أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وكونوا عباد الله إخوانا كما سماكم الله، يحب أحدكم لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، يبذل خيره لأخيه ويكف عنه شره ولا يؤذيه، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) حديث حسن روي مسندا ومرسلا، وله طرق يقوي بعضها بعضا، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وهو يدل على تحريم الضرر والضرار، ضد النفع، وقد دل الحديث على تحريم إيصال الضرر إلى الناس بغير حق في أبدانهم وأعراضهم وأولادهم وأموالهم، وفي الحديث الآخر: ((من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه)). والمضارة بالناس على نوعين: النوع الأول: أن يضارهم في غير مصلحة تعود عليه في نفسه. وهذا لا شك في تحريمه وقبحه وقد ورد في القرآن الكريم النهي عن المضارة في مواضع: منها المضارة في الوصية، قال تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [النساء: 12].وفي الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: ((إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فيدخل النار)) ثم تلا: تلك حدود الله إلى قوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء: 13، 14]. وخرجه الترمذي وغيره بمعناه.وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا هذه الآية. وذلك لأن الله توعده أن يدخله النار خالدا فيها، وذلك لا يكون إلا على كبيرة. والإضرار في الوصية على نوعين: النوع الأول: أن يوصي لبعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له فيتضرر بقية الورثة، ولهذا قال النبي : ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)). النوع الثاني: أن يوصي بزيادة على الثلث لغير وارث، فينقص حقوق الورثة، والنبي إنما رخص بالوصية بالثلث فأقل، فقال: ((الثلث، والثلث كثير)). ومن المضارة المنهي عنها في القرآن: المضارة في العشرة الزوجية، كالمضارة بمراجعة الزوجة المطلقة إذا طلقها ثم راجعها من غير أن يكون له رغبة فيها، وإنما قصده حبسها حتى تصبح لا هي ذات زوج ولا مطلقة. وفي الجاهلية كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت نهاية العدة راجعها إضرارا لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، قال تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه [البقرة: 231]، وقال تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [البقرة: 228]. فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة بالزوجة فإنه آثم بذلك.ومن أنواع المضارة في العشرة الزوجية المضارة بالإيلاء بأن يحلف على ترك وطء زوجته، وقد أمر الله أن يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن رجع في أثنائها وكفر عن يمينه ووطئ زوجته كان ذلك توبته، وإن استمر على يمينه ولم يطأ زوجته حتى مضت أربعة الأشهر ألزمه الحاكم إما بالرجوع إلى وطء زوجته والتكفير عن يمينه، وإما بالطلاق، وذلك لإزالة الضرر عن الزوجة، قال تعالى: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم [البقرة: 226، 227].ومن المضارة في العشرة الزوجية أن يطيل الزوج السفر من غير عذر، وتطلب امرأته قدومه فيأبى، وحكمه أن يمهل ستة أشهر، فإن أبى القدوم بعد مضيها فإن الحاكم يفرق بينه وبين زوجته إذا طلبت ذلك دفعا للضرر عنها. ومن أنواع المضارة الممنوعة في القرآن المضارة في تربية الأولاد كالمضارة في الرضاع. قال تعالى: والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده [البقرة: 233].فإضرار الوالدة بولدها أن يُنزع ولدها منها من أجل الإضرار بها، وإضرار المولود له (وهو الأب) بولده أن تأبى أمه أن ترضعه، ليتكلف الأب طلب المراضع والمربيات له من غيرها. ومن أنواع الضرر المنهي عنه في القرآن: المضارة في المعاملات، كمضارة الكُتّاب والشهود الذين يكتبون الوثائق ويثبتون الحقوق بكتاباتهم وشهاداتهم، وقد نهى الله عن المضارة بهم والمضارة منهم بأصحاب الحقوق، قال تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد [البقرة: 282].فالإضرار بالكاتب والشاهد أن يدعيا للكتابة والشهادة في وقت أو حالة تضرهما، ومضارة الكاتب والشاهد لأصحاب الحقوق أن يكتب الكاتب غير ما يُملى عليه، ويشهد الشاهد بخلاف ما رأى أو سمع، أو يكتم الشهادة بالكلية عند الحاجة إليها. ومن المضارة في المعاملات المضارة بالمدين المعسر الذي أمر الله بإنظاره إلى ميسرة أو إعفائه من الدين، قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [البقرة: 280]. فلا تجوز مطالبته ولا حبسه ما دام معسرا. كما لا يجوز أن يضار المدين الواجد بالدائن فيما طلبه من قضاء حقه.ومن المضارة المنهي عنها في المعاملات بيع المضطر، وذلك بأن يضطر الفقير إلى شراء سلعة، فلا يجد من يبيع عليه إلا بغبن فاحش، أو يضطر إلى بيع سلعة فلا يجد من يشتريها منه إلا برخص كثير. وقد روى أبو داود بسنده عن النبي أنه خب الناس، فقال: ((إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك))، قال تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم [البقرة: 237].وأن يبايع المضطرون وقد نهى رسول الله عن بيع المضطر، قال رسول الله : ((إن كان عندك خير تعود به على أخيك، وإلا فلا تزيدنه هلاكا إلى هلاكه)). وقد سئل أحمد عن بيع المضطر: ما معناه؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين. عباد الله، إنه لا مانع من البيع المؤجل بثمن أكثر من الثمن الحاضر للمحتاج وغير المحتاج، ولكن لا ينبغي أن يكون الزيادة كثيرة مجحفة، لا سيما إذا كان المشتري مضطرا إلى الشراء، فلا ينبغي أن تستغل ضرورته، ويحمل الزيادات الباهظة، لأن هذا إضرار يتنافى مع الرحمة والفضل بين المسلمين. ومن أنواع الضرر الممنوع في الإسلام الضرر في مجال العبادات، قال تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فهيا أبدا [التوبة: 107، 108].فاعتبر الضرر الحاصل في اتخاذ هذا المسجد في مطلع المقاصد السيئة، ومنع رسوله من الصلاة فيه وأمر بهدمه. النوع الثاني: أن يضار الناس بما فيه له منفعة خاصة مثل أن يتصرف في ملكه بما يترتب عليه الإضرار بجيرانه، مثل أن يغرس في ملكه شجرا تتمدد أغصانه وفروعه على أملاك جيرانه، أو يحفر بئرا تجذب الماء عنهم، أو ينشئ مصنعا في ملكه يتضرر منه جيرانه بالدخان أو الغبار أو الأصوات أو الروائح، أو يفتح في جداره نوافذ تطل على جيرانه أو يعلي البناء عليهم فيمنع عنهم الهواء، والشمس إلى غير ذلك فإن هذا الضرر ممنوع تجب عليه إزالته. وكذلك من أعظم المضار بالجيران أن يؤجر بيته لأناس لا يصلون ولا يخافون الله، فإن هؤلاء يضرون المسلمين ويضايقونهم وقد يؤثرون على أولادهم ومن خالطهم، فاتقوا الله يا من تؤجرون الكفرة والفساق وتسكنونهم بجوار المسلمين، فإن الأجرة التي تحصل منهم لكم حرام والمسلمون يدعون عليكم فتلحقكم الآثام، وكذلكم يحرم تأجير الدكاكين والمحلات لبيع المواد المحرمة كتسجيلات الأغاني وأشرطة الفيديو أو جعلها محلات للتصوير أو بيع التبغ ويجب على الحاكم إزالة الضرر إذا اشتكى منه الجيران وامتنع من إزالته. ومن الإضرار الممنوع في حق الجار: منعه من الانتفاع بملك جاره على وجه لا يضر به، كأن يحتاج إلى وضع خشبة على جدار جاره، والجدار يتحمل فإنه يجب على صاحب الجدار أن يمكنه من ذلك، لما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره))، وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه لما احتاج إلى ذلك، وقال: لتمرن بك لو على بطنك. ومن الإضرار الممنوع أن يمنع الناس من الانتفاع بالمباحات المشتركة، كالمنع من فضول المياه الجارية في الأنهار والأودية والمجتمعة في الخوابي وغيرها، أو يمنعوا من الرعي في الفلوات، أو الاحتشاش أو الاحتطاب من الأراضي الموات، أو الانتفاع بالمعادن المباحة كمعادن الملح وغيره، في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ))، وفي سنن أبي داود أن رجلا قال للنبي : يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: ((الماء))، قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: ((الملح))، قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: ((أن تفعل الخير خير لك))، وقال : ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ)). ومن الإضرار الممنوع: مضارة الناس في طرقاتهم بوضع الأذى فيها، أو وضع ما يمنع المرور أو يسبب الحوادث، أو مخالفة أنظمة السير بما يعرض الناس للخطر، كل هذا ضرر محرم. فاتقوا الله عباد الله، وعليكم ببذل النفع لإخوانكم وجيرانكم ومنع الضرر والضرار: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [المائدة: 2].بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... |