)) أي عبد الله بن مسعود. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع أبو بكر وعمر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)). هذان الشخصان هما قدوتنا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وسيرتهما شرف لنا نستضيء بها في حياتنا، وباتباعها نفقه ونتعلم المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته، وبالسير على نهجهما تكون النجاة من الوقوع في البدع والمحدثات، وبالاقتداء بهما في فهمهما للقرآن والسنة نسلم من التأويلات الفاسدة ونسلم من فهم أهل الأهواء السقيم وتغليطاتهم الرديئة. هذان اللذان كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمعت الأمة على فضلهما على جميع الخلائق بعد الأنبياء، أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة والآل ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم. أسأل الله العلي العظيم أن يجمعنـا بهم مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مستقر رحمته وأن يملأ قلوبنا بحبهم، وإننا نقول ما قاله الله تعالى: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . |