الدعاء وآدابه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنَّ الدعاء هو العبادة، وكما هو معلوم أنَّ الدعاء نوعين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، فما على الإنسان إلا أن يهتم بالدعاء، وخاصة في الأوقات الفاضلة؛ كيوم عرفة من السنة، وشهر رمضان من الشهور، وأخر ساعة من يوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، وفي حالة السجود، والله قد وعد بالإجابة، لمن توفر في دعائه شروط الإجابة، وانتفت الموانع، فمن كان كذلك فحري أن يستجيب الله له.
الآيـة:
يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
شرح الآية:
قوله: {وإذا سألك} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذه الآية سبب نزول؛ فقد جاء في سبب نزولها أن أعرابياً قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم- أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت. والمراد بقوله: {عبادي} المؤمنون؛ وقوله: {عني} أي عن قربي، وإجابتي بدليل الجواب، وهو قوله تعالى: {فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}. وقوله: {فإني قريب} بعضهم قال: إنه على تقدير "قل" أي إذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب؛ فيكون جواب {إذا} محذوفاً؛ و{إني قريب} مقول القول المحذوف؛ ويحتمل أن يكون الجواب جملة: {فإني قريب} لوضوح المعنى بدون تقدير؛ والضمير في قوله تعالى: {فإني قريب} يعود إلى الله.
قوله: {فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}؛ "الدعاء" بمعنى الطلب؛ و{الداعِ} أصلها "الداعي" بالياء، كـ"القاضي" و"الهادي"؛ لكن حذفت الياء للتخفيف نظيرها قوله تعالى: {الكبير المتعال}؛ وأصلها: "المتعالي"؛ فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {إذا دعان} بعد قوله تعالى: {الداع}؛ لأنه لا يوصف بأنه داع إلا إذا دعا؟ فالجواب أن المراد بقوله تعالى: {إذا دعان} أي إذا صدق في دعائه إياي بأن شُعر بأنه في حاجة إلى الله، وأن الله قادر على إجابته، وأخلص الدعاء لله بحيث لا يتعلق قلبه بغيره. وقوله: {دعان} أصلها دعاني، بالياء، فحذفت الياء تخفيفاً.
قوله: {فليستجيبوا لي} أي فليجيبوا لي؛ لأن "استجاب" بمعنى أجاب؛ كما قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] أي أجاب؛ وكما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ}[الشورى: 38]. وقوله: {فليستجيبوا} عدَّاها باللام؛ لأنه ضمن معنى الانقياد، أي فلينقادوا لي؛ وإلا لكانت "أجاب" تتعدى بنفسها؛ نظيرها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: ((فإن هم أجابوا لك بذلك))1. فضَمَّن الإجابة معنى الانقياد. قوله: {وليؤمنوا بي} أي وليؤمنوا بأني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان. قوله: {لعلهم يرشدون}؛ "لعل" للتعليل؛ وكلما جاءت "لعل" في كتاب الله فإنها للتعليل؛ إذ إن الترجي لا يكون إلا فيمن احتاج، ويؤمل كشف ما نزل به عن قرب؛ أمَّا الرب عز وجل فإنه يستحيل في حقه هذا. و"الرشد" يطلق على معانٍ؛ منها: حُسن التصرف؛ كما في قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]؛ ولا شك أن من آمن بالله، واستجاب له فإنه أحسن الناس تصرفاً، ويوفّق، ويُهدى، وتُيسر له الأمور؛ كما قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق: 4]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل: 5-7].
فائـدة:
قد يقال: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ مع أن الله قد وعد أن من دعاه فإنه قريب يجيب دعوته، ووعده حق، ولا يخلف الميعاد؛ فيجاب عن ذلك بما قاله إبراهيم ابن أدهم رحمه الله لما سئل، فقيل له: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم الله تعالى فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. ثم يضاف إلى ما قاله إبراهيم بن أدهم فيقال: إن لإجابة الدعاء شروط، وله موانع تمنع من إجابته، فمن موانعه أكل الحرام وما في معناه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((... الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له))2. وله شروط في الداعي وفي المدعو فيه؛ فمن شروط الداعي نفسه: أن يكون عالماً بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنباً لأكل الحرام، وأن لا يمل من الدعاء. وشروط المدعو فيه: أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعاً: ((مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم))3، فيدخل في الإثم كل ما به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء-رحمه الله-: إن للدعاء أركاناً وأجنحة وأسباباً وأوقاتاً؛ فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. وشروط إجابة الدعاء وموانع إجابته يطول حصرها وسرد الأدلة عليها، ولكن حسبنا الإشارة إليها.
بعض فوائد الآيـة:
1. أنَّ الصيام مظنة إجابة الدعاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام؛ ولاسيما أنه ذكرها في آخر الكلام على آيات الصيام. وقال بعض أهل العلم: يستفاد منها فائدة أخرى: أنه ينبغي الدعاء في آخر يوم الصيام - أي عند الإفطار-.
2. إثبات قرب الله سبحانه وتعالى؛ لأن الضمائر في هذه الآية كلها ترجع إلى الله؛ وعليه فلا يصح أن يحمل القرب فيها على قرب رحمته، أو ملائكته؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ، ويقتضي تشتيت الضمائر بدون دليل؛ ثم قرب الله -عز وجل- هل هو خاص بمن يعبده، أو يدعوه؛ أو هو عام؟ على قولين؛ والراجح أنه خاص بمن يعبده، أو يدعوه؛ لأنه لم يَرد وصف الله به على وجه مطلق؛ وليس كالمعية التي تنقسم إلى عامة، وخاصة. وأما المراد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق: 16-17]، فإن المراد بالقرب في هذا الآية قرب ملائكته؛ بدليل قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}، ومثلها قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ}[الواقعة: 83-85]؛ فإن المراد بها قرب الملائكة الذين يقبضون الروح.
3. إثبات قدرة الله؛ لأن إجابة الداعي تحتاج إلى قدرة.
4. قد يؤخذ من هذه الآية؛ كراهية رفع الصوت بالعبادات، وخاصة الدعاء؛ فإن المستحب فيه هو الإسرار؛ لقوله تعالى عن زكريا عليه السلام: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا}[مريم: 3]؛ وأما رفع الصوت في التلبية، والأذان والإقامة، والصلاة الجهرية، والتكبير، والوعظ والتذكير بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما يستحب فيه رفع الصوت.
5. أن من شرط إجابة الدعاء أن يكون الداعي صادق الدعوة في دعوة الله عز وجل، بحيث يكون مخلصاً مشعراً نفسه بالافتقار إلى ربه، ومشعراً نفسه بكرم الله، وجوده؛ لقوله: {إذا دعان}.
6. أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابة المسألة ليزداد الداعي تضرعاً إلى الله، وإلحاحاً في الدعاء؛ فيقوى بذلك إيمانه، ويزداد ثوابه؛ أو يدخره له يوم القيامة؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي؛ وهذا هو السر -والله أعلم- في قوله تعالى: {أجيب دعوة الداع}.
7. أنَّ الاستجابة لا بد أن يصحبها إيمان؛ وكذلك الإيمان لابد من أن يصحبه استجابة وعمل؛ لأن الله قرن بينهما؛ فقال: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ}، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
8. أن الرشد كله في طاعة الله ورسوله، والغي والبلادة والسفه كله في معصية الله ورسوله4.
وفوائد هذه الآيات كثيرة جداً. والله أعلى وأعلم. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله أنت نستغفرك ونتوب إليك.
1 - رواه البخاري ومسلم.
2 - رواه مسلم.
3 - رواه مسلم.
4- راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/209- 213). ط: درا الإعلام + دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ 2002م). و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/308-314). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/203- 205). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/284- 285). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/145- 146). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/164- 165). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.