أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، وعاملوه معاملة من يخافه ويرجوه، واحذروا أسباب سخطه وغضبه؛ فإنها توجب حلول العقوبات والمثلات، وزوال النعم ومحق البركات، كما أصاب من قبلكم من الأمم الخاليات، ومن حولكم من ظهرت فيه المعاصي وكثر فيه الخبث من المجتمعات، واعلموا أنكم بالخير والشر تختبرون، وبالمحاب والشهوات تفتنون، ليتبين المحسن من المسيء، والمصلح من المفسد، والشاكر من الكافر: تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ [الملك:1،2]. فما عملتم من خير وشر فإنكم ملاقوه، وسيجازيكم الله به يوم تلاقوه، وذلك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ولا يرحمه إلا خالقه وباريه، فلا تغرنكم الدنيا بما فيها من اللذات، فإن شهواتها تبعات، وراحاتها حسرات، فالله الله فيما يخلصكم وينجيكم بعد الممات كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران:185]. أيها المسلمون: إننا اليوم في معترك فتن عظيمة، كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضًا، وينسي بعضها بعضًا، فالمال فتنة هلك به كثير من الناس في هذه العصور، والأولاد فتنة وكم استعصى أمرهم على معظم أولياء الأمور، ومخالطة الأشرار من المنافقين والكفار فتنة وكم امتلأت منهم الديار وعظمت بسببهم الأخطار، والنساء فتنة وكم جلبن من المصائب على العالمين، وكم يكيد بهن الأعداء لإفساد مجتمع المسلمين، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله الهدى والسداد والصلاح في الحال والمآل. أيها المسلمون: فأما المال فإنه فتنة لهذه الأمة، وكم هلكت به قبلها من أمة، يقول : ((لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) [1]، وقال : ((أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) [2]. فالمال فتنة من جهة جلبه وتنميته، وفتنة في المكاثرة فيه والمباهاة به، وفتنة من جهة إنفاقه وأداء الحقوق الواجبة منه، فقد قل من الناس الحذر من أسباب كسبه المحرمة، والمتورع عن صور جلبه المشتبهة، بل أكثر الناس أصبح المال أكبر همه، وملء قلبه وشغل فكره وسمع أذنه وبصر عينه، يخاطر في تحصيله أيما مخاطرة، ويسعى في تنميته مكاثرة ومفاخرة، ولا يبالي بعواقب ذلك في الدنيا والآخرة، يكسبه من وجوه محرمة، وحيل ملتوية آثمة، وطرائق خبيثة باطلة، فهو النهم الذي لا يشبع، والمفتون الذي لا يقلع، وصدق النبي إذ يقول: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما اكتسب المال من حرام أم من حلال)) [3]. ولهذا تجد هذا الصنف يأخذ المال بالربا، ويستحلون الرشا ويأخذونه ثمنًا لبضائع محرمة، قيمًا للمصورات وأنواع المخدرات، وأفلام المجون والغناء، وبخس المقاس والكيل والعد والوزن علنًا، وناهيك بما فيه من إعانة على المنكر، وفتح أبواب الفساد والشر، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [4]. فالحلال عند هذا الصنف ما حل في يده بأي سبب، والحرام ما عجز عن تحصيله مع الجد في الطلب، ولكن إن ربك لبالمرصاد، فهذا ماله وبالٌ عليه، وشؤمٌ يعود عليه، فإن أكل منه لم يؤجر عليه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن أمسكه لم يبارك له فيه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له، وإن تركه لورثته كان زاده إلى النار، لغيره غنمه، وعليه إثم تحصيله وغرمه، وكم تسلط عليه في حياته من أسباب الهلاك والإتلاف، حتى ينفق رياء وبين التبذير والإسراف. أما الذي يكسب ماله من طرق الحلال، ويتقي في طلبه ذا الكرم والجلال، ويفقه فيما يعود عليه بالنفع في الحال والمآل، يتوصل به إلى فعل الخيرات، ونفع ذوي القربات، وإعانة أهل الحاجات؛ فذاك يبارك له في ماله، ويكون من أسباب صلاح قلبه وأعماله وأحواله، إن أنفق منه أُجر عليه، وإن تمتع به بورك له فيه، وإن تصدق به قبل منه وضوعف له، وإن دعا ربه استجاب له، وإن ترك لوارثه كان خيرًا له، فنعم المال الصالح للرجل الصالح: ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ [الجمعة:4]. فقد ذهب أهل الأموال الصالحون بالدرجات العلى والنعيم المقيم. فاتقوا الله أيها المسلمون، وأجملوا في الطلب، واكسبوا المال من وجوه حله، وأنفقوه في محله، واعلموا أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يدفعه كراهية كاره، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وإن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله. أيها المسلمون: أما فتنة الأولاد فإنها والله أخطر من فتنة الأموال على كثير من العباد؛ فإنهم مبخلة مجبنة، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]. وذلك فن بهم بعض الناس في هذا الزمان، حتى خشي عليه من التفريط في الإيمان، يوفرهم حتى عن المشي إلى الصلاة، ويسليهم حتى بالمحرم من الشهوات والأصوات، ويغضب لهم حتى يعادي الناصح، ويقرهم على ما هم عليه من القبائح، ويرضيهم حتى بتوفير أسباب هلاكهم، ويحميهم حتى عما يصلح قلوبهم وأعمالهم، وكم من أخوين صالحين متهاجرين بسبب الأولاد، وكم من جارين متعاديين بسببهم؛ كل واحد منهما للآخر بالمرصاد، وحبك الشيء يعمي ويصم، ولكن الويل الويل من هول يوم المعاد. فاتقوا الله معاشر المسلمين في أولادكم، ولا تلهوا بهم عن هول يوم معادكم، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ [طه:132]، وقال سبحانه: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. ووقايتهم من النار إنما تكون بأمرهم بالصلاة، وتربيتهم على أنواع الطاعات، وتأديبهم إذا لم يجد فيهم النصح والإرشاد على ما قد يرتكبونه من المخالفات، والأخذ على أيديهم، وأطرهم على الحق أطرًا؛ لصيانتهم من اقتحام المحرمات. أيها المسلمون: ومن الفتنة المخيفة في هذا الزمان ما عليه بعض النساء من أنواع الطغيان من التبرج والسفور، وما يرتكبنه من عظائم الأمور، من مخالطة الرجال، والخلوة بغير المحارم في كثير من الأحوال، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخفى، وشؤم عواقبها في كل لحظة يخشى، وقد حذركم من فتنة النساء إذ يقول: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) [5]. ويقول: ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [6]. وكم بين المسلمين اليوم من النساء اللآتي تنطبق عليهن أوصاف أحد أصناف النار، كما جاء وصفهن عن النبي المصطفى المختار، بقوله: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [7]. فصونوا نساءكم من أسباب الردى، وقوموهن على البر والتقوى، واحذروا أن يغلبنكم على أموركم فـ((لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)) [8]، و((إنما هلكت الرجال حين أطاعت النساء)) [9] في الحديث: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)) [10]. ومن عرف أنهن فتنة حذر أن يهلكنه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ به غيره، فاتقوهن واحذروهن وأطعموهن واكسوهن وعاشروهن بالمعروف، وأحسنوا إليهن واستوصوا بهن خيرًا؛ فإن: ((خياركم خياركم لنسائهم)) [11]، ولكن لا تسلموا لهن القياد، ولا تجعلوهن هدفـًا لأنظار ومطامع مرضى القلوب الساعين في الإفساد؛ فأنتم لهن راعون، وعليهن قوامون، وعنهن مسئولون؛ فإنهن عوان عندكم، فحققوا القوامة، وأحسنوا الولاية: ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـفِظَـٰتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱللَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/140)، والترمذي (2336) وقال: صحيح غريب، والحاكم (4/318) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. [2] أخرجه البخاري ح (6425)، ومسلم ح (2961). [3] أخرجه البخاري ح (2059). [4] أخرجه البخاري ح (3118). [5] أخرجه البخاري ح (5096)، ومسلم ح (2740). [6] أخرجه مسلم ح (2742). [7] أخرجه مسلم ح (2128). [8] أخرجه البخاري ح (4425). [9] أخرجه أحمد (5/45)، وفي إسناده: بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، قال عنه الذهبي: قال ابن معين: ليس بشيء... قال ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وذكره العقيلي في الضعفاء. اهـ. ويكفي عنه الحديث الذي قبله في الصحيح. [10] أخرجه البخاري ح (1462)، ومسلم ح (79). [11] صحيح، أخرجه أحمد (2/250، 472)، والترمذي ح (1162). |