بسم الله الرحمن الرحيم
لحوم العلماء مَسمُومَة
د. ناصر بن سليمان العُمــر
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون }. [ سورة آل عمران ، الآية : 103 ]
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً
ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً }.[ سورة النساء ، الآية : 1]
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ،يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطعِ
الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }. [سورة الأحزاب ،الآية : 70]
أما بعد:
فإن ثمّة موضوعاً مُهمّا ً جديراً بالطرح ، حقيقاً بأن نتفقه فيه ؛ لشدة حاجتنا إليه ؛ والخطورة النتائج المترتبة عليه .
إن والصحوة اليوم بحاجة إلى ترشيد وتوجيه ؛ لكي لا تؤتي من داخلها :
فالنار تأكل بعضها ******* إن لم تجد ما تأكله.
إن لم تجد هذه الصحوة المباركة من يُوجهّها ويُرشدها فإنني أخشى عليها من نفسها ، قبل أن أخشى عليها من أعدائها.
* وقبل الشروع في الموضوع لا بد من التنبيه إلى أن له قصة لابد أن تروى: فقد بلغني في العام الماضي أن هناك بعض الطيبين المنتسبين إلى الصحوة ؛ يلتقون في مناسبات مختلفة ويكون جلُّ حديثهم عن العلماء، يقوّمون العلماء ، ويذمُّون ويمدحُون ، وهم شباب أحسن ما تصفهم به أنهم من طلاب العلم ، لا من العلماء ؛ فتأثرت بذلك الأمر ، وطفقت أقرأ في كتب السلف ، وأفتش في صفحاتها متسائلاً : هل كان شبابهم وعلماؤهم يفعلون مثلما نفعل؟؟
وجمعت من الموضوع مادة ، وألقيته في إحدى الجامعات . ولكني اعتذرت عن إخراجه ، ونشره في ذلك الحين ؛ لأنه لم يكن قد استوى على سوقه بعد.
ومرّت فترة من الزمن ..... وتمخّضت الأيام عن إيذاءٍ لأحد الدعاة العلماء في عرضه، فكان ذلك طعنة نجلاءَ موجَّهة إلى كل عالم ِ، وكلِّ طالب علم ، آلمتنا ،وأحزنتنا ، وأقضّت مضاجعنا.فطلب إلي بعض الإخوة الذين استمعوا إلى هذا الموضوع أن أخرجه ، فاعتذرت عن ذلك ؛ لأن مادته لم تكتمل عندي بعد .
وجاءت الأحداث الأخيرة المريرة، جاءت الفتن التي كقطع الليل المظلم ، التي نعيش فيها هذه الأيام ونتجرع غُصصها ، فماذا حدث؟ !
حدث ما يريده الأعداء، واستبيحت لحوم العلماء، ولم يقتصروا على نهش أعراض طلاب العلم والدعاة ، بل فُتح الباب على مصراعيه لكل من هب ّودبّ ؛ حتى تطاول العامة وتطاول المنافقون والعلمانيون على علمائنا.
وقلّما تدخل مجلساً فتجده منزَّهاً عن الوقيعة في عالم من العلماء ؛ وقلما تدخل مجلساً فتجده منزهاً عن الوقيعة في عالم من العلماء ؛ فقلت : إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ؛ فكانت هذه السطور تذكيراً ، ونصحاً ، وتبياناً ، وتحذيراً من عاقبة الحديث في العلماء، والولوغ في أعراضهم وحرصت- قدر الإمكان – على توضيح السبيل الصحيح لمعالجة هذه القضية ، وفق منهج أهل السنة والجماعة.
* ورحم الله ابن عساكر حين قال : (( أعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإيّاك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ، بلاه الله قبل موته بموت القلب )). { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.[ سورة النور ، الآية : 63 ].
وموضوع (( لحوم العلماء مسمومة )) طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار- بقدر الإمكان - ، مكتفياً من القلادة بما أحاط بالعنق.
أسباب طرق هذا الموضوع :
يمكن تلخيص أسباب الحديث عن هذا الموضوع فيما يأتي :
1 - أن مكانة العلماء في الإسلام مكانة عظيمة، مما يوجب توقيرهم وإجلالهم .
2 - تساهل كثير من الناس في هذا الأمر .
3 - وقوع بعض طلاب العلم في علمائهم من حيث لا يشعرون.
4 - عدم فهم كثير من الدعاة للمنهج الصحيح في معالجة هذه القضية.
5 - الهجمة الشرسة المنظمة من المنافقين والعلمانيين على علمائنا تبعاً لأسيادهم من اليهود والنصارى.
مكانة العلماء وفضلهم :
قال الله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.[ سورة الزمر ، الآية : 9 ]
ويقول – سبحانه -: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}. [سورة فاطر ، الآية : 28 ]
ويقول - جل وعلا -: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.[ سورة النساء ، الآية : 59 ]
وأولو الأمر- كما يقول أهل العلم - :هم العلماء، وقال بعض المفسَّرين : أولو الأمر: الأمراء والعلماء.
ويقول الله - جل وعلا - : {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}. [ سورة المجادلة، الآية : 11 ]
وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين. )) .
قال ابن المنير - كما يذكر ابن حجر - : ( من لم يفقهه الله في الدين فلم يرد به خيراً ).
وروى أبو الدرداء رضي الله عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (( فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر. العلماء هم ورثة الأنبياء . إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به ؛ فقد أخذ بحظ وافر )).
* ومن عقيدة أهل السنة والجماعة - كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - : ( أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة ) ، أي أن أهل السنة والجماعة ، يتقربون إلى الله – تعالى – بتوقير العلماء ، وتعظيم حُرمتهم .
قال الحسن: ( كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار ).
وقال الأوزاعي: ( الناس عندنا أهل العلم . ومن سواهم فلا شيء ).
وقال سفيان الثوري: ( لو أن فقيها على رأس جبل ؛ لكان هو الجماعة ).
وحول هذه المعاني يقول الشاعر :
الناس من جهة التـمــثال أكفـاء ****** أبوهمُ آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهـم نسـب ****** يفاخرون به فالطين والــماء
ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـمُ ****** على الهدى لم استهدى أذلاء
وقــدر كل امرأ ما كـان يحسنـه ****** والجاهلون لأهل العلم أعـداء
من هذه النصوص الكريمة ، ثم من هذه الأقوال المحفوظة ؛ تتبين لنا المكانة العظيمة ، والدرجة العالية ، التي يتمتع بها علماء الأمة ؛ ومن هنا وجب أن يوفيهم الناس حقهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات ، قال الله تعالى: { ومن يُعَظِّم حُرٌماتِ الله فهو خيرٌ له عند ربه }. [سورة الحج ، الآية : 30 ].
ويقول- جل وعلا- : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تَقْوَى القلوب }.[ سورة الحج ، الآية : 32 ]
والشعيرة- كما قال العلماء - : كلُّ ما أذِنَ اللهُ وأشعَرَ بفضله وتعظيمه. العلماء – بلا ريب – يدخلون دخولاً أولياً فيما أذِن اللهُ وأشعر الله بفضله وتعظيمه ، بدلالة النصوص الكريمة السالفة الإِيراد .
إذن ، فالنيل من العلماء وإيذاؤهم يُعدُّ إعراضاً أو تقصيراً في تعظيم شعير من شعائر الله ، وما أبلغ قول بعض العلماء : ( أعراض العلماء على حفرة من حفر جهنم ).
وإن مما يدل على خطورة إيذاء مصابيح الأمة ( العلماء ) ، ما رواه البخاري عن أي هريرة - رضي الله عنه- ، قال : قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (قال الله- عز وجل- في الحديث القدسي : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )). رواه البخاري .
* أخي القارئ الكريم : كلنا ندرك أن منْ أكل الربا فقد آذنه الله بالحرب، إن لم ينته ويتبْ عن ذلك الجرم العظيم ، كلنا يدرك هذا ؛ ولكن هل نحن ندرك – أيضاً – أن من آذى أولياء الله فقد حارب الله –جل وعلا - كما تبين من الحديث السابق !؟ هل نحن نستحضر هذا الوعيد الشديد ، عندما نهم بالحديث في عالم من العلماء ؟!
روى الخطيب البغدادي عن أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - أنهما قالا: ( إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي ). قال الشافعي: ( الفقهاء العاملون ). أي أن المراد : هم العلماء العاملون .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد آذى الله -عز وجل- ) .
لعل في هذه النصوص تبييناً لفضل العلماء ، وتذكيراً ببعض ما يجب لهم علينا من الحقوق .
مكانة اللسان وخطورته
ولْنقِفْ وقفة ً لا بد منها في هذا المقام ، للتنبيه إلى خطورة اللسان ؛ لأننا قد تمادينا في التساهل بأمره ، والغفلةِ عن صونه من الزّلل . وَلْنُوطَّئ لذلك بإشارة إلى فضل نعمة اللسان ، تلك الجارحة التي امتنَّ الله بها علينا ، وإنّ مما يدل على عِظم شأنها ما حكاه الله - تعالى- عن موسى - عليه السلام-: من قوله : { واحْـلُلْ عقدة من لساني يفقهوا قولي } . [ سورة طه ، الآية : 27]
ويقول { ولا ينطلق لساني }، [سورة الشعراء ، الآية : 13]
وقوله عن أخيه هارون: { هو أفصح مني لسانا } .[ سورة القصص ، الآية: 34 ]
ويقول- سبحانه - ممتنا على عبده: { ألم نجعل له عينين ، ولسانا وشفتين } . [سورة البلد ، الآية : 8 ]
وعندما نتأمل – مثلاً – حال المحروم من هذه النعمة ألا وهو ( الأبكم ) ؛ فإننا ندرك – عقلياً – عِظَمَ هذه المنة الإلهية : هل يستطيع الأبكم أن يُعبر عما في نفسه ؟!
إنه عندما يُريد التعبير عن شيء فإنه يستخدم كثيراً من أعضائه ، ومع ذلك لا يشفي نفسه، ولا يبلغ مراده ، وإنْ بلغه فبشق الأنفس .
إذن ، فنعمة اللسان من أجلَّ النعم،ومن أكبر المنن الإلهية علينا. فهل حافظنا عليها ؟هل استخدمناها في الخير وجنبناها الزور والواقعية في أعراض العلماء وغير العلماء ؟
إن النصوص تدل على خطورة أمر هذه الجارحة ، وفداحة الخسارة الناجمة عن التهاون في حفظها ، قال الله – تعالى – في شأن الإفك : { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } .[ سورة النور ، الآية :15 ]
وقال – تعالى – في المنافقين : {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } .[سورة الأحزاب ، الآية : 19 ]
وقال– تعالى - :{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وتصِفُ ألْسِنَتُهم الكذب أنَّ لهم الحسنى } . [ سورة الفتح ،الآية :11]
ولذلك جاء الأمر بحفظ اللسان ، والتحذير من إطلاق العنان له :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا } .[سورة الأحزاب ، الآية : 70 ]
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .[سورة ق ، الآية 18]
{ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } . [ سورة الإسراء ، الآية : 36 ]
وفي الحديث الذي رواه الترمذي:(( وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث المتفق على صحته : (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذية ؛ أضمن له الجنة )). رواه البخاري
إن كثير من الناس - وبخاصة الطيبون المستقيمون - يضمنون ما بين الفخذين، وهذه نعمة عظيمة، وفّقهم الله- تعالى – إليها .
ولكن ... هل نحن نضمن ما بين اللحيين؟هل يمر علينا يوم بدون أن نقع في عرض مسلم ،عالماً كان أو غير عالم ؟! ليحاسب ْ كلُّ امرئ نفسه، وليناقشها في ذلك الأمر الخطير ؛ لكي نصحح أوضاعنا في هذا الجانب ؛ امتثالاً لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). متفق عليه ؛
وحذراً من الوعيد في مثل قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب )). متفق عليه
وما أحكم قول الشاعر :
يُصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه ******* وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه ******* وعثرته بالرجل تبــــرأ على مهـــــل
وقول الآخر :
احـفظ لسانـك أيهـا الإنـــسان ******** لا يـــلـدغــنـك إنه ثـعـبانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه ******** كانت تهاب لقاءه الشجعانُ
وقول الآخر :
الصمت زين والسكوت شجاعة ****** فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً
فـإذا نـدمـت على سكوتك مـــرة ****** فلتندمن على الكلام مراراً
قال حاتم الأصم:( لو أن صاحب خبر جلس إليك ليكتب كلامك ؛ لاحترزت منه،وكلامك يعرض على الله- جل وعلا- فلا تحترز).
* وههنا أمر لابد من إبرازه :
لئن كانت غيبة العلماء من أشد وأقبح أنواع الغيبة ، فإن هذا لا يعني أن لحوم غيرهم من الناس مباحة ، بل هي محرمة كذلك ؛ قال تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيُحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه }. [سورة الحجرات ، الآية : 12 ]
وقال– سبحانه -{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً }. [ سورة الأحزاب ، الآية : 58]
ويقول(صلى الله عليه وسلم) مبيناً ذلك:(( كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله )) رواه مسلم.
وقال (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: (( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..ألا هل بلغت)). متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام : (( أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : ذكرك أخاك بما يكره !! قيل : أ رأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)). رواه مسلم.
وفي سنن أبي داوود عن أنس - رضي الله عنه – قال : قالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم . فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم )) . فكيف بالذي يقع في أعراض العلماء؟ ! أنه انتهاك بشع
ولابن القيم - رحمه الله- كلام نفيس في هذا المعنى ، خليقٌ أن يكتب بماء العيون ؛ لأنه ينطبق بدقة على حال كثير من طلاب العلم ، يقول : ( وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول ).
بعد هذه المقدمات المهمة ندلف إلى صلب الموضوع، وأول قضية سنبحثها هي :
أسباب أكل لحوم العلماء
1- الغَيرَة والغِيرة :
أما الغَيرَة –بالفتح - فهي محمودة ، وهي أن يغار المرء وينفعل من أجل دين الله، وحرمات الله - جل وعلا- لكنها قد تجر صاحبها – إن لم يتحرز- شيئا فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء من حيث لا يشعر .
وأما الغِيرَة – بالكسر- فهي مذمومة وهي قرينة الحسد،والمقصود بها هو : كلام العلماء بعضهم في بعض من ( الأقران ) . قال سعيد بن جبير: ( استمعوا لعلم العلماء ، ولا تصدقوا بعضهم على بعض،فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في ضرابها ) . أي : استفيدوا من علم العلماء ،ولكن لا تصدقوا كلام العلماء بعضهم على بعض ، من الأقران.
ولذلك قال الذهبي:(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به،لاسيما إذا كان لحسدٍ أو مذهب أو هوى)
2- الحسد :
والحسد يُعْمي ويُصمّ ، ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعض الأقران على بعض ، ويطعن بعضهم في بعض ؛ من أجل القرب من سلطان ، أو الحصول على جاه أو مال.
3- الهوى:
إن بعض الذين يأكلون لحوم العلماء لم يتجردوا لله – تعالى –وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في
أعراض علماء الأمة . و اتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال - تعالى- : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } . [سورة ص ، الآية : 26 ]
وقال – سبحانه - :{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم }. [ سورة القصص ، الآية : 50 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( صاحب الهوى يُعْميه الهوى ويُصمه ).
وكان السلف يقولون: ( احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ).
4 - التقليد:
لقد نعى الله – تعالى – على المشركين تقليدهم آباءهم على الضلال : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }. [ سورة الزخرف ، الآية : 22 ]
والتقليد ليس كلُّه مذموماً ، بل فيه تفصيل ذكره العلماء . ولكنني في هذا المقام أُحذر من التقليد الذي يؤدي إلى نهش لحوم العلماء ، فإنك - أحياناً - تسمع بعض الناس يقع في عرض عالم، فتسأله: هل استمعت إلى هذا العالم؟فيقول : لا والله . فتقول : إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا؟! فيقول: قاله لي فلان. هكذا يطعن في العالم تقليداً لفلان ، بهذه السهولة ، غير مراعٍ حرمة العالم .
قال ابن مسعود:( ألا لا يقلدنا أحدكم دينه رجلاً إن آمنَ آمن ، وإن كفرَ كفر ، فإنه لا أسوة في الشر).
وقال أبو حنيفة: ( لا يحلُّ لمن يُفتي من كُتُبي أن يُفتي حتى يعلم من أين قلتُ ).
وقال الإمام أحمد: ( من قِلة علم الرجل أن يقلِّد دينه الرجال ).
5 - التعصب:
من خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في العلماء – و بخاصة طلاب العلم و الدعاة – تبين لي أن التعصب من أبرز أسباب ذلك . والباعث على التعصب هو الحزبية ، الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد ، الحزبية الضيقة التي فرقت المسلمين شيعاً، حتى صدق على بعضهم قول الشاعر :
وهل أنا إلا من غُزية إن غوت ****** غويت إن ترشد غزيةُ أرشد
سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء ، وفجأة تغير موقفهم، وصاروا يثنون عليه ؛ لأنهم سمعوا أن فلاناً يثني عليه ؛ فأثنوا عليه ، وسبحان الله مغير الأحوال .
إذا ضل من يتعصبون له ؛ ضلوا معه، وإذا اهتدى للصواب ؛ اهتدوا معه . لقد سلَّم بعض الطلاب والدعاة عقولهم لغيرهم ، وقلدوا في دينهم الرجال .
* ولقد رأينا قريباً من ينتصر لعلماء بلده ، ويقدح في علماء البلاد الأخرى، سبحان الله ! أليست بلاد المسلمين واحدة ! أليس هذا من التعصب المذموم ! أليس من الشطط أن يتعصب أهل الشرق لعلماء الشرق ، وأهل الغرب لعلماء الغرب ، وأهل الوسط لعلماء الوسط ! .
إن هذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ، ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب:( وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال،لا الرجال بالحق ).
6 – التعالم :
لقد كثر المتعالمون في عصرنا ، وأصبحت تجد شاباً حدثاً يتصدر لنقد العلماء، و لتفنيد آرائهم وتقوية قوله ، وهذا أمر خطير ؛ فإن منْ أجهل الناس منْ يجهل قدر نفسه ، ويتعدى حدوده .
7- النفاق وكره الحق :
قال الله – تعالى - عن المنافقين :{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }. [سورة البقرة ، الآية : 10 ]
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنُؤمِن كما آمن السفهاءُ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} [سورة البقرة ، الآية 13 ] .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون }[سورة البقرة ،الآية : 14 ] . * إن المنافقين الكارهين للحق؛من العلمانيين ، والحداثيين، والقوميين، وأمثالهم من أقوى أسباب أكل لحوم العلماء؛ لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله .
ومن المؤسف الممضّ أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء ، المنافقين يستطيل في أعراض العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يشعر، ووافقه على ما يقول ، حتى رُد عليه في ذلك المجلس .
إن العلمانيين الآن يتحدثون في علمائنا بكلام بذيء ، يعفُّ القلم عن تسطيره ، مما يدُلّ على ما في قلوبهم من الدغل ، ومعاداة ورثة الأنبياء ؛ وما يحملونه من الحق .
8- تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها:
أدرك العلمانيون - أخزاهم الله – أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة، والعلماء لهم وشأن هيئة وهيبة في
البلد فأخذوا في النيل من العلماء، وشرعوا في تشويه صورة العلماء، وتحطيم قيمتهم، بالدس واللمز، والافتراء والاختلاف . لا أقول هذا جزافاً ولا رجماً بالغيب ، ولكن هو ما نقله إلينا الثقات من العلمانيين ،من كلام في العلماء لا يقبله عقل العاميّ ، فضلاً عن طالب العلم .
وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذه القضية قريباً .
الآثار المترتبة على الوقيعة في العلماء :
إنّ هناك عواقب وخيمة ، ونتائج خطيرة ، وآثاراً سلبية ، تترتب على أكل لحوم العلماء؛ والوقوع في أعراضهم . يدرك تلك الآثار من تأمل في الواقع ، ووسع أفقه ، وأبعد نظره ، وإليك أهمها :
1- إن جرح العالم سبب في رد ما يقوله من الحق :
إن جرح العالم ليس جرحا شخصياً، كأي جرح في رجل عامّي ، ولكنه جرح بليغ الأثر ، يتعدى الحدود الشخصية ، إلى رد ما يحمله العالم من الحق .
ولذلك استغل المشركون من قريش هذه الأمر ، فلم يطعنوا في الإسلام أولاً ، بل طعنوا في شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنهم يعلمون – يقيناً - أنهم إذا استطاعوا أن يشوهوا صورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أذهان الناس ؛ فلن يقبلوا ما يقوله من الحق، قالوا : إنه ساحر، كاهن ، مجنون ........... ولكنهم فشلوا - ولله الحمد – في ذلك .
وقد كانوا قبل بعثته يصفونه بالأمين، الصادق ، الحكم ، الثقة. فما الذي تغير بعد بعثته ؟ ما الذي حوله إلى كاهن، مجنون ، ساحر؟ إنهم لا يقصدون شخص محمد بن عبد الله ، فهم يعلمون أنه هُو هُوَ، ولكنهم يقصدونه بصفته رسولاً يحمل منهجاً هم يحاربونه ، فيعلموا أنهم إن استطاعوا تشويه صورته في نفوس الناس ؛ فقد نجحوا في صدهم عنه، وعما معه من الحق . هذا هو أسلوب المنافقين اليوم .
2- أن جرح العالم جرح للعلم الذي معه وهو ميراث النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ العلماء ورثةُ الأنبياء، فجرح العالم جرحٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو معنى قول ابن عباس : ( أن من آذى فقيها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله - جل وعلا - )
إذن ، فالذي يجرح العالم ؛ يجرح العلم الذي معه.
ومن جرح هذا العلم ؛ فقد جرح أرث النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ وعلى ذلك فهو يطعن في الإسلام من حيث لا يشعر.
3- أن جرح العلماء سيؤدي إلى بعد طلاب العلم عن علماء الأمة، وحينئذ يسير الطلاب في طريقهم بدون مرشدين ؛ فيتعرضون للأخطار والأخطاء ، ويقعون في الشطط والزلل ، وهذا ما نخشاه على شبابنا اليوم .
4 - أن تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة، وذهاب لهيبتهم ، وقيمتهم في صدورهم ، وهذا يسُرُّ أعداء الله ، ويفرحهم . يقول أحد الزعماء الهالكين في دولة عربية بعد أن سلط إعلامه على العلماء مستهتراً مستهزئا بهم - : ( عالم .. شيخ .. أعطه فرختين ؛ فيفتي لك بالفتوى التي تريد ).
لقد سقطت قيمة العلماء عند العامة، في كثير من الدول الإسلامية . ذهبت إلى بعض تلك الدول وسألت عن العلماء ، فما وجدت الناس يعرفون العلماء ، ولا يأبهون للعلماء ؛ لأن العلمنة سلطت سهامها عليهم ، فشوهت صورتهم ، ولطخت سمعتهم ؛ فأصبحوا من سقط المتاع ، في نظر كثير من الناس .
5 - تمرير مخططات الأعداء :
ومن الأمثلة الواقعية لذلك : الطعن في رجال الحُسْبة ، والطعن في القضاة ، والطعن في الدعاة .
* أما رجال الحسبة فكثير منهم طلاب علم ، وقد أصبحت أعراضهم ودماؤهم مستباحة، فتجد العامة والمنافقين والعلمانيين،يستطيلون في أعراضهم بل ربما وقع ذلك من بعض طلاب العلم، تجلس في بعض المجالس فتسمع الكلام السيئ في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أخطأ رجال الهيئة..... فعل رجال الهيئة.... ترك رجال الهيئة ......، سبحان الله ! أما يخطئ إلا رجال الهيئات!لماذا لا تذكر أخطاء غيرهم ؟!
اطلعت قريباً على فتوى لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ينبه فيها إلى خطورة
التعرض لطلاب العلم . وقصتها أن مجموعة من طلاب العلم اشتكوا أحد المسئولين- ويبدو أنهم زادوا في الشكوى- فأهينوا وسُجنوا . لكن هل سمعتم أن أحداً سجن لأنه تكلم في أعراض رجال الحسبة !!
لقد جاءني بعض شباب الهيئات ، يشتكون من تطاول الناس عليهم ، وعدم وجود من يحميهم ، حتى أصبحوا هم المتهمين .
ومع ذلك نجد بعض المحسوبين على الدعاة وطلبة العلم ، يستمرئون ركوب الموجة الخبيثة ، التي تهدف إلى محاربة الهيئات والقضاء عليها ، من حيث لا يشعرون .
إننا لو ذهبنا نحصي أخطاء الآخرين من غير رجال الهيئات لوجدنا أخطاءهم أضعاف أخطاء رجال الهيئات ، ولكنها قالّةُ سوءٍ روج لها الحاقدون ، وساعدهم عليها المغفلون .
* أما القضاة فهم كذلك ، يتعرضون للطعن فيهم ، وأكل لحومهم ، فإنك تجد كثيراً من الناس ، يرددون أن القاضي الفلاني فيه كذا، القاضي الفلاني فعل كذا، القاضي الفلاني اشترى أرض كذا، والقاضي الفلاني اشترى السيارة الفاخرة ، القاضي الفلاني يؤخر المعاملة ، حتى قال قائلهم : نحن لسنا بحاجة إلى القضاة وتعقيداتهم ، القانون الفرنسي أرحم لنا منهم .
سبحان الله !! هل الخطاء خاص بالقضاة وغيرهم ملائكة !! إنها حملة مقصودة ، ينفخ فيها الضالون؛ من أجل تحطيم القضاء الشرعي.
وأنا حين أذكر ذلك لا ألقي بالقول على عواهنه ، وإنما أتكلم عن واقع ، فهناك من يُطالب بالقانون الفرنسي ، وما نظام المرافعات الذي ألغي - ولله الحمد- إلا مثال لذلك ، وقد كان على وشك التطبيق، ولا يسعنا إلا أن نشكر من كان سبباً في إلغائه .
إن نظام المرافعات مأخوذ من النظام المصري بحروفه ، والنظام المصري مأخوذ من القانون الفرنسي .
والحمد لله الذي وفق العلماء ، وطلاب العلم ، لتدارك هذا الأمر، ووفق ا المسئولين للاستجابة .
* وأما الحديث عن الدعاة فحدث ولا حرج ، لقد وصم الدعاة بألقاب لم نكن نعرفها، وصفوا بالمتطرفين ، ووصفوا بالمتزمتين، و... و... إلى آخر القاموس الظالم، الذي سلطه الحاقدون على الدعاة؛ تشويهاً لسمعتهم ؛ وتبشيعاً لواقعهم في عقول الناس .
كل تلك الحملات الشعواء على العلماء وطلاب العلم والقضاء والمحتسبين والدعاة ؛ تؤدي إلى تمرير مخططات الأعداء ، وتحقيق أهدافهم . فاليقظة اليقظة .
المنهج الصحيح والعلاج الناجح لهذه القضية
وبعد أن عرفنا الآثار المترتبة على أكل لحوم العلماء ، ننتقل إلى بيان المنهج الصحيح ،ووصف العلاج الناجح تجاه تلك القضية ، وذلك في نطاق آفاق ثلاثة :
1- ما يجب على العلماء في هذا المجال .
2- ما يجب علينا تجاه العلماء .
3- السبيل السليم لبيان الحق ، بدون الوقوع في العلماء .
أولاً : ما يجب على العلماء :
إن على العلماء أن يحُموا أنفسهم ، ويسدوا الذرائع المفضية إلى أكل لحومهم . وقدوتهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال :(( على رسلكما . إنها صفية ))هكذا دافع المصطفى عليه الصلاة والسلام عن نفسه وحمى عرضه ، مع أن الموقف مع صحابته الأطهار الأخيار، حتى لقد استغربوا من قوله، فبين لهم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
ويمكن بيان كيفية حماية العلماء لأنفسهم في الأمور التالية :
1- أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله: ومن هنا جاء في القرآن التحذير من تخالف العلم والعمل، قال تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}[سورة البقرة ، الآية : 44 ]
وقال – جل شأنه - : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبُر مقتاً عند الله أن تقولون مالا تفعلون } ،[سورة الصف ، الآية :2 ]
وحديث الذي يدور في النار كالحمار ، مشهور معروف وصدق الشاعر حيث يقول :
يـا أيها الرجل المعلم غيره ****** هلا لنفـسـك كـان ذا التعلـيم
لا تنه عن خلق وتأتي غيره ****** عار عليك إذا فعلت عـظـيم
2 - أن يتثبت العالم في الفتوى ويكمل شروطها :
فإذا طُلب من العالم أن يفتي في أمر ما ، فعليه أن يتأمل ويتأني ، ويتتبع أسباب الاستفتاء ، والآثار المترتبة على فتواه ، والمراد الحقيقي من هذه الفتوى، ثم يُفتي بعد أن يستكمل شروط الفتوى : من فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع.
ولا يصح أن يكتفي العالم بأن يُقال له : الأمر كيت وكيت . ثم يبني فتواه على ما قيل له ، بدون تثبيت وتأكُّدٍ وتتبع ؛ فيعرض نفسه للألسنة لتقع فيه ، وتنال منه ، بسبب تعجله وعدم تحريه .
3- أن يحذر العالم من الاستدراج، والاستغفال والتدليس :
هناك من يستدرج العلماء، وهناك من يستغفلهم ، هناك من يُلبّس عليهم، ولذلك يجب على العالم أن يكون فطناً متنبهاً ، كما قال عمر - رضي الله عنه- لست بالخب ولا الخب يخدعني ) . وهذا لا ينافي سلامة القلب ، والأخذ بالظاهر ، ولكنه يعني الحيطة والحذر .
4- أن يكون جريئا في الحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم :
جرأة في الحق من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها العالم، بحيث ينكر المنكر ، ويأمر بالمعروف ، ويقول للمسيء : أسات . كائناً من كان ذلك المسيء . وللعلماء اليوم أسوةٌ فيمن سلف من علماء الأمة .
ولْنَسُقْ هنا ثلاثة أمثلة للجرأة في الحق ، من عصور مختلفة :
المثال الأول: موقف أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه – مع مروان بن الحكم ، عندما دخل مروان المصلي في يوم العيد ، واتجه إلى المنبر ليخطب قبل الصلاة ، فجذبه أبو سعيد ، وقال منكراً عليه : غيرتم والله . فقال مروان : قد تُرك ما هنالك .
هكذا أنكر عليه علانية ولم يقل : أكتُبُ له الإنكار في ورقة ، ليكون نصيحة سرية بيني وبينه
المثال الثاني : موقف العز بن عبد السلام ( سلطان العلماء ) مع الملك الصالح أيوب .
كان الملك الصالح أيوب يتولى الشام ، وبسبب خلاف بينه وبين أبناء عمه تنازل للنصارى عن بعض الحصون.
فلما خطب العز بن عبد السلام في جامع بني أمية بدمشق يوم الجمعة كان مما قال : ( اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً ، يُعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهي فيه عن المنكر ). وأفتي الناس بعدم جواز بيع الأسلحة للنصارى الذين أخذوا يشترونها من دمشق .
فغضب الملك ، سجن العز بن عبد السلام ، ومنْ قبله سُجن الإمام أحمد ، وكثير من العلماء: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } . [سورة العنكبوت ، الآية : 2]
ثم أرسل الملك إلى العز في السجن أحد أعوانه وحاشيته ، فقال له: أنا سأتوسط لك عند الملك ليخرجك ، ولكني أريد منك شيئا واحداً فقط ، وهو أن تعتذر إلي الملك وتقّبل رأسه. فقال العز : دعك عني ،والله لا أرضي أن يقبل السلطان يدي ،عافاني الله مما ابتلاكم به ، يا قوم أنا في واد و أنتم في واد.
ذهب الملك لمقابلة قادة النصارى ، فأخذ معه العز بن عبد السلام ، وسجنه في خيمة ، وبينما كان الملك جالساً مع النصارى، إذا بالعز بن عبد السلام يقرأ القرآن ، ويصل صوته إليهم ،
فقال الملك : أتدرون من هذا الذي تسمعون ؟
قالوا : لا .
قال : هذا من أكبر قساوستنا – ولم يقل : علمائنا –
أتعلمون لماذا سجنته ؟ قالوا : لا .
قال : لأنه أفتى بعدم جواز بيع السلاح لكم .
فقال النصارى : والله لو كان هذا قسيسا عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
فخجل الملك وأطرق ، وأمر بالإفراج عن العز بن عبد السلام.
المثال الثالث : موقف الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر مع محمد نجيب - إذ عندما قامت الثورة في مصر، قال محمد نجيب : سنساوي الرجل بالمرأة.
فاتصل به الشيخ الخضر حسين ، وقال له: إما أن تتراجع عن قولك ،أو لأخرجن غداً لابساً كفني - ومعي جميع الأزهريين – في الشوارع ، فإما الحياة ، وإما الموت.
فجاءه محمد نجيب وجاءته الوزارة مرددين: يا شيخنا،يا إمامنا ، نحن نعتذر منك،والكلام كان خطأ.
فقال الشيخ : لا تعتذروا لي ، وإنما أعلنوا الاعتذار للعامة.
فقالوا : صعب جداً أن نعتذر أمام العامة .
فقال: إما أن تعتذر يا محمد نجيب أمام الناس عن كلامك وتنفيه،أو سأخرج للشارع غداً لابساً كفني.
فأعلن محمد نجيب من الغد أن الصحافة كذبت عليه، وأنه لم أقل شيئا مما نشرت عنه .
هكذا يُملي العلم ُ والإيمان على العالم الجرأة في الحق ، فلا تأخذه في الله لومة لائم، فيبرئ ذمته، ويحمي عرضه من أن يجعله الناس هدفاً ، يصوبون إليه سهامهم .
وإقحام ( خوف الفتنة ) تبريراً لكل موقف تنقصه الشجاعة في الحق أمر فيه نظر .