أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى قولًا وفِعالًا، اتقوه خضوعًا وامتِثالًا، بُكرًا وآصالًا؛ تُحقِّقوا عِزًّا وجلالًا، وسُؤددًا وكمالًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5]. وكُـن مُخبِتًــا لله بالتقـوى التي هي الزادُ للأخرى ودَع كلَّ من ألوَى فحسبُك وانزِل حيثُما نزل الهُدى وكُن حيثُما كان التـورُّع والتقــوى أيها المسلمون، في إثر ما يشهَده العالم من المِحَن المُتلاطِمة المُتتالية، واصطِخاب الرَّزايا الفدَّاحة المُتتالية، التي اشتجَرَت فيها العقول، وبعثَت على الدهشة والذُّهول، وعلى غارِب العصر التِّقَنيِّ الأخَّاذ الذي سبَى الأفهام، وسحَرَ الضِّعافَ من الخاصَّة والعوام، تبرزُ قضيةٌ مُؤرِّقةٌ فاتِكة، ولوحدة الأمة وائتِلافها مُمزِّقةٌ هاتِكة، ما ألمَّت بالأمم إلا أوبقَتها، ولا بالمُجتمعات والأفراد -وهم مُضرِموها- إلا في التبارِ أوهقَتها، وفي سخَط الديَّان أرهقَتها. تلكم -يا رعاكم الله- الطعنُ في الأعراض والذَّوات، واتِّهامُ البُرآء والنيَّات، وإنها لقيمةٌ وبِئسَت القيمة، وبِئةٌ ذميمةٌ، للسفهاء هضيمةٌ لقيمةٌ، يسعى مهازِيلُها وأغرارُها في نشر الإفك والبُهتان، والأقاويل المُفسِدة بين المُسلمين بالتدابُر والهُجران، أضاليلُ إن لُحمتُها إلا القيلُ والتخمينُ، وسَداها الافتراءُ المُبين. أما رُواتُها فقراصِنةُ الأعراض وسَماسِرةُ الأدواء والأمراض التي تهصِر تماسُك المُجتمعات، وتصهَرُ مِلاكَ القِيَم الرَّضِيَّات. ولأجل تلك المسالِك النافُوقاء المُعوَجَّة، والرُّعونات السَّحماء الفَجَّة، التي تنهَشُ الأعراض بالجُلامة والمِقراض، جاء الزجرُ الأكيد، والوعيدُ القاطعُ الشديد في السنة والكتاب بسُوء المصيرِ والمآبِ، لكل مشَّاءٍ بالبُهت مُفترٍ كذَّاب، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وعن أبي هريرة أن النبي قال: «الرِّبا سبعون حُوبًا، أيسرُها مثلُ نِكاح الرَّجُل أمَّه، وإنَّ أربَى الرِّبا استِطالةُ الرجل في عِرض أخيه» أخرجه البزَّار في "مسنده" وابن أبي شيبة في "مصنفه". الله أكبر! ما أجلَّ عِرضَ المُسلم وما أعظمَه! وما أسماه وما أكرمَه! لذلك صانَه الشرع الحنيف، دون الشتم والوقيعة والتعدِّي، والطعن والقذف والتحدِّي؛ فحفظُ الأعراض أحسنُ الأغراض، وأحدُ أعظم مقاصِد الشريعة الغرَّاء، كما عدَّ ذلك أهلُ العلم كالشاطبي وغيره. فاحفظ لسانَك من طعنٍ على أحـــــدٍ من العبادِ ومن نقلٍ ومن كذِبِ وانصِف ولا تنتصِف منهم وناصِحهم وقُم عليهم بـــــحقِّ الله وانتدِبِ أيها المؤمنون، وتتبُّع العيوب والعورات، وتقصُّد النقائِص والهِنات والعثَرات سُلوكٌ رثٌّ هدَّام، وخُلُق أهل اللُّؤم والآثام، مُحادٌّ لشرع الله عز وجل وهديِ رسولِه القائل: «طُوبَى لمن شغلَه عيبُه عن عيوبِ الناس» أخرجه البزَّار في "مسنده" والبيهقي في "شُعبه". قال بعضُ السلف: "أدركنا السلفَ الصالحَ وهم لا يرَون العبادة في الصلاة والصيام، ولكن في الكفِّ عن أعراض الناس". وكان مالكُ بن دينار رحمه الله يقول: "كفَى بالمرء إثمًا أن لا يكون صالحًا، ويقعَ في عِرض الصالحين". والأعظمُ من القدح البائِن الصريحِ والطعنِ والتجريحِ الحُكمُ على النيَّات، واتِّهامُ المقاصِد والمآلات، والخوضُ بكل صفاقةٍ في غيب السرائر، وقذفُها بالعيُوبِ والجرائِر، التي لا يعلمُ حقيقتَها إلا الله عز وجل. كل ذلك يُنشر ويُذاع، ويقذعُ الأسماع، بنفسٍ مُتَّشِحةٍ بالضَّغينة والغُرور، موزورةٍ بالقول المرذُول، خافِقةٍ بالجهل والشُّرور، بطينةٍ بالفواقِر والثُّبور. فوا أسفاه، وا أسفاه! ومما زاد الطِّين بِلَّة والزمانة عِلَّة، ممن جعل نهشَ الأعراض تأصيلًا مُستطابًا، ومن هدم تلاحُم الأمة نقدًا واحتِسابًا، ومن ظُلم القُدوات نهجًا جرَى حقًّا وصوابًا. ربَّاه ربَّاه! أيكون الباطلُ حقًّا لُبابًا؟! كلا، لعمرُ الحق وألفُ كلا، إن ذلك إلا الجهلُ وسُوءُ الظنِّ تدفَّقا عِيًّا وحصَرًا مُذابًا. فهم كما وصفَ ربُّ العالمين: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32]، في خرقٍ للنَّسيجِ الاجتماعيِّ المُتميِّز، والمنظومة القِيَميَّة المُتألِّقة. فكلُّ لفظٍ مُعدٌّ في صحائِفِنا ليوم حشرٍ ففيـــــه الشرُّ ينـــــدحِرُ وزلَّةُ المرء في لفظٍ وفي خبرٍ فصُنهُما كم دهانا اللفظُ والخبرُ إخوة الإيمان، يُساقُ ذلك وقد عظُم الخطبُ وجلَّت الرَّزِيَّة، واستُخِفَّت البليَّة بفَريِ أعراض رُموز الأمة وعُلمائِها فَريًا، ممن أعراضُهم أشرقُ من ذُكاء، ومناقِبُهم بعدد أنجُم السماء. يُثلبُ من النَّزَقةِ شأنُهم، وتُكلمُ سُمعتُهم عبر ما يُعرف بـ"وسائل الإعلام الحديث"، فإذا رأيتَ ثمَّ رأيتَ ثرثرةً ولآمَة، وهُراءً وفدامة، وكثيرًا قد سلَّ للبهيتة أقلامَه، وصوَّبَ للجُرم سِهامَه، وجرَّد -يا ويحَه- من لسانِه حُسامَه، طعنًا في الأخيار والبُرآء، والمُصلِحين والنُّزَهاء، الذين يعيشون قضايا الأمة وجِراحَها، ويُضمِّدون نزيفَها ويرومُون فلاحَها. وقد قال عليه الصلاة والسلام في خُطبته الشهيرة يوم عرفة: «إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا»، وقال : «كلُّ المُسلم على المُسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه» أخرجه مسلم. قال الإمام أحمد رحمه الله: "ما رأيتُ أحدًا تكلَّم في الناس إلا سقط"، وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والكلامُ في الناس يجبُ أن يكون بعلمٍ وعدلٍ، لا بجهلٍ وظُلمٍ، والوقيعةُ في أعراضِهم أشدُّ من سرقة أموالِهم". يا هاتِكًا حُرُم الرِّجال وقاطِعًا سُبُل المودَّة عشتَ غيرَ مُكرَّمِ لو كنتَ حرًّا من سُلالة ماجِدٍ ما كنتَ هتَّاكًا لحُرمة مُسلـــــمِ فيا إخوة الإيمان، إن الخائِضَ في أعراض المُسلمين، وعلى وجهٍ أشدُّ وأخصُّ الجِلَّة المرمُوقين، من وُلاة الأمر والعُلماء والمُصلحِين، حالُه في إدبارٍ عن الله وإعراضٍ، مُيسَّرٌ للعُسرى، لا يعرِفُ لذوِي الفضل حمدًا ولا شُكرًا، ولا مقامًا ولا قدرًا. وقد غدَا فِئامٌ من الناس، وخصوصًا مع زمجَرة الإعلام الجديد، أصبَحوا لا يسكنُ لهم قرار، ولا يهدأُ لهم بالٌ ولا اصطِبار، إلا بتمزيق الأعراض، بصواعِق الألفاظ، وهمَزات الألحاظ، واستِهامها كالأغراض، وبئسَت الغايات والأغراض. يكتبُون الزُّور، وبه تجرِي أقلامُهم، ويكتُمون الحق، وبه تأمرُهم أحلامُهم، في تفتيتٍ لوحدة الأمة الإسلاميَّة والأُخُوَّة الإيمانيَّة، بتصنيفاتٍ فِكريَّة، وتقسيماتٍ حِزبيَّة، ومسالِك مذهبيَّة، ونعَراتٍ طائفيَّة، لا تخدمُ إلا الأجِندات الخفِيَّة، تستهدِفُ وحدةَ وأمن واستقرار المُجتمعات الإسلامية، والله المُستعان. فيا أيها المُتهوِّكون في سِيَر العباد ونيَّاتهم، تجافَوا عن تلك المساخِط، وترفَّعوا عن هذه المُستنقعَات والمهابِط، وارغَبوا إلى الديَّان بالنجاة والسلامة، قبل حُلول الفُجاءَة والنَّدامة، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 14]. يُحرِّفُ القولَ في جهـلٍ يئِنُّ لـه فُؤادُ من يتَّقِي شـرًّا وإجـرامًا ويلمِزُ العِرضَ لا تقوى لذِي سفَـهٍ وكيف يرقَى سفيهُ القول أحلامًا واعلموا -عافاني الله وإياكم- أن عقوبة التعدِّي على الأعراض سفكًا وحشًّا وعقرًا ونهشًا أمرٌ ترتعِدُ له الفرائِص، وترتاعُ له القلائِص، عن أنس بن مالكٍ أن النبي قال: «لما عُرِج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نُحاسٍ، يخمِشون وجوهَهم وصُدورَهم، فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلُون لحومَ الناس ويقَعون في أعراضِهم» أخرجه أبو داود في "سننه". فاللهم سلِّم سلِّم. أمة الإسلام، والحقُّ الحقيقُ على كل مُسلمٍ ومُسلمةٍ أنْ إذا سمِع مُستطيلًا في عِرضِ أخيه، ينالُ منه أو يفرِيه أرشدَه ونصحَه ونهاه، وأخذَه إلى مهايِع الإنصافِ وهداه، وحذَّرَه من التخرُّصات والأباطيل، والقالِ والقِيل، التي تجُرُّ إلى الويلات والتحاسُد، ولا تُعقِبُ إلا المهالِك والمفاسِد. يقول عليه الصلاة والسلام: «من ذبَّ عن عِرضِ أخيه كان له حِجابًا من النار» أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وفي روايةٍ: «ذبَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة». وبعدُ: معاشر المسلمين، ولكي تسلمَ المُجتمعات من غُلَواء هؤلاء لا بُدَّ من الأخذ على أيديهم، والحَزم في مُقاضاتهم، وتطبيق أحكام الشَّرع فيهم، حتى لا تكون أعراضُ الأمة حِمًى مُباحًا لكل راتِع، وكلأً مُستباحًا لكل راثِع، ونهبًا مُنتهبًا لكل راءٍ وسامِع. وبذلك نُؤسِّسُ لأنفسنا ومُجتمعاتنا سلامًا ذاتيًّا تترسَّخُ فيه قِيَم الوُدِّ والصفاء، وشِيَمُ النُّبل والإخاء، ونهزِمُ بإذن الله المرحلةَ الحرِجَة الكأداء، بالقِيَم النبيلة، والمبادِئ القويمة، والنفوس الطاهرة السليمة، وبعزيمة الأقوياء وأيُّ عزيمة! لأن ارتباط الأمم منوطٌ بارتِقاء أفرادها، وارتِقاءُ أفرادها منوطٌ بارتِقاء أنفسهم وسُمُوِّها وإشراقِها، وسلامتها وائتِلاقِها. هذا الرجاءُ، وذاك الأمل، واللهَ نرجُو التوفيقَ لصادق القول وخالِصِ العمل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم. |