أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله في جميع أحوالكم؛ فإن تقوى الله خير ما اتصفتم به في حياتكم، وتزودوا به لمعادكم، واحفظوا وصية الله لكم في أولادكم؛ فإنهم من أعظم أماناتكم: وَٱلَّذِينَ هُمْ لاِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوٰتِهِمْ يُحَـٰفِظُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [المؤمنون:8-11]. عباد الله، يقول الله ـ تعالى ـ: يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ [سورة النساء:11]. ويقول ـ جل ذكره ـ: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون [التحريم:6]. ويقول ـ سبحانه ـ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ [طه:132]. فأوصاكم الله في أولادكم وذويكم خيراً أن تنشئوهم على الطاعة، وأن تجنبوهم المعصية، وأن تأمروهم بالصلاة، وأن تشغلوا أوقاتهم بكل ما تحمد عاقبته، وأن تؤدبوا من خالف الحق واتبع الهوى، يقول : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) [1]. عباد الله، إن أول العناية بالأولاد وحفظ الوصية فيهم، أن يسأل كل من الرجل والمرأة ربه أن يرزقه زوجاً يكون له قرة عين، ويطلب من الأزواج مرضيَّ الخلق والدين، يقول الله ـ تعالى ـ في محكم القرآن في معرض الثناء على عباد الرحمن: وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]. وذكر ـ سبحانه ـ عن موسى عليه السلام، وقد رأى من بنات الرجل الصالح الأدب والعفة والبعد عن مظان الريبة، أنه قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [سورة القصص:24]. فهذا أصل في الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ بطلب الزوج الصالح الذي يعين على الطاعة ويصون عن القبائح، وثبت أنه قال للزوج: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [2]، وقال لأولياء المرأة: ((إذا جاءكم من ترضون دينه…)) [3] الحديث. عباد الله، وثاني تلك الأمور التي هي من أسباب الغبطة والسرور، أن يلح كل من الزوجين على ربهما سؤال الأولاد الصالحين، كما حكى الله عن إبراهيم الخليل أنه قال: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ [الصافات:100]. وقال: رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وقال هو وإسماعيل: رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة:128]. وقال ـ سبحانه ـ عن زكريا: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاء [آل عمران:38]. وقبل ذلك ذكر ـ سبحانه ـ عن الأبوين ـ عليهما السلام ـ أنهما قالا: لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَـٰلِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الأعراف:189]. فدل ذلك على أن هبة الولد الصالح من أجلِّ النعم وأسبغ ألوان الكرم، كيف لا وابن آدم إذا مات: ((انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [4]. عباد الله، ومِن حفظ وصية الله في الأهل والأولاد، أن تخلص الدعاء لهم بالخير جهدك، وأن لا تدعو عليهم أبداً ولو في حال سخطك؛ فإن دعاء الوالد للولد أو عليه مستجاب كما أخبر ـ سبحانه ـ عن إبراهيم أنه دعا له ولذريته فقال: وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. فاستجاب الله له وجعل ذريته أنبياء هداة للأنام، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) [5]. أيها الآباء وأيتها الأمهات، اعتنوا بأولادكم وربوهم تربية صالحة تكونوا من الشاكرين، ويكونوا لكم ذخرا في الموازين. ولو كانوا في حال الصغر؛ فإن العلم في الصغر كالنقش على الحجر في الثبات وبقاء الأثر، فقد صح أن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ كان طفلاَ صغيرا يحبو على الأرض، فأخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال : ((كخ كخ ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)) [6]. وقال عمرو بن سلمة ـ رضي الله عنهما ـ: كنت غلاما في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله ـ تعالى ـ، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) [7]، فما زالت تلك طعمتي بعد. وقال : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) [8]. وأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفرق بينهم في المضاجع دفعا للمفسدة، وحذرا من الفتنة، وتنبيها للأمة على واجب الصيانة وحفظ الديانة. أيها المسلمون، ومن حق أولادكم عليكم أن تعدلوا بينهم في العطايا، قال : ((إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم)) [9]، وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين أولادهم في القبلة، وأصل ذلك أن أحد الصحابة خص أحد أولاده بصدقة وأراد أن يشهد النبي عليها فقال له النبي : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((أفتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: نعم، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) [10]، وفي رواية قال : ((أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور)) [11]، وفي لفظ: ((إلاَّ على الحق)) [12]. فرجع ذلك الرجل في صدقته وعدل بين أولاده في عطيته. ألا فاتقوا الله معشر العباد، واحفظوا وصية الله لكم في الأولاد، وتذكروا موقفكم يوم المعاد يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41]. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (2/187) ، وأبو داود (495) ، والحاكم (1/197). [2] أخرجه البخاري ح (5090) ، ومسلم ح (1466). [3] حسن ، أخرجه الترمذي ح (1085). [6] أخرجه البخاري ح (1396) ، ومسلم ح (1069). [7] أخرجه البخاري ح (4957) ، ومسلم ح (2022). [9] أخرجه أحمد (4/269) ، وأبو داود ح (3542). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني قال الحافظ: ليس بالقوي. التقريب (6520). [10] أخرجه البخاري ح (2398) ، ومسلم ح (1623) بنحوه, [11] أخرجه البخاري ح (2456) ، ومسلم ح (1623). [12] أخرج هذه الرواية عبد الرزاق في مصنفه ح (16496) ولكنها مرسلة. |