أما بعد: انظروها من ورائكم, تقطع ردهات الزمن, وتمخر عباب التاريخ, تخوض غماره, بسفينتها العظيمة, لتحجز قبل تلك البواخر مرسى. كأني بها وقد أقبلت على رسول الله بخطىً ثابتة, وفؤادِ يرجف وجلاً وخشية, رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم, تناست العار والفضيحة, لم تخشى الناس, أو عيون الناس, وماذا يقول الناس؟ أقبلت تطلب الموت, نعم تطلب الموت, فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح, يهون إن كان بعده الرضا والقبول, يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم, ولسع المعصية, وتأنيب الضمير (يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني) عندها يشيح النبي عنها بوجهه, فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني, أُراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك, فوالله إني حبلى من الزنا, فقال: ((اذهبي حتى تضعيه)) فولت والفرح يملأ قلبها, والسرور يخالط نفسها أن نجت من موت محقق؟ وردها رسول الله, كلا, بل لم يزل الهم يعترك في فؤادها وسياط الخوف تعلو هامة تفكيرها. ويمر الشهر والشهر, والآلام تلد الآلام, فتأتي بوليدها تحمله: ها أنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله, فيقول البر الرحيم: ((اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه)). فعادت بابنها الرضيع, فلو رأيتها ووليدها بين يديها, والناس يرقبونها عجبًا وإكبارًا, والشيطان يسول لها ويزين أن تلك فرصتك, وقد قمت بما عليك, والنبي ردك مرارًا, وترجع به, وحولين كاملين, كلما ألقمته ثديها, أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها, وحبها له, فهي أم, وللأم أسرار وأخبار. وتدور السنة تعقبها سنة, وتأتي به في يده خبزة يأكلها, يا رسول الله قد فطمته فطهرني, عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ هذا الذي تحمله, ما هذا الإصرار والعزم, ثلاث سنين تزيد أو تنقص, والأيام تتعاقب, والشهور تتوالى, وفي كل لحظة لها مع الألم قصة, وفي عالم المواجع رواية, فيدفع النبي الصبي إلى رجل من المسلمين, ويؤمر بها فتدفن إلى صدرها ثم ترجم, فيطيش دم من رأسها على خالد بن الوليد, فسبها على مسمع من النبي , فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)) [1]. إنه الخوف من الله, إنها خشية الله ترتقي بالنفوس فلا ترى لها قرارًا إلا بجوار الرحمن في جنة الرضوان. إنها الخشية لم تزل بتلك المؤمنة حين وقعت في حبائل الشيطان, واستجابت له في لحظة ضعف, نعم أذنبت, ولكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملأه الإيمان, ونفسٍ لسعتها حرارة المعصية, نعم أذنبت ولكن قام في قلبها مقام التعظيم لمن عصت, فتحشرجت في صدرها سؤالات, كيف أعصيه وهو المنعم الخالق! كيف أعصيه وهو الرازق الواهب؟ كيف أعصيه وقد نهاني؟ كيف أعصيه وقد كساني وآواني؟! فلم تقنع إلا بالتطهير وإن كان طريقه إزهاق النفس وذهاب الحياة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد [ق: 31 ـ 35]. قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه, وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة" رواه البخاري ومسلم واللفظ له. عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته, إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه, فقالت: يا رسول الله, أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر, وأراك إذا رأيته عَرفتُ في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة, ما يُؤمنني أن يكون فيه عذاب, قد عُذب قوم بالريح, وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا )) [الأحقاف: 24] [2]. في مصنف ابن أبي شيبة عن العباس العِّميِّ رحمه الله قال: "بلغني أن داود عليه السلام قال: سبحانك تعاليت فوق عرشك, وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض, فأقرب خلقك إليك أشدهم لك خشية, وما علم من لم يخشك؟ وما حكمة من لم يطع أمرك؟". إن الخشية الحقة, والخوف المحمود هو الحامل على العمل, الذي لا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة, وينفره من المعصية. الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا يفرق بين معصية وأخرى, فلا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عظمة من عصى, قال الله سبحانه ـ يحصر المنتفعين بالذكرى ـ: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى [طه: 1 ـ 3]. يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها [النازعات: 41 ـ 45], وقال سبحانه: فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى [الأعلى: 8 ـ 9]. إن المنتفعين بالذكرى, المستفيدين من النذارة والبشارة هم أهل الخشية والمراقبة, قال جل ذكره: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير . وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [يس: 10 ـ 11]. أهل الخشية هم السعداء في الدنيا, الفائزون في الآخرة ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنها ذلك لمن خشي ربه [البينة: 6 ـ 7]. روى الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة [المؤمنون: 60] قالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا يا بنت الصديق, ولكنهم الذي يصومون, ويصلون, ويتصدقون, وهم يخافون ألا تقبل منهم, أولئك الذين يسارعون في الخيرات [المؤمنون:61])) [3]. وفي يوم حضره الشيطان, وغابت فيه خشية الله ومراقبته أجمع أخوة يوسف على رميه في غياهب البئر, وكان ما كان من أمر السيارة, وبيع العبيد وهو الحر الأبي, وبعد كل ما لاقى من الآلام والمتاعب وهو بعدُ فتح يافع دخل بيت العزيز غلامًا يخدم, وقد بلغ من الجمال مبلغًا حتى أوتي شطر الحسن, لم تصبر معه امرأة العزيز المفرطة في البهاء والجمال, حتى تجملت وتزينت وغلقت الأبواب، فأقبلت تدعو وتغري هيت لك, هيت لك, قد ملكت جمالاً تغريه به, ومنصبًا وجاهًا يحفظه من العقوبة, فهي امرأة العزيز, وكان الطلب منها, بعد أن غلقت الأبواب، وهو في نفسه غريب بعيد عن أهله ووطنه, والغريب قد يقدم بما لا يقدم عليه أهل الديار, وهو شاب قد فطر على الميل إلى الأنثى بما ركب الله فيه من شهوة, فتصور كل هذا, والمكان يعلوه السكون, لا يُسمع فيه إلا نداء الإثم والفجور, هيت لك, هيت لك. حينها أقبل يوسف قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [يوسف: 23] عندها هرب يوسف عليه السلام, هرب إلى الله, فرّ إلى الله, يمم الباب خشية من الله, فمدت يدها تجر قميصه. ودارت الأيام وعظم الإغراء, وقُدِّم عليه السلام بين يدي نساء عِلية القوم فقُطعت الأيدي, وأعجمت الألسن قلن حاشا لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف: 31]. في هذه الأثناء نطقت صاحبة الشأن وأعلنت أمرها, وجددت عزمها قالت فذلكن الذين لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين [يوسف: 32] أبعد الحرمان, وفراق الأهل والأوطان, وألم الرق والعبودية يكون السجن؟ قلها, تكلم, تخلص بكلمة, استعطفها, اعرض أمرك على العزيز, قص خبرك, اهرب وانجُ بنفسك, كلا, كلا, قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه [يوسف: 33], السجن, نعم, ولمَ لا يكون إذا كان دون العهر والفاحشة والرذيلة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) [4]. قال مسروق ـ رحمه الله ـ: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله, وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله". وقال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهواتِ منه وطرد الدنيا عنه". راود رجل امرأة في ظلمة الليل, فقال: لا يرانا من أحد إلا هذا الكوكب. فقالت: وأين مكوكبها؟ فوجل وأقلع. واليوم عاثت الدنيا بأهلها فأضحى المخلوق يخشى المخلوق دون الخالق, يرجو المربوب دون الرب سبحانه, فعجبًا لمن يخشى الناس, ويخاف الناس, وعيون الناس, وألسنة الناس, وعقاب الناس, فأعماله للخلق, وسؤاله للخلق, يعطي ليرضي فلان, ويمنع ليحظى بقرب فلان, يحب للدنيا, ويبغض للدنيا, خاب وخسر, ما قام في قلبه الوجل من ربه, ولا عرف الله حق المعرفة وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر: 67]. قال عمر بن عبد العزيز: "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء, ومن لم يخف الله خاف من كل شيء" فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية [النساء: 77], أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين [التوبة: 13]. إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين [التوبة: 18]. إن هذه العبادة العظيمة, إن مفهوم الخشية والمراقبة غاب في قاموس كثير من الناس إلا من رحم ربك, غاب في تعاملنا مع ربنا, في تعاملنا في أنفسنا, في تعاملنا مع الناس في أقوالنا, في أفعالنا, في بيعنا وشرائنا, في تربيتنا لأبنائنا, في أدائنا في وظائفنا, في تعاملنا مع الأجراء والخدم, في حياتنا كلها, والموفق من وفقه الله. بالخوف والخشية تصلح أمور العباد, بل يصلح الكون كله, قال أبو حفص: "الخوف سراج في القلب يبصر به ما فيه من الخير والشر". أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار, وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء, وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون [البقرة: 74], لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر: 21]. فكم من البشر وفي الحجارة والجبال والأشجار والحيوان خير منه, وقديمًا قيل: "من كان بالله أعرف كان له أخوف", ولهذا يتمايز المؤمن من غيره, ويظهر الصادق في خشيته ممن يدّعي ويتزين, يظهر أهل الخشية الحقة في وقت الخلوات وساعات الوحدة والعزلة عن الخلق, فكثير أولئك الذين يتصدقون أمام الناس ولكنهم في السر قليل, كثير الذين يتورعون عن ظلم الناس أمام الناس وهم في السر أظلم الخلق, كثيرٌ هم أولئك الذين يقومون بالطاعات ويهجرون المعاصي في حضرة الخلق, وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [الملك: 12]. |