يا من رضيتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً ورسولاً، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون . في سورة الحجرات، حيث تمثل أحد الأركان الأساسية في البناء الاجتماعي الإسلامي. إذ أن النظام الاجتماعي في الإسلام وترتيب الأسرة، وآداب الزيارة واللباس، وغير ذلك إنما يؤخذ من ثلاث سور: يؤخذ من سورة الحجرات، ومن سورة النور، ومن سورة الأحزاب. وهذه السورة (الحجرات) على قصرها وعلى قلة آياتها إلا أنها ثقيلة جداً في ميزان الرحمن.. وثقيلة جداً في بناء الإنسان.. بناء هذا الكيان الذي تمثل مجموع لبناته المجتمع المسلم، ولن يكون مجتمع أبداً سواء كان جاهلياً أو إسلامياً ما لم يتمشّ المجتمع على خطوات هذا النظم الكريم، ويتبع هذه الآيات العظيمة الثقيلة في ميزان الله في الدنيا والآخرة. إن المجتمع مكون من أشخاص، ولن يكون هنالك مجتمع أبداً ما لم تكن بينه روابط قوية، ووشائج وثيقة، وصلات عميقة، تحفظ هذا البنيان من الانهيار وتحميه من التحطم والاندثار. آيتان فقط... آيتان فقط في هذه السورة أشارت إلى معانٍ عميقة في الحياة الإنسانية.. كيف يكون الإنسان ضمن المجموعة المسلمة؟ كيف يعيش الفرد ضمن إطار المجتمع المسلم؟ الذي بناؤه المحبة.. صلاته المودة؟ وإلا، إن لم تتبع الحركة الإسلامية هذا النظام، وإن لم تلتزمه منهجاً – وخاصة هاتين الآيتين – فلم يكون بيت مسلم، ولن تكون حركة إسلامية، ولن تصل في يوم من الأيام إلى مراميها، ولن تجد مرادها في واقع الأرض أبداً. آيتان فقط... إن الصلات بين المسلم والمسلم قائمة – كما قلنا – على المحبة، فإذا أراد البيت المسلم بعداده الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وإذا أرادت الحركة الإسلامية التي لا تتجاوز بعدادها المئات أو الآلاف، وإذا أراد المجتمع المسلم الذي يكوّن نواة حية للعالم كله.. إذا أراد هؤلاء أن يقوموا على قواعد وثيقة، وأن يضربوا في الأرض جذوراً عميقة، لابد أن يلتزموا هاتين الآيتين. آيتان فقط... فإذا لم تنتبه الأسرة المسلمة إلى هاتين الآيتين، تنقلب الأسرة إلى شركة اقتصادية، وأحياناً بلا رواتب فيها، كل يؤدي دوره متثاقلاً، الملل يقتله، والسآمة تزهق روحه، ويتمنى الوقت الذي يتخلص من هذا العش الذي يجب أن يكون هادئاً. وإذا لم تنتبه الحركة الإسلامية إلى هاتين الآيتين . . . فكذلك تتحول إلى شركة اقتصادية، لا رأس مال لها، ولا رواتب في داخلها، كل يأتي إلى دوره المكلف به متثائباً متثاقلاً، يشعر أن مسئوله فوق صدره كحجر الطاحون، وأن دعوته التي يعمل فيها كأنها فكي رحى تسحق كيانه، وتبيد حياته، وتهدد وجوده. لا يمكن أبداً لحركة إسلامية، ولا لبيت مسلم يعيش في هذا الحال، أن يستمر دواماً. . . لابد أن يتفلت أفراده، وأن يتشتت أعضاؤه، وأن يتمزق لقاؤه، وأن يذرى هباءً أدراج الرياح. والآيتان الكريمتان: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:13]. ثلاث نواهٍ تضمنتها الآية الأولى. الأولى: عدم السخرية. والثانية: عدم اللمز. والثالثة: عدم التنابز بالألقاب. الأولى: عدم السخرية: والنهي في القواعد الأصولية يقتضي التحريم، ما لم تصرفه عن التحريم قرينة إلى الكراهية، ولم يقل أحد بأن السخرية بالمسلم مكروهة، بل كادت الأمة تجمع أن السخرية محرمة بالإجماع، وأنها من الكبائر، وأنها لا يكفرها الاستغفار البسيط، بل لابد لها من توبة بشروطها. ويكفينا حديث مسلم الذي خرج من فم النبوة الشريف: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره (لا يتوانى عن نصرته ولا يحقره).. التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره صلى لله عليه وسلم (ثلاث مرات) – بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) – يكفيه شراً، ويكفيه إثماً. . . أي ليس بعد هذا الإثم إثم – ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) [1]. والعرض ليس فقط العورة المغلظة، بل العرض هو محل الذم أو المدح من الإنسان.. فإذا اغتبت إنساناً فقد نلت من عرضه، وإذا نممت على إنسان فقد جرحت عرضه، وإذا سخرت منه فقد انتقصت من عرضه ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)). ولم يغفل رسول الله عن هذه القضية المهمة في بناء المجتمع المسلم، فلقد كانت ركناً ركيناً في خطبته التي ودع بها أصحابه والدنيا، يوم أن وقف يوم الحج الأكبر يسألهم: أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ أليس اليوم الحرام؟! فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، ولم يكتف بذلك، بل قال أخيراً: ((ألآ هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد)) [2]. إن المحبة لن تقوم بين شخصين ما لم تحفظ ضروراته الخمس التي جاء كل دين ليحفظها. . جاء كل دين ليحافظ على ضرورات الإنسان الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. فإذا أردت أن تبقى الصلة قائمة بينك وبين أخيك، - إن لم تفده ولم تنصره ولم تقدم له ولم تحفظه – فلا أقل من أن تكف عنه أذاك، وأن تبعد عنه شرك. فإن انتقصت من عرضه، أو نلت من شرفه، أو أكلت ماله، أو سفكت دمه، فكيف لك بقلب هذا أن يميل إليك؟!. هذه الضرورات الخمس، أقل الصلة الحفاظ عليها، وعدم المساس بحرمتها. قاعدة أصيلة في بناء المجتمع المسلم. قاعدة أساسية في بقاء البيت المسلم، والحركة المسلمة، والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية كلها. ولماذا السخرية؟ لن تنتج السخرية من الصغار بالكبار، إن السخرية ناتجة عن شعور بالغرور والكبر إزاء الآخرين، الذين تنظر إليهم بعين الانتقاص والازدراء، إن الصغار لا يسخرون من الملوك، بل السخرية تأتي من الكبار إلى الصغار، ومن أنت؟ هل ترفعت على الناس وتكبرت عليهم بمالك أو بجاهك أو بعزك؟ من أين أخذت هذا؟ أليس الذي وهبك يستطيع أن يسلبك؟!! ألم تعلم أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، يخفض القسط ويرفعه، يرفع أناساً ويضع آخرين؟ ألم تعلم أنك وإن كنت ملكاً فإذا سخرت من الناس فإنك تعصي الله بهذا، وكما قال الحسن: (إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه). ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاءْ [الحج:18]. على من تترفع؟ على هذا المسكين والضعيف؟!! ألم تعلم أن رسول الله قال: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)) وفي رواية: ((منهم البراء بن مالك)) [3] حيث كانوا إذا اشتد الوطيس، واحمر الحدق، ودارت الدائرة على المسلمين، يأتون إلى البراء يقولون: يا براء أنت الذي قال فيك : ((رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره)) فينظر إلى السماء يشير بإصبعه يقسم على الله ليهزمن القوم.. أقسمت عليك لتمنحنا أكتافهم إلا منحتنا أكتافهم، فلا يرد يديه إلى الأرض إلا وتبدأ هزيمة الأعداء، هؤلاء المدفوعون بالأبواب، هم الذين يحمون المجتمعات من الدمار، من الزلزلة الإلهية، من العذاب الرباني. . ((خير الناس الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة عمياء مظلمة)) [4]. ثم من أنت في ميزان الله عز وجل؟ أما بلغك حديث البخاري يوم أن مر رجل أمام النبي فقال لرجل عنده: ((ماذا تقول في هذا؟، فشهد الصحابي: هذا حري به إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع، فسكت رسول الله ، ثم مر رجل فقال : ما رأيك في هذا؟ قال: حري به إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع له، فقال : خير من ملء الأرض من ذاك)) والاثنان ممن صحب رسول الله . ((خذا خير من ملء الأرض من ذاك)). لأن ظاهرهما الإسلام. . الرجلان ظاهرهما الإسلام. . ولا يوجد شيء أفضل من ألف شيء من جنسه سوى الإنسان. فكم رجل يعد بألف رجل وكم ألف تمر بلا عداد ولن تجد فرساً أفضل من ألف فرس، ولا بعيراً أفضل من ألف بعير، ولا حماراً أفضل من ألف حمار. . ولكن الإنسان قد يعدل ملء الأرض من مثله من جنسه. ((هذا خير من ملء الأرض من ذاك)). ثم يا أخي: لماذا تتكبر؟ ولماذا الغرور؟ ألم تعلم بأن المعصية بسبب الغرور يخشى أن لا تغفر، والمعصية بسبب الشهوات والذنوب قد تغفر. . ألم تعلم أن إبليس قد عصى الله بغرور فلم يغفر الله له، وآدم عليه السلام عصى الله بشهوة فغفر الله له. . إياكم والغرور، وفي الصحيح: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)) [5]. لماذا تترفع على الآخرين؟! ولماذا تعيبهم؟ ألا تنظر إلى نفسك؟! عدد عيوبك يا أخي قبل أن تعدد عيوب الآخرين، وانظر إلى نقائصك قبل أن تنتقص الآخرين. إذا شئت أن تحيـا سليمـاً من الأذى وحظك موفورٌ وعرضك صين لسانك لا تذكر بـه عـورة امـرئٍ فكلك عـوراتٌ وللناس ألسـن وعينـك إن أبــدت إليـك معايبـاً يوماً فقل يـا عين للناس أعين فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسـن ألم تعلم أن النار خصت بالمتكبرين، والجنة خصت بالمستضعفين.. في صحيح البخاري ((تحاجت الجنة والنار – تجادلت الجنة والنار – قالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم، فقال الله تعالى للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.. وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل ملؤها)) [6]. لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم . وغالباً يكونون خيراً منهم، المسخور منهم خير من الذين سخروا بهم. الثانية: عدم اللمز. ولا تلمزوا أنفسكم ، واللمز والهمز تعرض إليهما رب العزة كثيراً في كتابه، واللمز هو المعيبة باللسان، والهمز بغير اللسان. . بالإشارة أو اليد أو غير ذلك. أو اللمز في الوجه، والهمز في الغيبة. . اللمز الطعن في الوجه في حضور المطعون به، والهمز في غيبته وفي عدم حضرته. . والله عز وجل يقول: ويل لكل همزة لمزة والله عز وجل يقول: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتدٍ أثيم عتلّ بعد ذلك زنيم [القلم:10-13]. ولا تلمزوا أنفسكم . تعبير رباني لا يقدر عليه البشر، لأنك عندما تلمز أخاك وتعيبه إنما تعيب نفسك، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان و((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [7]. الأمة المسلمة جسد واحد لا تشتغل إلا كلا: فأحدٌ عينها، وآخر أذنها، وثالث قلبها، ورابع يدها، وخامس رجلها. وأي عضو أو شلو من الأشلاء يفقد، إنما تنتقص الأمة المسلمة في إنتاجها وعطائها وبذلها وتضحيتها. . فعندما تلمز أحداً من المسلمين إنما تلمز نفسك. إن ذوي الألباب الضيقة لا ينظرون إلى الإسلام إلا من خلال مجتمعهم الصغير. . إلا من خلال مجموعتهم القليلة، وهذا لعمر الله ضرر بالإسلام وضرر بالإنسان. . ضرر بالإنسان الذي يظن أن إصبع رجله بعيد عن إصبع يده، لأنك أنت ومجموعتك أو أنت وتنظيمك، وأنت وحزبك، إنما تمثل من الإسلام والمسلمين. . ماذا؟! إنما تمثل جزءاً قليلاً من رأس أنملة، فإذا أخذت سكيناً حاداً، أو سيفاً ماضياً وقطعت إصبع رجلك لأن إصبع الرِجل بعيد عن إصبع اليد، إنما تقطع جزءاً من أجزائك، وتنفي شلوا من أشلائك، وتبعد كياناً وجارحة من جوارحك. . هذه تفيدك في السراء والضراء. . في أيام الشدة والرخاء، لا تستغني عنها، فإذا قطعت إصبع الرجل تبدأ الجراثيم والآلام تغزو جسمك من هذا الجزء الذي كان ثغراً محمياً بأخيك، فتبدأ الجراثيم تدخل دمك حتى تصل إلى مجموعتك فتنهكها وتهلكها وتشلها وتنهيها. المسلم والأمة المسلمة كيان واحد. . جسدٌ واحد. وكيف لك أن تطلق عينك بالسخرية والنظر باحتقار وازدراء للناس، وتطلق لسانك بالنميمة واللمز وغير ذلك، إنما أنت يا مسكين تقطع أعضاءك وتعمل في أمعائك، كجبار يمسك سكيناً بيده، قد بلغ به الغيظ أبلغ مداه، فيعمل في بقر بطنه، وعلى لوك أمعائه، ويلوكها بمرارة وحقد ليشبع حقده. . وماذا؟ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلنه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد [الحج:15-16]. في مسند أحمد: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)). ونتيجة تتبع عورات المسلمين باللمز والهمز ثلاث نتائج ظاهرة: النتيجة الأولى: أنها علامة النفاق. ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم..)) فالطعن بالناس إنما هي علامة النفاق وليست علامة الإيمان ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالبذيء ولا بالفاحش ولا بالمتفحش)) [حديث صحيح [8]. ولذلك عندما دخل اليهود على رسول الله وردوا عليه السلام قالوا: السام – يعني الموت – عليك يا أبا القاسم، فسمعت عائشة رضي الله عنها لفظ اليهود فقالت: وعليكم السام والذام واللعنة، فقال: ((يا عائشة – صلى الله عليك يا رسول الله -: إن الله يكره الفحش والتفحش، ألم تسمعي ما قلت: لقد قلت لهم: وعليكم، قالوا: السام عليك، قلت: وعليكم)) [9]. فلم يقبل من عائشة رضي الله عنها أن ترد عليهم زيادة بل أن تخرج لفظا واحداً بذيئاً من فمها الطاهر، قال: إن الله يكره الفحش والتفحش عندما قالت – ماذا-؟ (وعليكم السام والذام واللعنة). ثم العيب قسمان: إما أن يكون صحيحاً في أخيك إذ لمزته في وجهه، وإما ألا يكون فيه.. فإن لم يكن فيه فويل لك ثم ويل لك. اسمع ماذا يقول في الحديث الذي رواه الطبراني وهو صحيح: ((من ذكر امرئٍ بشيء فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)) [10]. حتى يحقق ما قال فيه، ولن يتحقق أبداً، كيف وهو كذب؟! ((من ذكر امرئً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)). ولذلك يا أخي الحبيب إياك ولسانك.. احذر لسانك أيهـا الإنسـان لا يلدغنـك إنـه ثعبــان كم في المقابر من قتيل لسانه قد كان هاب لقاءه الشجعان وكَلم اللسان أنكى من كلم السنان، لأن كلم السنان يبرأ لأنه في الجلد، وأما كلم اللسان فلا يبرأ لأنه يكسر القلوب، ومن الصعب أن تعود القلوب سليمة بعد كسرها. اسمع رواية البخاري عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)) [11]. يُلقي الرجل الكلمة لا يُلقي لها بالاً وهو يحتسي القوة والشاي ويريد أن يملأ فراغه ويضحك خلاّنه أو يسر الذين يسامرونه وجلساءه، فيتكلم الكلمة سخرية من أخيه المسلم أو لمزاً أو همزاً، هذه الكلمة يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة، قال علقمة: (كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث أن أقوله). . (كم من كلام منعنيه أن أقوله حديث بلال بن الحارث). . كلمة. . والحديث في البخاري ورواه أحمد، يعني حديث صحيح لا مراء فيه ولا شك. الثالثة: عدم التنابز بالألقاب. ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . . وقد نزلت هذه الآية في بني سلمة. . قدم المدينة المنورة، فوجد للصحابة الأنصار مجموعة من الأسماء، فكان إذا دعا صحابياً باسمه يقولون: له يا رسول الله إن هذا اللقب يكرهه هذا الأخ، فنزلت الآية لتمنعهم من الألقاب الكريهة.. وماذا يضرك لو تكلمت بكلمة طيبة؟ قد حرمك الله الخير كله. لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال قلبك – نعوذ بالله منه – ملئ بالحسد والحقد والبغضاء والضغينة على المسلمين، لسانك لا يتكلم بخير، وجهك لا يتفرد عن ابتسامة. . محروم من الخير كله، وهذا حرمان ليس بعده حرمان، ماذا عليك لو بسطت وجهك وفردت أساريرك في وجه أخيك؟ وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة. . ماذا عليك لو دعوت أخاك بأحب الأسماء إليه لتدخل السرور على هذا القلب الذي قد يكون منكسراً فتجبره هذه الكلمة، وقد يكون متألماً فتشفيه هذه اللفظة، ماذا عليك؟ ((أشحة عليكم)) بخيل حتى بالكلام! بخيل حتى بالسلام! بخيل حتى بطيب الكلام! ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))، ((وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)). ((ولا يزيد في العمر إلا البر))، إلا العمل الطيب، فاملأ قلبك محبة، إنما بهذا تمد على نفسك ينبوعاً صافياً من الحسنات لا يتكدر، فالحسنات تتصبب عليك وأنت في بيتك، لا تتحرك ولا تعمل بحبك للمؤمن، في الصحيح: ((وما أحب عبد أخاه إلا كان أحبهما إلى الله أكثرهما حباً لأخيه))، ((عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به))، ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك))، – الحديث صحيح في الترمذي – ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مسلماً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً)) [12]. ثلاث نواه كلها محرمة: السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ونتيجة أية واحدة من الثلاث جزاؤها شيئان عند الله: تأخذ من الله اسمين وتفقد اسماً عظيماً، كان اسمك عند الله مؤمنا، فأعطاك الله بدله اسم الفسق والفسوق، وإذا لم تتب بسرعة فيعطيك لقباً آخر: الفسق والظلم. بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون . هل اشتريت باسم المؤمن عند الله اسم الفاسق؟ّ! بعت اسم المؤمن واشتريت اسم الفاسق والظالم معا. . بماذا؟! بهمزات لسان، وومضات شفاه، أو تلمظ شفاه على أخيك، أو حركات قلب نحوه، تعس من تخلى عن اسم مؤمن، وأخذ من رب العزة – الذي لا معقب لكلماته، ولا راد لقوله، ولا معقب على حكمه – اسمين اثنين: اسم الفسق، واسم الظلم، بئس.. أي لعنة هذه البيعة التي بعت بها إيماناً واشتريت بها فسقاً وظلما!!. وأما الآية الثانية فلم يعد عندنا وقت لها، ولعل الله عز وجل يمد في أعمارنا ويبارك بها – إن شاء الله – فنلتقي بكم في خطبة أخرى لنلتقي ونعيش في ظلال هذه الآية الكريمة من سورة الحجرات. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. . [1] صحيح مسلم 16/120. [2] أصل الحديث في الصحيحين وانظر ((صحيح الجامع الصغير)) 2068. [3] ورد في ((صحيح الجمع الصغير)) بنحوه 4573. [4] هذا القول ورد به أثر كما في ابن ماجة والبيهقي في الزهد والحاكم وقال: صحيح ولا علة له (انظر الترغيب والترهيب 3/444). [5] جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه أنر صحيح الجامع الصغير 7674). [6] رواه البخاري بنحوه (أنظر صحيح الجامع الصغير 2919). [7] رواه البخاري في صحيحه (أنظر صحيح الجامع الصغير 5849). [8] رواه بنحوه في صحيح الجامع الصغير 5381. [9] أصل القصة في البخاري وانظر صحيح الجامع الصغير 187. [10] رواه الطبراني بأسناد جيد كما في الغريب والترهيب 3/515. [11] الحديث روي نحوه في الصحيحين وهذه رواية الترمذي وهي صحيحة (أنظر صحيح الجامع الصغير1619). [12] الحديث صحيح مع زيادة ((ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) (صحيح الجامع100). |