أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن ذلك هو طريق النجاة، واعلموا أن الله سبحانه أمر بالإحسان في آيات كثيرة، وأخبر أنه يحب المحسنين، ولا يضيع أجر من أحسن عملا. وقال تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، قال ابن عباس وغيره في معنى الآية: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة؟. وقال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [يونس:26]. وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة. قال ابن رجب رحمه الله: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين:15]، فإن ذلك جزاء لحالهم في الدنيا لما تراكم من الذنوب على قلوبهم، فحجبهم عن معرفة الله ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم أن حجبوا عن رؤية الله في الآخرة. عباد الله: والإحسان ضد الإساءة، قال تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم:31]. وهو أنواع كثيرة: منهما ما يكون في عبادة العبد لربه، كما بينه الرسول لما قال له جبريل عليه السلام: أخبرني عن الإحسان، قال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). ومعناه بأن يعبد ربه مستحضرا لقربه منه واطلاعه عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا إخلاص العبادة لله وتحسينها وإكمالها، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أعلى مراتب الدين. ومن أنواع الإحسان: الإحسان في العمل بأن يكون موافقا لما شرعه الله على لسان رسوله خاليا من البدع والمخالفات، قال تعالى: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:112]، وقال تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22]. وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك. والإحسان للعمل معناه: متابعة السنة فيه ومجانبة البدعة، وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثورا ووبالا على صاحبه. ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى الخلق من الآدميين والبهائم، بإغاثة الملهوف وإطعام الجائع والتصدق على المحتاج وإعانة العاجز، والتيسير على المعسر والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [النساء:36]، فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى هذه الأصناف بإيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم، وقال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات:15-19]. فبين الله سبحانه سبب حصولهم على هذه الكرامة العظيمة وأن ذلك بما أسلفوه من الإحسان في الدنيا من صلاة الليل والاستغفار بالأسحار والتصدق على المحتاجين، وقال تعالى: إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين [المرسلات:41-44]. والآيات في ذلك كثيرة تبين ما للإحسان من عاقبة حميدة، وثواب عظيم. ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى البهائم، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال: (( دنا رجل إلى بئر فنزل فشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث فرحمه فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة ))، رواه ابن حبان في صحيحه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء النبي فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك أجر؟ فقال رسول الله : ((إن في كل ذات كبد أجرا))، رواه أحمد ورواته ثقاة مشهورون. وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه الحر، فوجد بئرا فنزل فيه فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له ))، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: ((في كل كبد رطبة أجر ))، رواه مالك، والبخاري، ومسلم. ففي هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البهائم بما يُبْقي عليها حياتها، ويدفع عنها الضرر، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، مأكولة أو غير مأكولة، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن رسول الله قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحد أحدكم شفرته ولْيُرح ذبيحته ))، فيه فضيلة الإحسان إلى البهائم المأكولة في حال ذبحها، وهذا شيء يغفل عنه بعض الناس، فيسيؤن إلى البهائم في كيفية ذبحها. والإحسان قد أمر الله به في مواضع من كتابه، منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، فهو في كل شيء بحسبه. فالإحسان في معاملة الخالق بفعل الواجبات وترك المحرمات واجب، وفي فعل المستحبات وترك المكروهات متسحب، والإحسان في معاملة الخلق، منه ما هو واجب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بالبر والصلة، ومنه ما هو مستحب كصدقة التطوع، وإعانة المحتاج، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها، من غير زيادة في التعذيب، وهكذا مطلوب من المسلم أن يكون محسنا في كل شيء مما يأتي وما يذر، محسن في عمله، محسن في تعامله مع الله ومع خلقه، ومحسن في نيته وقصده، قال الله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [التوبة:91]، فهؤلاء الذين لا يستطيعون القتال لعجزهم الجسمي والمالي مع سلامة نياتهم وحسن مقاصدهم، قد عذرهم الله لأنهم محسنون في نياتهم، لم يتركوا الجهاد لعدم رغبتهم فيه، وإنما تركوه لعجزهم عنه، ولو تمكنوا منه لفعلوه، فهم يشاركون المجاهدين في الأجر لنياتهم الصالحة وحسن قصدهم، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، وأصله في الصحيحين أن رسول الله قال: ((لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم )). وكما يكون الإحسان في الأعمال والنيات يكون في الأقوال أيضا، قال تعالى: وقولوا للناس حسنا [البقرة:83]، أي: قولوا لهم قولا حسنا، بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودة، ويرغب في الخير، ويؤلف القلوب. وهذا يشمل الصدق في الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد جاء في الحديث: (( والكلمة الطيبة صدقة ))، فاتقوا الله – عباد الله – وكونوا من أهل الإحسان لتنالوا من الله الأجر والرضوان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين [العنبكوت:69]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... |