أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. عباد الله، سنقف وإياكم مع الصدقة وأهميتها في الدنيا والآخرة. واعلموا ـ عباد الله ـ أن الصدقة باب للرزق فلا تغلقوه، وطريق للخير فلا تنكبوه، اطلبوا الرزق الواسع بها، فبها يبارك الله لك في رزقك القليل، ولا يفتح عليك أبوابًا تضطر فيها إلى الدَيْن والسؤال بسبب مرض أو مصيبة، والرسول الكريم يوجهنا: ((داووا مرضاكم بالصدقة)). ومن هنا جاء توجيه علي : (الصدقة دواء منجح)، فبها يصرف الله عنك البلاء، ويفتح عليك أبواب الخير والسعادة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! فأنت بصدقتك أدخلت السرور والفرح على أهل بيت ضاقت بهم السبل واشتد عليهم الكرب، فجاءت صدقتك نورًا وأملاً يبدد ظلامهم الدامس ويأسهم القاتل، فالله سبحانه حقيق أن يبدد من حولك الظلمات، ويدخل على قلبك السعادة والأمل. فمن يُعطِ باليد القصيرة يُعطَ باليد المبسوطة، ويدك بالتأكيد هي اليد القصيرة، ويد مولاك سبحانه هي المبسوطة العظيمة. استنزلوا الرزق بالصدقة، فقد فرض الله الزكاة تسبيبًا للرزق، فلا تبخل بحق الله في مالك، فهو الواهب وهو المانح، فإن مَنَعتَ مُنِعْتَ، فأي المنْعَيْن أشدّ؟! فإنّ لله في كل نعمة حقًا، فمن أداه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته. الزكاة تحصين، والصدقة حفظ، والعطاء زيادة، والبذل سيادة. سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء. استنزلوا الرزق بالصدقة، والمعنى: إذا افتقرتم وأعسرتم فتصدقوا بالقليل الذي تملكون، فإن الله يعطف الرزق عليكم بالصدقة، فكأنكم عاملتم الله بالتجارة، وإنها لتجارة رابحة، وها هنا أسرار لا تعلم. فأين المتاجرون بالصدقات؟! أين المتاجرون بالبذل والإنفاق؟! أين المتاجرون بدفع الزّكوات؟! أين الذين يتاجرون في هذا كله مع الله؟! وهل يخسر تاجر يتاجر في تجارة مع الواسع العليم؟! مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261]. فاستنزلوا الرزق بالصدقة، فقهٌ ينبغي له أن يحيَا فينا، فيتبوأ مكانًا عليًا، ويتصدر فهمنا، ويحكم سلوكنا، ويتوّج عرش قلوبنا، حتى نتخلّص من شحّ نفوسنا وسوء ظننا. قال الله تعالى آمرًا نبيه: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]، ويقول جل وعلا: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم [البقرة: 254]. وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: 267]، وقال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16]. ومن الأحاديث الدالة على فضل الصدقة قوله : ((ما منكم من أحدٍ إلاّ سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) أخرجاه في الصحيحين. عباد الله، إن للصدقة فضائل وفوائد: أولاً: أنها تطفئ غضبَ الله سبحانه وتعالى، كما في قوله : ((إن صدقة السّرّ تطفئ غضب الربّ تبارك وتعالى)) صححه الألباني في صحيح الترغيب. ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة وتذهب نارها، كما في قوله : ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار)) صححه الألباني في صحيح الترغيب. ثالثًا: أنها وقاية من النار، كما في قوله : ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)). رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة، كما في حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس)). وقد ذكر النبي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) أخرجاه في الصحيحين. خامسًا: أن في الصدقة دواء للأمراض البدنية، كما في قوله : ((داووا مرضاكم بالصدقة)). يقول ابن شقيق: سمعت ابن المبارك وسأله رجل عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجةٍ إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ. سادسًا: إن فيها دواء للأمراض القلبية، كما في قوله لمن شكا إليه قسوة قلبه: ((إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم)) رواه أحمد. سابعًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء، كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل التي أخبرنا بها رسول الله : ((وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم)) وهو في صحيح الجامع. فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه. ثامنًا: أن المنفق يدعو له الملك كلّ يوم بخلاف الممسك، وفي ذلك يقول : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) أخرجاه في الصحيحين. تاسعًا: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله، كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: ((ما نقصت صدقة من مال)) رواه مسلم. عاشرًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به، كما في قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ [البقرة: 272]. ولما سأل النبيّ عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها: ((ما بقى منها؟)) قالت: ما بقى منها إلا كتفها، قال: ((بقي كلها غير كتفها)) رواه مسلم. الحادي عشر: أن الله يضاعف للمتصدق أجره، كما في قوله عز وجل: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 18]، وقوله سبحانه: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]. الثاني عشر: أن صاحبها يدعى من باب خاصّ من أبواب الجنة، يقال له: باب الصدقة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان))، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) أخرجاه في الصحيحين. الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يوم واحد أوجب ذلك لصاحبه الجنة، كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة)) رواه مسلم. الرابع عشر: أن فيها انشراح الصدر وراحة القلب وطمأنينته، فإن النبي ضرب مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا اتسعت أو فرت على جلده حتى يخفى أثرها، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع. فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلما تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح وقوي فرحه وعظم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقا بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. الخامس عشر: أنَّ النبَّي جعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به، وذلك في قوله: ((لا حسد إلا في اثنين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل والنهار)). فكيف إذا وفق الله عبده إلى الجمع بين ذلك كله؟! نسأل الله الكريم من فضله. السادس عشر: أنَّ الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب والغفلة، فقد كان النَّبي يوصي التّجار بقوله: ((يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع. أسأل الله أن يقوي إيماننا، وأن يرفع درجاتنا. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. |