أما بعد: فيا عباد الله، خيرُ ما يوصُىَ به ويُستزاد لكل رائح وغاد، وأزكى ما يُدّخر ليوم المعاد، تقوى الإله في الغيب والإشهاد، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ لِمَا حَبَاكم من الإيجاد والإعداد والإمداد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. أيها المسلمون، عُرُوج الأُممِ في مَدَارات الحضارة والارتقاء، وسَبْقُها في ميادين الفوز والنَّمَاء، وبلوغِ شَأْوِها في أَمْدَاء البُلَهْنِيّة والهناء؛ قرين اهتمامها بجوهر مكنون من جواهر الإسعاد والقيادة، ومِسَاكٍ مَكِينٍ من أُسُس الرِّيادة والسيادة، ألا وهو اغتنام الأوقات بالصالحات، واهْتِبَالُها في الخيرات والطاعات وإنماء المجتمعات. أجل، فالأعمار مَكْنَزُ الأعمال لدى الأخيار، وأحزمُ الناس وأَكْيَسُهم من اقْتَطَفَ أيامَه ولياليَه في جَلْبِ المصالح والخُيُور، ودَرْء المفاسد والشرور عن نفسه ومجتمعه وأمته. فكل دقيقة تمضي سُدَى إنما هي فرصةٌ فائتةٌ وشِيمَةٌ مائتةٌ لا تُسْتَعَاض ولا تُسْتَرد، ورسالتنا في الحياة ـ إخوةَ الإيمان ـ أسمى من أن يُجَازَف بسُوَيْعَاتها وثوانيها، بَلْهَ أيامها ولياليها. إخوة الإسلام، منذ أيام سَوَالِف أرخى ليلُ العام الدراسي سُدُولَه، وتَنَفَّسَ صُبْحُ الإجازة عن أَشْذَائه العَبِقَة وأيامه الغَدِقَة، وزَّيّنَت العطلةُ الصيفية بحُلَلِها وحُلاهَا، واخْضَوْضَرَت سهولُها ورُباها لتُصَافح المجتهدين، وتُهنّئ المتفوّقين من أبنائنا الطلاب وفتياتنا الطالبات، الذين يُهَيَّؤون ـ بإذن الله ـ لمواصلة مسيرة التحصيل والجِدّ والعَلاء، تحت هاتِيكَ الرّاية وذَيَّاكَ اللواء. بلغنا السماءَ مجْدُنا وجُدُودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مَظْهَرًا لا كالذي ما إن كَحَّل بالشهادة عينيه، وأطبق على زُخْرِفها بيديه، حتى هَجَر العلم والمَحَابِر، وطَوَى الأقلام والدفاتر، وانطلقت أفْرَاسُه في أَعِنّة العَبَث والبَطَالة واللهو والعَطَالَة، جاعلاً الليل سَهَرًا وإعْنَاسًا، والنهارَ نومًا وسُبَاتًا، يُمَزّق الزمانَ النفيسَ باللهو والعصيان، وفَرْيِ الأعراض بالأباطيل والهَذَيَان، يمتطي صَهْوةَ الفضائيات، ويَتَسَمَّر أمام شبكات المعلومات، ويقضي على شريف الدقائق بالتفَنُّن في ضروب الملاهي والبوائق؛ طوعًا لنَزَغَات الشباب، وخضوعًا لسلطان الفراغ ـ بظنّه ـ. كلا عباد الله، إن المسلم الحَصِيف الواعي يخوض غِمَارَ الحياة عمومًا، والإجازة الصيفية خصوصًا، وسلاحه استقامته وصلاحه، ساعِدُهُ ساعِدُهُ، وسِنَادُهُ زِنَادُهُ، وكِنَانَتُهُ جِدُّهُ وسعيهُ وأمانتهُ، وما الأعمار إلا أمانة جُلاّ في أَطْوَاقِنا. وهل يصحّ في الأذهان ـ أيها التربويّون والمعنيّون بقضايا الجيل ـ أن يبقى أبناؤنا الطلاب وأحبتنا الشباب مدة الإجازة التي تُناهِزُ ثلث السنة دون سعي أو عمل أو نشاط أو أَمَل، وقد عُلِمَ وتَقَرّر أن الحياة السهلة الرَّخِيّة التي يَكْتَنِفُها القُعُودُ والهُمُودُ والتواني والجُمُودُ لا تُفْرِزَ ـ غالبًا ـ إلا الترَهُّلَ الفكري والجسدي لدى مُعَايِشِها، ولا يَتَرَقَّى الإنسانُ في سُلّم الأمجاد إلا في مُرَاغَمَةٍ للصعوبات والشدائد، إذ هي مِسْبَارُ القوة والفُتُوّة. وإذا كان ذلك كذلك ـ يا رعاكم الله ـ فإنه يجب تعويد الشباب والأبناء على تحمّل التَّبِعَات، وحبّ المسؤولية في استقلالية مَرْعِيّة دون انهزاميّة أو اتِّكَالِيّة. وإنما رجلُ الدنيا وواحدُهـا من لا يُعَوِّلُ في الدنيا على رجلِ فالخمول والتواكل يُغلِقان أبواب الخير والسموّ في وجوه الطالبين، والعجز والتراخي يطمسان معالم الهداية والرشاد عن أنظار السائرين، ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إني أعوذ بك من العَجْزِ والكسل والجُبْنِ والبخل)) رواه مسلم في صحيحه [1]. ومن رَقِيم الحِكَم: "من اسْتَوْطَأَ الراحةَ ما ملأ الراحَة"، يُقابِل ذلك: "بقدر ما تَتَعَنَّى تَنال ما تَتَمَنَّى"، ومن استعصم بالله ثقة به وتوكّلاً عليه، وَوَطَّنَ نفسه على الصِّعاب، هانت عليه مكابدة الصِّلاب، فلا الحَرّ يُقْعِدُه، ولا القلقُ يُثَبِّطُه، ولا اليأسُ عن مراده يَعْطِفُه، وألفَى كلَّ شيء أمامه باسمًا مَيسورًا، وافْتَرَعَ ـ بإذن الله ـ سُدَّةَ الشرف العالي، ومن صَدَقَ إلى الله فِرارُه حَسُن من الله قَرَارُه، والنبي يقول: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز)) خَرّجه مسلم في الصحيح [2]. ما اعْتَنَّ لي يأسٌ يُناجِي هِمّتي إلا تَحَـدّاه رجـائي فاكْتَمَى أمة الإسلام، وفي نفوذ الشباب إلى ساحات المسؤوليات وتحقيق الذات والطموحات زمن الإجازات وجه من وجوه الإسلام المُشرِقة الذي اكْتَنَزَ الجِدّية الوَثَّابَة والمُثَابَرَة المُتَّقِدَة والنشاط الفَيّاض والسعي الدَّؤوب الدَّفَّاق؛ لحفظ أشرف الأوقات، وبلوغ أعلى الكَمَالات، مشاركة في إعزاز الأمة، واستئناف سُؤْدَدِها، وصَدّ التيارات الفاسدة والمبادئ الهدّامة دونها، مما قد يَتَسَلّل إليها لِوَاذًا، فَعِياذًا بالله عِيَاذًا. ومن المُتَقَرّر أن الجَدّ في الجِدّ، والحِرْمَان في الكسل، ومن نَصَبَ أصاب عما قريب غاية الأمل. إخوة الإيمان، ومن اللّمَحَات اللمَّاحَات في استثمار الإجازات ما يُعقَدُ من آمال عِرَاض على العلماء والدعاة ورجال الحِسْبَة ورُوّاد الفِكر وحَمَلة الأقلام ورجال الإعلام، في الدُّلُوف بالبنين والبنات إلى تنمية عقولهم، وتقويم سِيَرهم، وتهذيب أرواحهم في رشاد، وإرْهَاف عواطفهم وأخلاقهم في سَدَاد، عبر الوسائل الإعلامية والدعوية والمراكز الصيفية والدروس العلمية واللقاءات التربوية، ويُخَصّ بالذِّكْرِ أشرف الذِّكْرِ القرآن الكريم، وما يجب من إيلائه العناية الفائقة، وسقي النشء والشباب من مَوْرِدِه السَّلْسَال حفظًا وتلاوةً واهتداءً ومُدارَسةً وتدبّرًا واقتداءً، خصوصًا والأمة تتعرّض لهجمات سَبْعِيّة حمراء على عِرْضِها وأرضها ومقدّساتها ومُقدّراتها، وبِأَخَرَةٍ أقدس مقدّساتها وسِرّ بقائها، في مُحَاذَرَة وَوَجَل من مسالك الغلوّ والإجرام وسفك الدم الحرام، خاصّة في البلد الحرام، وتبصير الشباب بمنهج الإسلام الوسطي المعتدل، وبذل النُّصْحِ والتوجيه المستمرّ لهم في رسم أهدافهم وتحديد أولوياتهم، واحتواء ردود أفعالهم، بالحكمة والحوار والحُسْنَى، واستثمار أوقاتهم بطرق فَذّة مُثْلَى، مع التأكيد على بذل الحوافز والمُشَجّعات في مختلف المجالات والمسابقات للنابهين والنابهات، إذ ثَمَّةَ الإكْسِيرُ الذي يحقّق كثيرًا من الآمال فيهم، ويَحُضّهم على التنافس النزيه المبدع، وفي ذلك فلْيَتَنَافسِ المُتنافِسُون. معاشر المسلمين، وحين نُعرّج إلى مَضارِب الحديث عن الأعمال والمهارات التي يَحْسُن أن يُتقنها الشباب، ويتولاّها الجيل إعدادًا للمستقبل ونهوضًا بالحسّ المهني لديهم، فإن القول يُدَار على أنّ مُقوِّمات الأمّة وأُسُس نهضتها ما هي إلا بانصراف وُجَهائها ورجال أعمالها ورؤوس أموالها إلى تَوْفِيَة المصالح العامة حقّها، وإيثارها على المصالح الخاصة، وسَدّ كل ثُلْمَة من الحاجات التَّنْمَوِيّة، لحاقًا بركاب الحضارة والمَدَنِيّة، وفي طليعة ذلك يُهِيبُ الغَيورون بتوفير مزيد من فرص العمل الشريف لشبابنا الواعِد مَعَاقِد الأمل وركائز العِزّة والقوّة في الأمّة ومَبْعَث الازدهار والعمران فيها، وإشاعة ذلك في المجتمع كله، والتواصي به؛ لما فيه من التعاون على البرّ والمعروف، وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله. ولنبعث في أجيالنا الاسْتِيفَازَ للعمل من جهة، وروح العزائم التي لا تقبل الهزائم من جهة أخرى، ولِنُعِدّ رجالاً أُبَاةً صالحين، تَقَرّ بهم الأعين، وتسعد بهم الأوطان، ويفتخر بهم الوالدان، ويُخَلّد مفاخرَهم وأمجادَهم الزمانُ. ولله دَرُّ الفاروق عمر كان يرى الرجل فيعجبه فيسأل: هل له من حِرْفَة؟ فيُقال: لا، فيسقط من عينيه، ويعلوه بالدِّرَّة. وكان يقول: (إني لأرى الرجل فأمْقُتُه ليس في عمل دنيا ولا في عمل آخرة). والله عزّ وجلّ يقول: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، فأَثِبْ لهؤلاء الأصفياء رضي الله عنهم أنهم تُجّار وباعَة، لكن لا يشغلهم العمل عن موارد الطاعة. ألا فُبورِك في الشباب الطموح، وردّ الله إلى حِيَاض الحق كل جَمُوح. وإن المسؤولية لعظيمة في إعداد الجيل الوسَطِي المعتدل، بعدما مرّت على شبابنا منعطفات فكرية خطيرة، جعلتهم يعيشون حيارى بين مِطْرَقة الغلو والعُنف والإفراط، وسِنْدَان التغريب والتفريط والإحباط. فيا أخي الشاب المبارك، كن صادقًا راسخًا في انتمائك، صادِرًا عن توجيه علمائك، مشاركًا إيجابيًّا في حياتك، حاملاً هَمّ قضايا أمّتك، متفاعلاً في بناء مجتمعك، مِفْتاحًا لكل خير، مِغْلاقًا لكل شر، موازيًا بين متطلبات روحك وجسدك، بكل فضيلة مُتَحَلٍّ، وعن كل رذيلة مُتَخَلٍّ، تكن ـ بإذن الله ـ خير خَلَف لخير سلف. أما السَّلْبِيّة والنقد والبَطَالة والتضييع والتسْويف والعَطَالة فهي عَتَاد كل فارغ بَطّال، ولن تتحقّق الآمال ـ بعد توفيق الله ـ إلا على أيدي الشباب الإيجابي المعتدل الفَعّال. ألا وإن مما يُنْعِمُ بالَ الغَيور، ويُبْهِجُ سُوَيْدَاءَهُ، ما يقوم به في هذه الإجازة موفّقون، ويضْطَلِع به مباركون، زادهم الله هدى وصلاحًا وتوفيقًا، من حرص يملأ نفوسهم على قضايا نَشْئنا الصالح، وبَذْل كل الطاقات للإفادة من الإجازة خير إفادة، أفلا ترون إلى ما بين أيديكم من حِلَق الوحيين الشريفين، والتنافس في حفظهما ومدارستهما، وإلى المعارض والمخيّمات الدعوية والمهرجانات التوعوية، وإلى الكتب والرسائل العلمية والمناشط الخيرية، وإلى الدورات العلمية، التي التَأَمَتْ كلها على حفظ أوقات الأُسَر وخصوصًا الشباب، وتنمية قدراتهم ومواهبهم، مما يؤكد أنها المَحَاضِن المأمونة للشباب الطموح، خاصة في إجازاتهم، ويسدّ المجال أمام من يَشْرَقُون بالأعمال الخيّرة، ويُجْلِبُون بخيلهم ورَجِلِهم في كَيْل الاتهامات جُزَافًا ضدها، مع ما يُؤمَّل من بذل المزيد من النصح الوَرِيف والتقويم الشَّفِيف. بارك الله في الجهود، وسَدّد الخُطَى، وعفا بمنّه وكرمه عن السهو والخَطَا، واللهُ المسؤول أن يأخذنا بأيدينا جميعًا إلى مَعَاقِد العِزّ والتمكين لديننا ومجتمعاتنا وأمّتنا، إنه جواد كريم. أقول هذا الكلام، وأستغفر الله الملك العلاّم، لي ولكم من كل الذنوب والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدوام، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة (4899) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنهما. [2] صحيح مسلم، كتاب القدر (2664) من حديث أبي هريرة رضي لله عنه. |