أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس، اتقوا ربكم الذي يعلم السرّ والنجوى، وكفى به بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. إن العبد في الدنيا بين مَخَافَتَيْن: بين أَجَلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العاقل من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الفراغ قبل الشُّغل، فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من حِيلة، وما بعد الدنيا إلا الجنة أو النار. وبعد: أيها المسلمون، تتقَلّب أحوال الإنسان في هذه الدنيا بين صحّة ومرض وشُغل وفراغ وتعب واسْتِرْوَاح وجِدّ وفُتُور، وقد أحدث الفراغَ هذه الأيام انتهاءُ العام الدراسي، وتوافُقُ كثير من الناس على أخذ إجازاتهم السنوية في فصل الصيف، ولم يكن هذا مُشتِهرًا في الماضي، بل هو ممّا أفْرَزَته المدَنِيّة الحديثة، والتي تستهلك الإنسان كالآلة طوال العام في كَدّ وكدح ولَهَاث وراء الدنيا، في بُعْدٍ عن غذاء الروح من الإيمان، والذي هو اسْتِرْوَاحٌ للأبدان وراحة للقلوب والنفوس، وسرت عدوى الإجازات حتى أصبحت سِمَة للصيف في كل العالم. وانطلاقًا من واقعية الإسلام وشموليّته وتوازن أحكامه واعتدال تشريعاته فقد أقَرّ بحق النفس والبدن في أخذ نصيبهما من الراحة والاستجمام، وقد قال النبي : ((إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لِزَوْرِك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقَّه)) رواه البخاري ومسلم [1]. والنفس قد تَسْأم من طول الجدّ، والقلوب تتعب كالبدن، وقد قال علي : (رَوّحوا القلوب ساعة وساعة؛ فإن القلب إذا أُكرِه عمي) [2]. إلا أن هذا الترويح لا يخرج عن دائرة المباح، وقد ثبت أن النبي كان يُمازِحُ ويُداعِبُ ولا يقول إلا حقًّا [3]، وقد سابق عائشة رضي الله عنها [4]، وداعَبَ الصبيان، وحثّ على مُلاعَبة الزوجة، وأقَرَّ الحَبَشَةَ في لعبهم بالحِرَاب [5]، وقال: ((ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا)) [6]. وهذه بعض الجوانب المباحة من اللهو المباح والترفيه الذي لا يستهلك كلَّ الوقت، ولا يكون دَيْدَنَ الإنسان، ولا يخرج عن طَوْقِ المباح. إنّ إدخال السرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطها من الأمور المعتبرة في الشرع. واللهو المباح في الإسلام هو ما لا يخالف قواعده ولا شريعته، فلا يكون محرّمًا أو ذريعة لمحرّم، ولا يصدّ عن واجب. عباد الله، وإذا كانت الإجازات أمرًا واقعًا فإن المسلم الواعي لا ينبغي أن يغفل عن أمرين مهمّين: الأول منهما: أن وقت الإجازة جزء من عمره، وأن الوقت هو الحياة، والإجازة لا تعني الفراغ والبَطَالة، ومُؤدّى ذلك هو الأمر الثاني: أن التكاليف الشرعية لم تسقط عنه، فالإنسان مطالب باستفراغ وقته كله في عبادة الله تعالى، وهي الغاية التي خُلِقَ لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذرايات:56]. ولا يعني هذا ملء جميع الأوقات بالصلاة والصيام والجهاد بلا فُتُور ولا توقّف، بل المقصود أنه لا يخرج عن طاعة ربه في أي حال من الأحوال، ولا يخرج عن تكليف، فهو مأمور ومَنْهِيّ، ولا يوجد وقت يكون فيه خارجًا عن التكليف يتصرف كيف يشاء، فهو دائر بين الواجبات والسُّنن والمباحات، وهو في أقلّ الأحوال مُكَلَّف بالابتعاد عن منطقة الحرام مهما كان نائيًا أو مُسترِخيًا. إن الإجازة ليست وقتًا مُقْتَطَعًا على هامش الحياة، بل هي جزء من العمر الذي لا يملكه الإنسان، بل يملكه الله الذي خلقه ليوظّفه الإنسان في طاعة مولاه؛ لذلك حَرُم عليه أن يُهلِك عمره ووقته بأي صورة ولأي سبب، وقد قال الحق سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29، 30]، مع أن المُنتحِر لم يقتل سوى عمره ووقته، وهذا يفسّر مسؤولية الإنسان عن عمره أمام خالقه، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح أن النبي قال: ((لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)) [7]. والأسفار جزء من الأعمار، وكلٌّ مسؤول ومحاسَب عن ساعات عمره فيما أمضاها، وبناء عليه ندرك أن المفهوم الشرعي للوقت لا يجعل للإنسان الحق في إضاعة وقته، وندرك أيضًا عظمة الوقت بإقسام الله تعالى به وبأجزائه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]. وحين أقسم الله تعالى بالليل إذا يَغْشَى، والنهار إذا تَجَلّى، ونَوْعَي الخلق من الذكر والأنثى قال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وحين أقسم بالشمس وضُحَاها، والقمر والنهار والليل والنّفْس قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]، في إشارة من هذه الآيات إلى أن الوقت مادة الحياة، وأن سعي الناس فيها مختلف، فمنهم من يُزكّي نفسه ويُنَمّيها بالخير، ومنهم من يُهْبِطُها في أسفل الدّرَكات بتفريطه وعصيانه. أيها المسلمون، إن العاقل من تفكّر في أمره، ورأى أن تصرّم أيامه مؤذن بقرب رحيله طال عمره أم قصر، فاحتاط لأمره، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ما الوقت إلا حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردّد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدّد، الوقت ثمين ونفيس، وما مضى منه فلن يعود، ولا الزمان بما مضى منه يجود. فهلاّ تنبّهنا لأعمارنا، فكم من غافل يبيع أغلى ما يملك وهو الوقت بأبخس الأثمان! فالوقت مُنْصرِمٌ بنفسه، مُنقضٍ بذاته، ومن غفل عن تداركه تَصَرّمت أيامه وأوقاته، وعظُمَت حسراته، ينقضي العمر بما فيه فلا يعود إلا أثره، فاختر لنفسك ما يعود عليك، ولهذا يقال للسعداء: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذّبين: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [غافر:75، 76]. وللإنسان يومان يندم فيهما على ما ضَيّع من أوقاته، ويطلب الإمهال: فالأول في ساعة الاحتضار، وذلك حين يقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، فيكون الجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]. والوقت الثاني والموقف الثاني في الآخرة حين يدخل أهلُ النارِ النارَ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، فيكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]. أيها المسلمون، إن الحفاظ على الأوقات واستثمار الأعمار يحتاج إلى حزم وعزم وهمّة وقوّة إرادة، أما البَطَالة والكسل فهي داء وَبِيل ومرض خطير تنعكس آثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات، ويسبّب الخمول والفقر والتخلّف المادّي والمعنوي، ويؤدّي إلى الرذائل والمنكرات، وإن يكن الشُّغل مَشْهَدةٌ فإن الفراغ مَفْسَدَةٌ، ومَن أكثر الرُّقَاد عُدِم المُرَاد، ومن دام كسله خاب أمله، وقل لمن يلتمس الملاهي لصرف وقته: أراك تحسب الحياة لهوًا، فهل تحسب الموت لهوًا؟! وقل لمن يصْرف الأيام بين الأوهام والأحلام: إن كنت تجهل مقدار ما تضيّع من الزمن فقف بالقبور مُلتَمِسًا من سُكّانها بُرْهةً من الوقت؛ لتعلم أنه العزيز الذي لا يُمْلَك، والفائت الذي لا يُستدرَك؟! وكم من قائل: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، فيُقال: كلا؛ إن العمر لا يعود! إن الفراغ لا يبقى فراغًا أبدًا، فلابد أن يُملأ بخير أو شرّ، ومن لم يشغل نفسه بالخير شغلته بالباطل. وقد كان السلف يكرهون من الرجل أن يكون فارغًا لا هو في أمر دينه ولا هو في أمر دنياه. وإذا اجتمع مع الفراغ صحة ومال صار خطرًا إن لم يُشغَل بالخير، وفي صحيح البخاري أن النبي قال: ((نعمتان مْغُبُون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [8]. عباد الله، إذا لم يكن للمرء غرض صحيح يسعى إليه، وهدف سليم يطلب تحقيقه والوصول إليه؛ ضاع زمانُه، وما أتعب من يمشي بلا مقصد! والإنسان بلا غَرَضٍ كسفينة ليس لها قائد تتقاذفها الأمواج حتى تهلك، والأيام صحائف الأعمال، فخَلّدوها بأحسن الأعمال، والفرص تمرّ مَرّ السحاب، والتَّواني من أخلاق الخَوالِف، ومن استَوَطَأ مَرْكب العَجْز عَثَر به، وإذا اجتمع التَّسْوِيفُ والكسل تولّد بينهما الخُسران. بكى أحد الصالحين عند موته فقيل: ما يبكيك وأنت العبد الصالح؟! قال: أبكي على يومٍ لم أصمه، وليلة لم أقمها. والواقع أن كل من دنا أجله ندم على كل لحظة مرّت بلا عمل صالح محسنًا كان أم مقصّرًا. فهلاّ تداركنا أعمارنا. إنك لترى في القرون الأولى خير قرون حرصًا شديدًا على أوقاتهم فاق حرص البخيل على ديناره ودرهمه، مما كان حصاده علمًا نافعًا وعملاً صالحًا وجهادًا وفتحًا وعِزًّا وحضارة راسخة الجذور باسِقَة الفروع، ثم إذا نظرت إلى واقع كثير من المسلمين اليوم انقلب إليك البصرُ حَسِيرًا، حين ترى إضاعة الأوقات وتَبذِير الأعمار جاوز حَدّ السَّفَه إلى العَتَه، حتى غدوا في ذيل القافِلة بعد أن كانوا آخذي زمامها. وبعد: أيها المسلمون، من بُورِك له في عمره أدرك في يسير الزمن مِن مِنَن الله تعالى ما لا يُحصَى، وكم من موفّق لأعمال كثيرة في أزمنة يسيره، حتى إنك لتحسب إنجازاتهم ضربًا من الخوارق، وما هو إلا التوفيق والبركة واستثمار الوقت فيما ينفع، وخير مثال لذلك رسول الله الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وغَيّر وجه التاريخ في ثلاث وعشرين سنة. وهذا عمر بن الخطاب يواصل ليله بنهاره يقول: (إن نمت الليل ضيّعت نفسي، وإن نمت النهار ضيّعت رَعِيّتي) [9]، فكيف النوم بين هذين! وقال ابن عَقِيل رحمه الله: "إني لا يحلّ لي أن أضيّع ساعة من عمري، حتى إذا توقّف لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة؛ أعملت فكري في حال راحتي وأنا مُسْتطرِح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطّره"، لذا فقد ألّف كتابه الفُنُون الذي قال عنه الذهبي رحمه الله: "لم يُؤلَّف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب". وقال ابن القيّم عن شيخه: "وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرً عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة"، وقال الذهبي: "إن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلّدة"، هذا مع ما يقوم به من تعليم ودعوة وجهاد، وعند الترمذي بسند حسن أن النبي قال: ((من خاف أَدْلَجَ، ومن أَدْلَجَ بلغ المَنْزِل، ألا إنّ سِلْعَة الله غالية، ألا إنّ سِلْعَة الله الجنة)) [10]. بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. [2] أخرجه بنحوه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (68). [3] أخرج أحمد (2/340)، والبخاري في الأدب المفرد (265)، والترمذي في البِرّ (1990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، إنك تُداعِبُنا! قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا))، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (1621). [4] أخرجه أحمد (6/264)، وأبو داود في الجهاد (2578)، وابن ماجه في النكاح (1979)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأورده الألباني في صحيح أبي داود (2248). [5] أخرجه البخاري في الجهاد (2901)، ومسلم في صلاة العيدين (893) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [6] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2899) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. [7] سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة (2417) ، وأخرجه أيضًا الدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946). [8] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [9] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/273). [10] أخرجه الترمذي في الزهد (2450)، وعبد بن حميد (1460) من طريق يزيد بن سنان التميمي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر"، وصححه الحاكم (4/343)، لكن تُعقِّب، فإن يزيد بن سنان ضعيف، وبكير بن فيروز مقبول، قال ابن طاهر ـ كما في فيض القدير (6/123) ـ: "الحديث لا يصح مسندًا، وإنما هو من كلام أبي ذر".غير أن للحديث شاهدًا يتقوّى به، ولذا أورده الألباني في الصحيحة (2335). |