أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله كفاه، ومن اتقى الناس لن يغنوا عنه من الله شيئًا. أوصيكم ونفسي بتقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، الواعظون بها كثير، والعاملون بها قليل، جعلنا الله وإياكم من المتقين. أيها المسلمون، دين الله كاملٌ شاملٌ؛ تضمَّن حقائق العقيدة والشريعة، والتوحيد والعبادة، والمعاملة والعادة، يخاطب العقل والقلب، والحس والنفس، في مبادئ التشريع والأخلاق، والتربية والسلوك. دينٌ من عند ربنا، يرسم الأحكام والنظام لمسلم كريم طاهر الظاهر والباطن، سليم القلب، نقي المشاعر، عف اللسان وعف السريرة. متأدب مع ربه ونفسه، ومتأدب مع الناس أجمعين. بل إنه لمتأدب مع هواجس الضمير وخلجات النفس: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ٱلظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ [الحجرات:12]. دين حق تتلاقى فيه أحكام الشرائع مع نزاهة المشاعر، وتتوازن فيه الأوامر مع الزواجر. دين ينشئ مجتمعًا متدينًا، محفوظ الحرمات، مصون الغيبة والحضور، لا يؤخذ فيه أحدٌ بالظنة، ولا تتبع فيه العورات. أيها الإخوة: وهذه صورة من الصور التي وقف منها ديننا موقفًا حازمًا حاسمًا. صورة يمثل فشوُّها في المجتمع مظهراً من مظاهر الخلل، وقلة الورع، وضعف الديانة. صورة تشوش على حفظ الحرمات وسلامة القلوب وصيانة الأعراض وتحري الحق. إنها كبيرة من كبائر الذنوب، وموبقة من موبقات الآثام، وحالقة من حالقات الدين يشترك في ذلك فاعلها والراضي بسماعها. إنها الغِيبة يا عباد الله. إنها ذكر العيب بظهر الغيب، ذكرك أخاك بما يكره، سواء أكان فيه ما تقول أم لم يكن، هكذا بينها رسولنا محمدٌ . يقول ربكم عز وجل في محكم تنزيله: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12]. أيها المسلمون، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم. الغيبة ـ أيها الإخوة ـ ذات أسماء ثلاثة، كلها في كتاب الله عز وجل الغيبة والإفك والبهتان. فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان. هكذا بين أهل العلم رحمهم الله. الغيبة تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام، أم بغمزٍ، أم إشارة، أم كتابة؛ وإن القلم لأحد اللسانين. والغيبة تكون في انتقاص الرجل في دينه وخَلْقه وخُلُقه، وفي حسبه ونسبه، ومن عاب صنعةً فإنما عاب صانعها. وهذا هو نبيكم محمد ينادي هؤلاء المبتلين بهذا الداء المهلك: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) [1]. والحسن رحمه الله يقول: (والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد). عجبًا لمن ينتسب لأهل الحق والإيمان كيف يركب مركب الغيبة، وقد علم أن المبتلى بها ذو قلبٍ متقلبٍ وفؤادٍ مظلمٍ، انطوى على بغض الخلق، وكراهية الخير، لا يعنيه نفع نفسه بقدر ما يعنيه ضرر غيره. راحته وهناؤه أن يرى النعمة عن أخيه زائلة، والمحنة فيه واقعة، يسره أن يرى الخير عن أخيه ممنوعًا والمصائب به نازلة. هذا المبتلى غيظه وغمه أن يصيبك خيرٌ أو يحالفك توفيق، أو يتيسر لك رزقٌ، أو يجري على يديك نفع. قلب مؤتفك مريض يحسد في السراء ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم، تسوءه المسرة، وتسره المساءة، غل وحقد وضغينة، أسماء مترادفة في عداوة متمكنة، يمتلئ بها صدر صاحبها، ويتربص بها الفرص لينفث سمومه ويرمي سهامه. هل من شأن المؤمن أن ينطوي على كل هذه الضغينة لأخيه؟! وكأنه يأنس بخذلانه ووصول النقمة إليه، ولا تخطر له أخوة الإيمان ببال!! أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12]. ذو الغيبة ذلق اللسان، صفيق الوجه، لا يحجزه عن الاغتياب إيمانٌ، ولا تحفظه للمكارم مروءة. إذا وجد متنفسًا أشبع طبيعته النزقة الجهول. ينطلق على وجهه في المجالس لا ينتهي له حديث، ولا يتوقف له كلام. يسكب من لفظه ما تشمئز منه آذان أهل الإيمان، وأفئدة أهل التقى. قد أوتي بسطةً في اللسان تغريه بالتطاول على الحاكم والعالم، والوجيه وذي المنزلة، بل على السفيه والجاهل، وعلى كل طبقة وفي كل نادٍ. الكلام عنده شهوة عارمة، إذا سلَّطه على شؤون الناس أساء الصورة، وإذا تكلم عن حقائق الدين والعلم شوَّه الحق وأضاع الهيبة. إن لثرثرته ضجيجًا يذهب معه الرشد، يتصدر المجالس، ويتناثر منه الكلام حتى يجزم العاقل بأنه لا يتحدث عن وعيٍ يقظٍ، ولا فكرٍ عميقٍ، وكأن عنده انفصالاً رهيبًا بين لسانه وبين عقله وإيمانه. ألد خصم يلوك لسانه كما تلوك البقرة، يخوض في الدين وفي السياسة، والعلم والأدب، ولعل السبب في الانهيار العلمي والتحزب المذهبي، والانقسام الطائفي في حقائق الدين وشؤون الحياة هو هذا المسلك المذموم في توظيف اللسان جدلاً ومراءً، وغيبة وبهتانًا، وإفكًا مبينًا. إنه في مقاعد المجالس يقطع وقته في تسقط الأخبار، وتتبع العيوب، وتلمس الزلات، ليس له لذة ولا مسلاة إلا في أحوال الناس. همزة لمزة، مشاء بنميم، ويل له ثم ويل له، يتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب. أيها المسلمون، وأقبح ما يقع فيه هذا وأمثاله غيبة ولاة الأمور وأهل العلم والفضل ورجال الحسبة والصلاح والذين يأمرون بالقسط من الناس، يقعون في أعراض ذوي الوجاهة والمنزلة ورجال الخاصة والعامة، يحطون من أقدارهم ويجترئون على مقامهم، وينزعون من مهابتهم، ويرفعون الثقة بهم، يطعنون في أعمالهم وجهودهم، ويشككون في قدراتهم وكفاءاتهم، لا يذكر عظيم إلا انتقصوه، ولا يظهر كريم إلا شتموه، ولا يبرز صالح إلا اتهموه، ولا يتميز مسؤول إلا مقتوه، يمشون بالكذب والتدليس، والمغالطة والتشويش. يتهمون الثقات، ويقعون في الصالحين. يبعثون الفتن، ويزرعون الإحن، ويبلبلون على العامة، يقطعون الصلات، ويفرقون الجماعات، غربان بيْنٍ، ونُذُر شؤم، حمَّالو الحطب، ومشعلو اللهب، يوزعون الاتهامات، ويتتبعون المعايب؛ هذا طويل وهذا قصير، وهذا جاهل، وهذا فاسق، وهذا عميل، وهذا مشبوه، العين غمازة، واللسان همازة، والكلمات لمازة، مجالسهم شر، وصحبتهم ضر، وفعلهم عدوان، وحديثهم بذاء. الله أكبر ـ يا عباد الله ـ هل من شأن المؤمن أن يحمل كل هذا الضغن لأخيه؟! يا هذا ـ كل بشرٍ يحب ويكره، ويرضى ويغضب، ويوالي ويعادي، ولكن العاقل لا يوالي أحدًا بالجملة، ولا يعادي أحدًا بالكلية، ولكنه يحب منه شيئًا ويكره شيئًا، يرضى منه خلقًا ويسخط آخر، يحبذ فعلاً وينقم آخر، والعاقل من يحب حبيبه هونًا ما فعسى أن يكون بغيضه يومًا ما، ويبغض بغيضه هونًا ما فعسى أن يكون حبيبه يومًا ما. العقل والإيمان يملي عليك فيمن تحب ألا تقلب عيوبه محاسن وكأنك لا ترى فيه إلا شرًا محضًا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة:8]. أيها الإخوة، ويشتد القبح والجرم ويتعاظم الذنب والذم ـ حينما تصدر الغِيبة ممن ينتسبون إلى العلم والصلاح، ويتزينون بسيما أهل الزهد والورع، فيجمعون في غيبتهم بين تزكية أنفسهم وذم غيرهم. وانظر رعاك الله إلى دقة ما سجله الغزالي في "إحيائه" وابن قدامة المقدسي في "مختصر منهاجه" وابن حجر الهيثمي في "زواجره" وهم يتكلمون عن هذا الصنف من الناس؛ قالوا رحمهم الله: يُذكر عند هؤلاء المتزهدين إنسانٌ فيقولون: الحمد لله الذي ما ابتلانا بقلة الحياء والدخول في كذا وكذا، وليس قصده بدعائه إلا أن ينبه إلى عيب غيره. قالوا: وقد يزيد في خبثه فيقدم المدح لمن يغتابه حتى يظهر تنصله من الغيبة فيقول: كان مجتهدًا في العبادة والعلم والنزاهة والأمانة، ولكنه فتر وابتلي بما ابتلينا به كلنا. فيذكر نفسه ومقصوده ذم الغير والتمدح بالانتساب للصالحين في ذم نفوسهم فيجمع بين ثلاث فواحش: الغيبة والرياء وتزكية النفس، بل أربع لأنه يظن بجهله أنه مع ذلك من الصالحين المتعففين عن الغيبة فقد لعب به الشيطان وسخر منه فأحبط عمله وضيع تعبه وأرداه. ومن ذلك أن يقول: ساءني ما وقع لصديقنا من كذا وكذا فنسأل الله أن يثبته. وهو كاذب في ذلك، وما درى الجاهل أن الله مطلع على خُبث ضميره، وأنه قد تعرض بذلك لمقت الله أعظم مما يتعرض الجهال إذا جاهروا. انتهى كلامهم رحمهم الله. الله أكبر ـ أيها الأخوة ـ يقول بعض السلف: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. يا هذا ـ رحمنا الله وإياك وعافاك وعفا عنك ـ ظُنَّ الخير بإخوانك وأقربائك، ولا تسمع أخبار من قل عند الله نصيبه. اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه. اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام. قيل لبعض الصالحين: لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك، قال: عليه فأشفقوا وإياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فطوبى لمن أمسك الفضل من قوله، ثم طوبى لمن ملك لسانه، ثم طوبى لمن حجزه عن الناس ما يعلم من نفسه، وطوبى لمن استمسك بتوجيهات كتاب ربه فتوجه إلى مولاه بقلب ضارع ولسان صادق وحب لإخوانه خالص: رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/421)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في الغيبة، حديث (4880)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في تعظيم المؤمن، حديث (2032)، والطبراني في الأوسط (3778)، قال الهيثمي: رجاله ثقات بجميع الزوائد (8/93، 94)، وقال المنذري: إسناده حسن. الترغيب (3/169). وصححه الألباني. صحيح أبي داود (4082)، صحيح الترغيب (2339-2341). |