عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها ثلاث مرات، فقلت: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128]. ما ترك خيرا يقرّبكم من الله والجنة إلا أرشدكم إليه، وما ترك شرا يقرّبكم من سخط الله والنار إلا حذركم منه. وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور مما يقرّب من سخط الله والنار، حذر منها النبي أمته لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [طه:113]. وقوله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) هو على لفظ الآية الكريمة: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [آل عمران:77]. ومعنى: ((لا يكلمهم الله)) أي: لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم. وإلا فعموم الكلام ثابت بقوله : ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)). ومعنى ((ولا ينظر إليهم)) أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة. ومعنى ((لا يزكيهم)) أي: ولا يطهرهم من دنس الذنوب، بل يأمر بهم إلى النار. ((ولهم عذاب أليم)) وهو الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، كما قال تعالى: لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة [الهمزة:5-9]. وفي هذا الوعيد دليل على أن هؤلاء الثلاثة من أهل الكبائر، وأن هذه الأفعال المذكورة من الكبائر، لأن الكبائر كما عرّفها ابن عباس رضي الله عنهما: ما ترتّب عليه حد في الدنيا أو عقوبة في الآخرة. وأول هؤلاء الثلاثة: ((المسبل)) وهو المرخي إزاره أسفل من كعبيه. إن الله تعالى يقول: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون [الأعراف:26]. ففي هذه الآية بين سبحانه ما منّ به على عباده حيث أنزل عليهم ثلاثة أنواع من الألبسة، نوعين حسّيين، ونوع معنوي. فأما الحسيان فهما لباس ضروري يواري الإنسان به سوأته، ويستر به بدنه. ولباس للجمال والزينة وهو الزائد عن الضرورة. وأما المعنوي فهو لباس التقوى، تقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه. وهذا اللباس خير من النوعين الحسيين. لأنه يواري سوءة الإنسان في الدنيا والآخرة. واللباس الحسّي هو الزينة التي أخرج الله لعباده وأحلّها لهم، وأنكر على من يحرّمها بدون برهان، قال الله تعالى: قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [الأعراف:32]. وفي إضافة الزينة إلى الله ووصفها بأنه الذي أخرجها لهم أكبر برهان على أنه ليس من حقّنا أن نتحكم بهذه الزينة في تحليل أو تحريم، وإنما حكمها إلى الله وحده لأنه الذي أخرجها لعباده وحده. وليس من حقنا كذلك أن نستعملها كما نشاء وإنما نستعملها على الوجه الذي حدد لنا بدون تعد تلك حدود الله فلا تعتدوها [البقرة:229]. ولقد حدد الله لنا استعمال هذا اللباس نوعا وكيفا، حلا وحرمة، لئلا نتجاوز بها إلى حد لا يليق بنا. ومما حرم على المسلم لباسه ما نزل عن الكعبين من قميص وبنطال وسروال ونحو ذلك. ولقد كثرت الأحاديث في النهي عنه: ((من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)). ((وما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار)). فكنى بالثوب عن لابسه ومعناه أن ما دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة. وقد لاحظ بعض الناس الفرق بين الحديثين من حيث الإطلاق والتقييد فقالوا: يحمل المطلق على المقيّد، ويثبت أنه لا يحرم الإسبال إلا إذا كان خيلاء. وقد رد أهل العلم هذا القول وقالوا: هذا ليس بصحيح، فإن الوعيد فيهما مختلف وسببه مختلف. الوعيد فيمن جر ثوبه خيلاء أن الله لا ينظر إليه. والوعيد فيمن نزل ثوبه عن كعبيه أن ما نزل في النار. فالعقوبة جزئية، والعقوبة الأولى أن الله لا ينظر إليه، وهي أعظم من تعذيب جزء من بدنه بالنار. وأما السبب فمختلف أيضا، فأحدهما أنزله إلى أسفل الكعبين، والثاني جرّه خيلاء، وهذا أعظم، ولذلك كانت عقوبته أعظم. وقد قال علماء الأصول: أنه إذا اختلف السبب والحكم في الدليلين لم يحمل أحدهما على الآخر، فلا يحل للرجل أن ينزل شيئا من ثيابه تحت الكعبين، فإن فعل فعقوبته أن يعذب موضع النازل بالنار، ولا يحل له أن يجرّ شيئا من ذلك خيلاء، فإن فعل فعقوبته أن لا ينظر الله إليه. وقال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) ما معناه: وقد يتجه المنع من الإسبال من جهة الإسراف، حيث أن ما أسفل من الكعبين قدر زائد على لابسه، والإسراف حرام. قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء، فإنها دعوى غير مسلمة. قال الحافظ: وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده حديث ابن عمر عن النبي أنه قال: ((وإياك وجرّ الإزار فإن جر الإزار من المخيلة)). وقد يستدل على الحرمة من التشبه بالنساء، حيث أن الذيل الطويل من خصائص النساء، فإذا أطال الرجل ذيله فقد تشبه بالنساء. ولبس لباسهن، وقد ((لعن النبي المتشبهين من الرجال بالنساء))، و((لعن الرجل يلبس لبسة المرأة)). فإياك يا عبد الله وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، ومن جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه. واعلم أن المستحب من الثياب ما كان إلى نصف الساق، وما تحته إلى الكعبين جائز بلا كراهية، وما نزل عن الكعبين فمحرم، كما قال : ((أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل الكعبين فهو في النار)). والثاني من أهل الوعيد: المنان. وهو الذي لا يعطي شيئا إلا منّ به على من أعطاه، وقد يمنّ الإنسان على الله، وقد يمنّ على أخيه الإنسان، وكلاهما مذموم، والأول أشدّهما ذما. ومنه قول الله تعالى في جماعة من الأعراب: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [الحجرات:17]. ولقد نهى الله تعالى نبيه عن المن منذ أن كلّفه بالدعوة، لتكون أعماله كلّها من أول ساعة لله عز وجل، قال تعالى: ولا تمنن تستكثر [المدثر:6]. وفي هذا النهي وجوه من التفسير: الأول: أن الله تعالى أمره قبل هذا النهي بأربعة أشياء: إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال: ولا تمنن تستكثر أي: لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله، بل اصبر على ذلك كله لوجه الله، متقربا بذلك إليه، غير ممتن به عليه. قال الحسن: لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها. فالرب سبحانه يوجه نبيه في أول مقام الدعوة إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه، إنه سيقدّم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء، ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدّمه ويستكثره ويمنّ به، لأن هذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحسّ بما تبذل فيها، فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل، لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما يقدمه هو من فضل الله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفّقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار. الثاني: لا تمنن على الناس بما تعلّمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله فلا منّة لك عليهم. الثالث: أن معنى قوله (لا تمنن) لا تعط، يقال: منت فلانا كذا، أي أعطيته. قال تعالى لسليمان عليه السلام: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب [ص:39]. أي: فأعط أو أمسك. وأصله أن من أعطى فقد منّ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة، فالمعنى: ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، بل الواجب أن يكون عطاؤك لله، خاليا عن انتظار العوض والتفات الناس إليه. وهذا كما قال تعالى في حق الأبرار: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [الإنسان:9]. وكما قال في حق الصديق : الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:18-21]. فعليك يا عبد الله بإخلاص النية لله، فإذا أعطيت فلا تنتظر من الناس جزاء ولا شكورا، ولا تذكر ما أعطيت فتمنّ به، فإن الله تعالى أخبرنا أن المن يبطل ثواب العطاء، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [البقرة:264]. أما الثالث من أهل الوعيد فهو ((المنفق سلعته بالحلف الكاذب)). إن الله تعالى قال: إنما أموالكم وأولادكم فتنة [التغابن:15]. وقال النبي : ((لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)). ولقد رأينا من الناس من أصبح المال أكبر همّه، وشغل قلبه، إن قام فهو يفكر فيه، وإن قعد فهو يفكر فيه، وإن نام كانت أحلامه فيه، فالمال ملء قلبه، وبصر عينه، وسمع أذنه، وشغل فكره يقظة ومناما، حتى عباداته لم تسلم، فهو يفكر في ماله في صلاته وفي قراءته وذكره، كأنما خلق للمال وحده، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله [المجادلة:19]. وجرّأهم على المعاملة المحرمة، فارتكبوا محارم الله وهم يعلمون، وتجرءوا على الإثم كأنهم لا يعقلون، ومنّاهم الكسب وكثرة المال فبئس ما يصنعون، لقد جرّأهم الشيطان على الأيمان الكاذبة والحلف بالله كذبا وهم يعلمون، فراجت سلعهم، وكثرت أموالهم، وهم عن الآخرة هم غافلون. لقد قال : ((إياك وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق)). وقال : ((الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب)). وقال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)). ولقد خرج إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: ((يا معشر التجار!)) فاستجابوا ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق)). ومعناه: إلا من اتقى الله بأن لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة من غش وخيانة. وبر: أي أحسن إلى الناس في تجارته، وقام بمواساة الفقراء فتجاوز له، وصدق: أي في يمينه وسائر كلامه. ولما كان الغرض من التجارة هو جمع المال كان الشأن أن يغفل التجار عن مرضاة الله وعن حسابه، فندر منهم البر الصادق، وكان الغالب عليهم التهالك على ترويج السلع بما ينفقها لهم من الأيمان الكاذبة ونحو ذلك: حكم عليهم بالفجور واستثنى منهم البار وهو من اتقى وبر وصدق في نيته وقوله وعمله. فيا معشر التجار اتقوا الله وكونوا مع الصادقين . و((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)). |