مَسِيرَةُ التَّوْحِيدِ فِي الدِّيَانَةِ النّصْرَانِيَّةِ
(2/2)
ابراهيم الدميجي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
مَسِيرَةُ التَّوْحِيدِ فِي الدِّيَانَةِ النّصْرَانِيَّةِ 1
الحمد لله رب العالمين, وخالق السماوات والأرَضِين, مالك الدنيا والآخرة والدين, وإله الأولين والآخرين, وإليه ترجع أمور العالمين, ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة, سبحانه وبحمده ولا إله إلا هو, وصلى الله وسلم وبارك على خيرته من خلقه, عبده ورسوله محمد وعلى روحه وكلمته المسيح عيسى وعلى إخوتهما الأنبياء ومن تبعهم بإحسان, وبعد:
فهذا هو الجزء الثاني من مسيرة التوحيد في الديانة المسيحية المبدلة (النصرانية) بعد الجزء الأول الذي تناول الطوائف الموحدة داخل إطار النصرانية, فأقول وبالله أصول وأجول وأحاول:
"الكُتُبُ التَّوْحِيدِيَّةِ"
هناك شواهد صارخة واضحة جلية للتوحيد في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد(البيبل) وهي معدودة من المسلمات لدى اللاهوتيين المستقلّين, وبخاصة العهد القديم, ومن ذلك:
"العهدُ القديم"
«أنا الله ولا يوجد إلـٰه آخر» (إشعيا 45: 33).
«اسمع يا إسرائيل الربُّ إلهنا ربُّ واحد» (التثنية 6: 4).
«إنك قد أريت لتعلم أن الرب هو الإله ليس آخر سواه» (التثنية 4: 35).
«ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر» (الملوك 8: 60).
«أنا الرب وليس آخر لا إلـٰه سواي» (إشعيا 45: 33).
"العهدُ الجديد"
«قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلـٰهك تسجد وإياه وحده تعبد» (متى 4: 7).
«أيةُ وصيَّة هي أول الكل فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد... فقال له الكاتب: جيدًا يا معلم بالحق قلت لأنه الله واحد وليس آخر سواه» (مرقس 12: 28- 32).
«وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يوحنا 17: 3).
«قال لهم يسوع لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم، ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يوحنا 8: 39- 40).
وهاهنا بعض الإشارات إلى بعض الكتب التوحيدية من داخل الديانة النصرانية:
1ــ مخطوطات نجع حمادي(1):
في عام (1945م) وبالقرب من قرية نجع حمادي(2) اكتشف القروي أحمد السمّان الذي كان يبحث عن سماد لحقله جرة خزفية فقام بكسرها فوجد فيها مخطوطات قديمة عُرفت لاحقًا بمخطوطات نجع حمادي(3)، وهي تحتوي أناجيل وكتابات غنوصية. وقد أخفى هذا القروي المخطوطات، ولم تعلم بها السلطات إلا بعد عدة أعوام حينما طرحت للبيع في سوق الأنتيكة في القاهرة، فاشترت مصلحة الآثار أحد المجلدات من ذلك السوق، وتم حفظه في المتحف القبطي مع عدم درايتهم بأهميته الحقيقية؛ لعدم وجود خبراء متـخصصين لفحصها.
وقد سنحت الفرصة حينما قدم الفرنسي جين دوريس، وهو من المتـخصصين في المصريات القديمة وزار المتحف المصري، وفحص المخطوط، ثم قال: «إن هذا المخطوط يؤدي إلى تغيير كل ما هو معروف عن أصل الحركة المسيحية!» ومن ثم قامت السلطات بحيازة باقي المجلدات بالشراء أو المصادرة حتى وصل العدد في النهاية إلى (13) مجلدًا تحتوي على (52) نصًا، وتم حفظها في المتحف المذكور، فاكتملت النسخ عدا جزء كبير من المجلد (13) ويحوي خمسة نصوص، وكان التجار قد هرّبوه للبيع في أمريكا، حيث اشتراه جايلز جمسبيل أستاذ تاريخ الديانات بجامعة أوتريش الهولندية لحساب مؤسسة خيرية سويسرية(4)، وبعد إطلاعه عليه تبين له وجود أجزاء ناقصة، فسافر إلى القاهرة واطّلع وحمّل صورًا فوتوغرافية للمخطوطات، وعاد للفندق لقراءتها، وكانت المفاجأة التي ألجمته حينما وجد في مقدمتها: «هذه هي الكلمات السرية التي قالها يسوع الحي، ودوّنها ديدموس جوداس توماس»(5).
وكان قد تم العثور قبل ذلك بنصف قرن في مصر على قصاصة من ورق البردي، تحتوي على جزء من إنجيل توماس، ولكن هذه المرة عثر على الإنجيل التوماسي كاملًا.
كما تأكد جمسبيل أن تلك المخطوطات كلها ترجع إلى القرون الميلادية الأولى، ومن بينها أناجيل لم تكن معروفة من قبل مثل إنجيل توماس (الكامل) (6)، وإنجيل فيليب، وإنجيل الحق، وإنجيل المصريين، إلى جانب كتابات منسوبة للحواريين مثل كتاب جيمس(7)، وخطاب بطرس إلى فيليب، إضافة إلى رؤيا بولس.
وليس هناك خلاف بين الباحثين في توقيت إخفاء هذه المجلدات، وأنه في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، وهي الفترة التالية لمجمع نيقية(8) سنة (325م) وهو العصر الذي أصدرت فيه الأوامر الإمبراطورية والكنسية الرومانية بإحراق الأناجيل المخالفة، وقتل كل من توجد عنده(9) مما اضطر مالكيها لإخفائها بهذه الطريقة، ومما يدل على ذلك أن أوراق البردي المستـخدمة في تبطين الأغلفة الجلدية تعود إلى تلك الفترة الزمنية.
لكن خلاف الباحثين إنما يكمن في توقيت كتابة تلك المخطوطات(10)، وقد فاجأ هيلموت كويستر أستاذ التاريخ المسيحي بجامعة هارفارد الأمريكية حينما أرجع أصل إنجيل توماس إلى منتصف القرن الميلادي الأول، أي إلى تاريخ يسبق ظهور أي من كتابات العهد الجديد كلها!
وقد تأخر المتحف القبطي في نشر هذه المخطوطات، حتى طالبت هيئة اليونسكو بذلك، فتم نشرها عام (1972م)، ثم قام الأستاذ الأمريكي جيمس روينسون مدير معهد دراسات التاريخ المسيحي بتكوين لجنة دولية لدراسة وترجمة نصوص مكتبة نجع حمادي القبطية(11) مما زاد من اهتمام طلاب التاريخ المسيحي بتعلم اللغة القبطية(12).
وعند تأمل هذه المخطوطات ندرك مغزى تردّد المتحف القبطي في نشرها ومماطلته، وحقيقة كلام جين دوريس: «إن نشره سيغيّر كل ما هو معروف في أصل الديانة المسيحية» وليست مسألة تاريخ فقط، بل مسألة اعتقاد وأصول، فأناجيل العهد الجديد على أن المسيح مات على الصليب، إلا أن هذا الحدث ليس غائبًا فقط عن أناجيل نجع حمادي القبطية، بل إن بعضها ينفي صراحة هذه القصة ويسخر منها ومن قائليها.
جاء في إنجيل بطرس(13) على لسان بطرس: «رأيته يبدو كأنهم يمسكون به وقلت ما هذا الذي أراه يا سيد(14). هل هو أنت حقًا من يأخذون أم أنهم يدقون قدمي ويدي شخص آخر... قال لي المخلص... من يدخلون المسامير في يديه وقدميه هو البديل فهم يضعون الذي في شبهه العار أنظر إليه وانظر إلي» وهذا شاهد صدق على ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم: "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً . وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن نبه قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً" [النساء: 157ــ 159].
وفي كتاب (سيت الأكبر) على لسان المسيح: «كان شخص آخر هو الذي شرب المرارة والخل لم أكن أنا كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه كان آخر هو الذي وضعوا الشوك على رأسه وكنت أنا مبتهجًا في العلا أضحك لجهلهم» وفي (أعمال يوحنا) على لسان المسيح: «لم يحدث لي أي شيء مما يقولون عني»(15).
وهنا مسألة أخرى وهي الصليب القبطي، ما هي دلالته ومغزاه وإشارته؟ وما الفرق بينه وبين الصليب الروماني؟ ومن أخذ من الآخر؟
والجواب: أن بينهما بونًا شاسعًا فالصليب القبطي يرمز إلى الحياة، أما الروماني فيرمز إلى الموت، وهذا الصليب القبطي هو (عنخ) مفتاح الحياة عند المصريين القدماء، ومن ثم اتـخذه المسيحيون الأوائل رمزًا لحياة المسيح وروحه التي لم تمت، ولم تستـخدم الكنائس المصرية(16) الصليب الروماني إلا في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي بعد سيطرة كنيسة روما عليها، علمًا بأنه لا يوجد صليب روماني يعود تاريخه إلى القرون الثلاثة الأولى حتى خارج مصر بل كلها تعود إلى الصليب القبطي، كما في المتحف القبطي في القاهرة.
وبعد أن سيطرت كنيسة روما على الأوضاع أعلنت فيما بعد عن العثور على ما قيل إنه الصليب الأصلي، وتطور الأمر حينما شرعت الكنيسة الرومانية في وضع صور لجسد المسيح عليه السلام على الصليب الخشبي.
وقد أثار كتاب (تطور الأناجيل) الذي صدر للسياسي البريطاني باول ضجة كبيرة عندما أعلن أن قصة صلب الرومان للمسيح عليه السلام لم تكن موجودة في النص الأصلي للأناجيل(17).
وهناك خلافات جوهرية بين التصورات المسيحية السائدة الآن وبين تصورات المسيحيين الأوائل الذين دونوا مخطوطات نجع حمادي(18)، ومن تلك الأمور: أنه ليس هناك إشارة إلى ولادة المسيح في بيت لحم، ولا ذكر لولادته في عهد هيرودس، ولا زيارة المسيح للقدس، ولا لقائه بيوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا عليهما السلام) عند نهر الأردن، ولا تعميده، ولا أنه جاء من الناصرة، كذلك فقد قلب التصوّر الخاص عن مريم المجدلية، ويشيد بها وبصلاحها وأنها ليست من الخاطئات، بل هي من تلاميذ المسيح المقربين، وأن لها إنجيل خاص بها مدرج ضمن تلك المخطوطات، وأهم من هذا كله إنكار تلك المخطوطات الأناجيل التي فيها إثبات صلب المسيح عليه السلام وهو عمدة اعتقادات المسيحية الحالية المبدّلة!
2ـ إنجيل توما (توماس):
وهو من ضمن مخطوطات مكتبة نجع حمادي، ويختلف هذا الإنجيل الفريد عن باقي الأناجيل في أنه لا يحتوي على قصة أو رواية للأحداث، فهو إنجيل توجيهي وليس تاريخي، وهو مكون من (114) قولًا منسوبة للمسيح عليه السلام، ويصعب على مخالفيه وصفه بالهرطقة(19) إذ أنه يحتوي على عدد كبير من أقوال المسيح عليه السلام المبثوثة في الأناجيل المعتمدة من العهد الجديد، إلى جانب أقوال ووصايا لم تظهر بها(20)، فأقواله موجودة بشكل أولي وليست على شكل سرد قصص، مما يوحي بأنه أقدم الأناجيل المعروفة حتى الآن، فبينما ترجع كتابة الأناجيل المعتمدة إلى ما بعد عام (70م) فإنا نجد أن هذا الإنجيل (توماس) يعود إلى عشرين سنة قبل هذا التاريخ، وبهذا يكون هو أقدم الأناجيل المعروفة على ظهر المعمورة!
والملفت في هذا الإنجيل العتيق إيراده للمعجزات التي جرت على يد المسيح عليه السلام كما ذكرها القرآن الكريم وقصها وسردها، وكان نزوله بعد نحو (600) عام من كتابة هذا الإنجيل، بل إنه ليذكر معجزات لم تشر إليها الأناجيل المعتمدة لا من قريب ولا من بعيد، كمعجزة النخلة، وتكلمه في المهد، ومعجزة خلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ومعجزة إنبائه لهم عما يأكلون وما يدخرون، ولم يذكر قصة الصلب نهائيًا، وكل هذه الأمور قد شهد له القرآن بصحتها(21)، فالقرآن هو الكتاب الخاتم والمهيمن والشاهد على الكتب قبله.
ومما ورد في هذا الإنجيل: «... لقد كان شخصًا آخر هو الذي شرب الماء والخل(22) ولم يكن إياي ضربوني بالقصب لقد كان شخصًا آخر هو شمعون الذي حمل الصليب على كتفه لقد كان شخصًا آخر الذي وضعوا على رأسه التاج والشوك وأنا كنت أضحك من جهلهم».
لذلك فلا نعجب حينما تحرم الكنيسة هذا الإنجيل الشامخ مع عجزها عن تقديم أدلة مقنعة لرفضه ورده, وإنا لنسأل: كيف يحق لرجال الكنيسة إعطاء صفة القانونية للأناجيل الأربعة، وإبطال صحة هذا الإنجيل، واعتباره أبو كريفا(23)؟!
والجواب الواضح موجود في ثنايا هذا الإنجيل الناقض لعقائدهم من الأساس، تلك العقائد البولسية الفلسفية الوثنية التي زورت باسم المسيح وبوركت من رجال الدين المبدّل في مجمع نيقية، لأنه بإنكاره صلب المسيح عليه السلام ونقض ذلك الأصل، فالنتيجة خرور السقف على من تحته من المثلثة والمؤلهة للبشر، لذا فلابد من تغييب هذا الصوت بأي طريقة كانت(24).
ومما جاء في هذا الإنجيل العتيق فقرة (12): «قال التلاميذ ليسوع نعلم أنك سوف تتركنا فمن حينئذ سيكون قائدنا فقال لهم يسوع حيثما تكونون عليكم أن تذهبوا إلى يعقوب البار...» وإذا رجعنا لسفر التكوين فسنرى الآتي: «وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب» (تكوين 25: 26) فمعنى يعقوب هنا هو العاقب الذي يعقب من سبقه، والذي سبقه هنا هو المسيح عليه السلام، والعاقب هو أحد أسماء محمد عليه الصلاة والسلام، فقد صح عنه قوله: «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد»(25) إذن فهذه إحدى وصايا المسيح عليه السلام لتلاميذه.
3ــ إنجيل برنابا:
وهو بالطبع من الأناجيل المحرمة والموصومة بالتزييف (الأبوكريفا) عند الكنائس العامة؛ لأنه يناقض عقيدتها جملة وتفصيلا، فهو إنجيل طراز وحده في كل أموره.
وقد ثار جدل كثير حول هذا الإنجيل الفريد، فهو مختلف تمامًا عن بقية الأناجيل المعترف بها سواء في التصوّر والاعتقاد، كنقضه ألوهية المسيح عليه السلام وتأكيده لنجاته من الصلب، وتنديده ببولس ورفضه لدعوته وتبشيره، وتصريحه مرات عديدة ببشارات المسيح عليه السلام بأخيه محمد عليه السلام، أو بطريقة تقسيمات فصوله، فليس فيه أسفار وإصحاحات وأعداد، إنما هي فصول متوالية، وقد قسم الإنجيل إلى (222) فصلًا.
وبرنابا صاحب هذا الإنجيل أو المنسوب إليه، هو أحد حواريي المسيح عليه السلام واسمه يوسف بن لاوي بن إبراهيم، وهو إسرائيلي من سبط لاوي، من أهل قبرص، وقد باع حقله وجاء بثمنه ووضعه عند أرجل تلاميذ المسيح عليه السلام (أعمال الرسل 4: 35ــ 37). وقد اشتهر بصلاحه وتقواه، وهو من تولى تقديم بولس للتلاميذ وزكاه عندهم (أعمال 9: 27)، وقد ذهب للدعوة في أنطاكية، ثم وبصحبته بولس (شاول سابقًا) إلى طرسوس سنة كاملة، ثم تشاجر مع بولس واختلف معه وافترقا (أعمال 11: 25، 26، 15: 29) وبعد هذا الشجار اختفى ذكر برنابا من العهد الجديد(26)، وذكر المؤرخون أن وفاته كانت سنة (61م) في قبرص حيث قتله الوثنيون رجمًا بالحجارة، ودفنه ابن أخته مرقس المنسوب له الإنجيل الثاني.
وقد ثبت تاريخيًا وجود إنجيل لهذا الرجل التقي الصالح برنابا، وقد عثر العالم الألماني تشندروف (1859م) على رسالة برنابا ضمن المخطوطة السينائية التي عثر عليها، مما يشير إلى اعتبار هذا الإنجيل مقدسًا فترة من الزمان(27).
وفي عام (366م)(28) صدر أمر البابا دماسس بتحريم مطالعة هذا الإنجيل، وأكد هذا التحريم مجلس الكنائس الغربية (382م) ثم أكده كذلك الباب أنوسنت عام (465م) ثم البابا جلاسيوس الأول عام (492م)(29) مما يدل على العداء المستحكم من الكنيسة العامة لهذا العدو (التقليدي).
ثم اختفى ذكر الإنجيل أحد عشر قرنًا من الزمان حتى عثر عليه الراهب الإيطالي فرامينو.
وقصة اكتشاف فرامينو لهذا الإنجيل كما يرويها المستشرق الشهير سايل: «أن راهبًا إيطاليًا يدعى فرامينو(30) عثر في أواخر القرن السادس عشر على رسائل لأحد القساوسة، وفي عدادها رسالة تندد بالقديس بولس، وأن هذا القسيس أسند تنديده إلى إنجيل برنابا، فأصبح الراهب من ذلك الحين شديد الشغف بالعثور على هذا الإنجيل، واتفق أنه أصبح حينًا من الدهر مقربًا من البابا سكتس الخامس، فحدث يومًا أنهما دخلا معًا مكتبة البابا فأخذ النوم البابا، فأحب الراهب فرامينو أن يقضي الوقت بالمطالعة إلى أن يفيق البابا، فكان الكتاب الأول الذي وضع يده عليه هو إنجيل القديس برنابا نفسه، ففرح به جدًا وخبأه في أحد ردني ثوبه، ولبث إلى أن استفاق البابا فاستأذنه بالانصراف حاملًا ذلك الكنز معه، فلما خلا بنفسه طالعه بشوق عظيم، واعتنق على إثر ذلك الإسلام(31).
وانقطع ذكر هذه النسخة حتى فجر القرن الثامن عشر، ففي العام (1709م) عثر كريمر وهو أحد مستشاري ملك روسيا على النسخة الوحيدة الموجودة اليوم من إنجيل برنابا، والتي أهداها الملك للأمير أوجين سافوي، ثم استقرت عام (1738م) في مكتبة فيينا(32). وبعد ما شاع خبرها صار لذلك دوي عظيم وزلزال هز الكنائس، حتى أجمعوا أمرهم على حربه وإطفاء نوره بتكذيبه ومحاربة نشره، وقد ألفوا ضده المؤلفات(33).
وقد ترجم هذا الإنجيل للعربية على يد الأستاذ خليل سعادة(34)، وقدّم للترجمة بمقدمه وذكر فيها وجود نسخة أسبانية تناقلها عدد من المستشرقين في القرن الثامن عشر، وانتهت إلى يد الدكتور هوايت الذي ذكر بأنها مترجمة عن نسخة البلاط الملكي الإيطالي، وقد حكم المترجم أن هذا الإنجيل مختلق مزور، وأنه قد كتب بيد بعض المسلمين من العصور الوسطى، وقد ذكر لذلك شبهًا فندها المحققون، ومنها:
تصريحه بالبشارة باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والجواب عن ذلك: أن هذا من حجج ثبوته لا شبه تزويره، وأنه لما صرح بذلك دل على صراحته وقوته وعفويته.
ومنها: تكذيبه لألوهية المسيح وتشنيعه على ترك الختان. والجواب: أن هذا دليل أصالته؛ لأن القول بألوهية المسيح عليه السلام محدث حتى عند محققي اللاهوت، وأما الختان فهو الشريعة الموسوية التي جاء المسيح عليه السلام بتكميلها لا نقضها، إنما نقضها بولس، كما تشهد بذلك أسفار العهد الجديد... وقد قدم المثبتون لأصل(35) هذا الإنجيل عدة ذرائع لقبوله، ومنها:
اختلاف صياغته وأسلوبه عن طريقة المسلمين، فليس من المسلمين من يذكر الله تعالى ولا يثني عليه، ويذكر الأنبياء ولا يسلم عليهم، كذلك فقد ذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم باسمه محمد ولو كان كاتبه مسلمًا لذكره باسمه الثاني المنصوص عليه في القرآن الكريم أحمد ليوافق نص آية سورة الصف (6) "ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" فلم يذكره بهذا الاسم مرة واحدة!
كذلك فلم يذكر قصة كلام المسيح عليه السلام في المهد المذكورة في القرآن الكريم.
وحينما يدفع المسلمون القول بأنه إنجيل منحول، فليس لجزمهم بصحة نسبته لبرنابا الحواري، بل لجزمهم أن هذا الإنجيل لا يقل بحال من الأحوال عن سائر الأسفار في العهد الجديد التي لم يصل إلينا أيٌ منها بطريق موثوق، بل إن لإنجيل برنابا مزية عليها بكون كاتبه يصرح في ثناياه أنه برنابا الحواري ويصرح بخطابه المباشر للمسيح عليه السلام، بل قد افتتح ديباجته بقوله: «برنابا رسول يسوع الناصري».
ثم إن أسلوب الكاتب ومعلومات الإنجيل يؤكدان بأن هذا الكاتب ضليع في علوم الكتاب المقدس متصف بعمق واسع، وصلاح ظاهر، يليق بمثل برنابا داعية المسيحية الأصيلة الأولى في عهد جيلها الأول.
وقد استشهد برنابا باثنين وعشرين سفرًا من العهد القديم، في حين أن الأناجيل المعتمدة مجتمعة لم تزد في استشهاداتها على أربعة أسفار فقط، وحرفتها وزادت فيها بخلاف أمانة برنابا.
أضف إلى ذلك أن المسيح في إنجيل برنابا قد استشهد بكتب حذفها أهل الكتاب من كتابهم قائلين إنها مدسوسة (أبوكريفا) ولم يؤمنوا بصحتها إلا سنة (1950م) فقط! لذا فيستحيل أن يكون كاتب هذا الإنجيل مدلسًا، بل قد سمعها ودوّنها من لسان المسيح نفسه. وقد أثبت علماء أهل الكتاب صدقه، ومن أمثلة ذلك ما جاء في الفصل (50) حينما استشهد بكتاب سوسنة، وفي الفصل (67) استشهد بكتاب حكمة سليمان، وهما الكتابان اللذان اعترفت بهما كنيستا الأرثوذكس والكاثوليك عام (1970م)(36) وأعلنتا قدسيتهما.
ومما يرجح ميزان هذا الإنجيل أنه يحتوي على كل ما ذكرته الأناجيل الأربعة مجتمعة عن المسيح ــ تقريبًا ــ ما عدا تأليه المسيح وصلبه والثالوث، وقد صيغ هذا الإنجيل بأسلوب بديع أجمل وأوضح منها، بل قد زاد عليها كثيرًا من الأحداث والأخبار.
كما أنه قد ذكر حقائق أخطأت فيها الأناجيل المعتمدة، ثم جاءت الدراسات المسيحية الحديثة لتؤكد صحة ما جاء فيه، ومنها:
1ــ قال برنابا (ف97): «إن المسيح أرسل (72) تلميذًا»، وفي لوقا (70) فقط، في الطبعة القديمة للكتاب المقدس، وجاءت الطبعة الحديثة باسم (كتاب الحياة) سنة (1982م) لتؤكد صحة كلام برنابا وتنفي كلام لوقا.
2ــ قال برنابا (ف209): «إن سالوما هي شقيقة مريم أم المسيح» بينما قالت جميع الأناجيل بأنها قريبتها، وذكر المترجم المسيحي أن علماء المسيحية قد أكدوا صدق برنابا وصحة خبره.
3ــ ذكر برنابا استشهاد المسيح عليه السلام بكتب يهودية حذفتها الكنيسة المسيحية من البيبل في القرن الرابع بزعم عدم صحتها (ف50، 167) لكنها اعترفت بها لاحقًا.
4ــ قصة الزانية الموجودة في إنجيل يوحنا ذكرها برنابا بصورة مختلفة تمامًا (ف201) وقد أكد المؤرخون المسيحيون صدق رواية برنابا بالحرف.
5ــ كشف إنجيل برنابا الحيرة واللبس عن بعض المواطن والجمل في العهد الجديد(37).
وهناك من طعن فيه بحجة مشابهته لأقوال الشاعر دانتي، والجواب: هو إعادة السؤال بصيغة معاكسة مفادها أن دانتي هو من اقتبس منه لا العكس، ثم إن التشابه لا يعني بالضرورة وجود النقل والاقتباس عن السابق وإلا للزم القول بأن أسفار التوراة التشريعية منقولة من قوانين حمورابي البابلي بجامع التشابه الكبير بينهما، ولا شك أن اليهود والمسيحيين بل والمسلمين يرفضون ذلك إلا باستثناء طروء التزوير والتبديل(38) فأصل التوراة محفوظ وإن طرأ التبديل والتحريف عليه في كثير من مواضعها، قال الله تعالى: "وعندهم التوراة فيها حكم الله" [المائدة 43]، فحتى إن وافقت ذلك القانون فلعل ذلك القانون من بقايا شريعة إمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام، وجاء في التوراة مؤكدًا، أو أن اليهود قد استعاروا بعض الأحكام القليلة أما استنساخ شريعة كاملة (أحكام جزائية وإجرائية) فلا.
هذا في الأحكام، أما الأخبار فلعل الأمر ازداد قليلًا؛ لأنهم يعيشون عبر الأجيال المتعاقبة متلازمة أرض الميعاد وملك الأجداد وملك اليهود... فجيّروا أساطير الأمم والشعوب لدغدغة عواطفهم وإرضاء خيالاتهم مع تحوير المناسب لهم منها.
ومن مزاعمهم كذلك؛ إنه لو كان كاتب هذا الإنجيل قد عاش في العصور الوسطى لندد بالأناجيل المثلثة والمؤلهة للمسيح عليه السلام، والجواب عن عدم ذلك أن زمن كتابة هذا الإنجيل الفريد سابق على دعوى التثليث التي طرأت على المسيحية في القرن الرابع الميلادي.
أما متنه فكان أكثر اتساقًا من جميع الأناجيل المعروفة (المعتمدة والأبوكريفا) متميزًا عنها جميعًا بترابط معانيه، وجمال أسلوبه، وعمق علمه، وهو اللائق حقًا بداعية المسيحية في الصدر الأول برنابا.
وقد كانت مضامين هذا الإنجيل متفقة إلى حد بعيد مع ما يعهد في رسالات الله تعالى لأنبيائه ورسله الكرام وحُقَّ لتولاند (1718م) أن يقول عند ظهور هذا الإنجيل الصادق: «أقول على النصرانية السلام» وقوله: «إن مد النصرانية قد وقف من ذلك اليوم... إن المسيحية ستتلاشى تدريجًا حتى تنمحي من الوجود»(39).
وبينما نرى المسيح عليه السلام في إنجيل برنابًا برًا تقيًا مصليًا صوامًا، كثير الابتهال والدعاء والصبر والخلق الحسن، نراه بمنظار العهد الجديد بخلاف ذلك! إذ تصوره تلك الأسفار بالنزق وضيق العطن والتعالي والسب الشتيمة لتلاميذه «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء» (لوقا 24: 25) والعقوق لوالدته إذا يناديها: «يا امرأة»!! بل وصل الأمر بالسب لمن سبقه من الأنبياء الكرام «الحقّ الحقّ أقول لكم إني أنا باب الخراف جميع الذين أتوا قبلي سراق ولصوص ولكن الخراف لم تسمع لهم أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص» (يوحنا 10: 7ــ 9) (ولاحظ كيف أخذ البابية والبهائية بهذه الإشارات الغنوصية) بل في بعض النسخ القديمة أنه غير صالح في نفسه فتصفه بأنه «أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة» (متى 11: 9).
والعجيب أن بولس قد ذكر في رسالته لأهل غلاطية (2: 7) وجود إنجيلين إنجيل الختان وإنجيل الغرلة، فإنجيل الختان ذكر أنه عند بطرس ولعله إنجيل برنابا ــ أو موافق له ــ لأن برنابا ذكر أنه كان مكلفًا بالكتابة من قبل المسيح شخصيًا، أما إنجيل الغرلة فهو عند بولس كما ذكر عن نفسه وهو واضح من عنوانه، لأنه كان قد ألغى شريعة موسى (الختان) ونقض الناموس حتى يتوافق مع الأمم الوثنية المدعوّة.
وختامًا لمبحث هذا الإنجيل المتميز (برنابا) نقول: إنه كتاب وعظ من الطراز الأول، وقد امتلأ بالحكم النفيسة، والأمثلة البديعة، والوصايا المشرقة المنيفة، اللائقة بنبي من أولي العزم من الرسل عيسى ابن مريم عليه السلام، الذي بعثه الله تعالى إلى أمة الغضب (يهود) وقد غشيتها ثقلة الطين، وغياية الهوى، وتمرد الطباع، فعدلت إلى المادة التي أعشت بصيرتها عن حقيقة الدار الفانية، فحالت بينها وبين إدراك الروحانيات والمثل العليا، فأتاها الإنجيل العيسوي هداية وبشرى، ورحمة ونورًا، مركزًا على جانب الزهديات والروحانيات وتجلية حقائق الإيمان والتوحيد، وزجرهم عن حمأة الشرك، والتعلق بالدنيا، آخذًا بيد من وُفق منهم للسمو فوق الشهوات، والعلو على الماديات، والتحرر من ربقة الذهب والفضة، والحسد والبغضاء والظلم والكبر والشرك والكفر.
والحق أن هذا الإنجيل المهم محتاج إلى إعادة ترجمة من نسخته الأصلية القديمة سواء الإيطالية أو الأسبانية أو ما قبلهما، وأظنها مترددة بين العبرانية والآرامية واليونانية أو بهنّ جميعًا، وهل خزانة الفاتيكان السرية تحوي شيئًا من ذلك(40)!
4ــ إنجيل يهوذا:
وقد ظهر هذا الإنجيل أخيرًا ليستمر كشف الحقائق التي طالما طمستها الكنيسة، حيث ذكرت صحيفة الواشنطن تايمز في عددها الصادر في (7/4/2006م) مقالًا بخصوص إنجيل يهوذا، وأن النقاب قد أزيح عن هذا المخطوط الأثري الذي وجد في أحد كهوف بني مزار بمصر، ويعود تاريخه لبداية القرن الثالث الميلادي، والشاهد من ذلك أن هذا الإنجيل(41) يذكر صراحة أن المسيح يخاطب يهوذا ويقول له: «إنه (أي يهوذا) سوف يختلف عن باقي الحواريين، وأنه سوف يكون الرجل الذي سيضحي به كشبيه لي، يلبس هيئتي أو يلبس ثوبي»(42).
وهنا نقف ونتأمل هذا النص، مع قول الحق سبحانه: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" [النساء: 157] فهذه شهادة من هذا الإنجيل الذي كتب قبل الإسلام بنحو أربعة قرون، ويشهد لصحة ما في القرآن العظيم(43) وينقض عقيدة الكنيسة العامة من القواعد.
ولم يُذكر في القرآن الكريم أن إيقاع الشبه بيهوذا أو غيره كان لخيانته، إنما يذكر العهد الجديد أن يهوذا خان المسيح عليه السلام ودل الجند على مكانه ثم ندم فيما بعد وقتل نفسه. ولم يذكر الله تعالى في القرآن العظيم كذلك أن إيقاع الشبه بيهوذا كان باختياره وتضحيته بنفسه من أجل فداء نبيه الكريم... بل ولم ينص صراحة في كيفية التشبيه، لكنه أطلقه "شبّه لهم" والاحتمالات في كيفية الاشتباه أو التشبيه واسعة.
وإذا أخذنا باحتمال تضحيته بنفسه ــ كما نطق به إنجيله ــ فقد حللنا بذلك إشكال رواية إنجيل متى التي ذكرت تكريم يهوذا مع التلاميذ بأنهم سيحاكمون بني إسرائيل ــ ولعل المراد بهذه المحاكمة على فرض صحتها مجرد الشهادة، فالأنبياء الكرام لا يحق لهم ذلك فضلًا عن من دونهم بل الحكم لله وحده "مالك يوم الدين" [الفاتحة: 3](44).
5ــ مخطوطات البحر الميت:
بعد اكتشاف مخطوطات نجع حمادي بسنتين ظهرت مخطوطات كهوف قمران(45) قرب البحر الميت عام (1947م) وكان لظهورها دوي هائل هز الأوساط اليهودية والمسيحية على السواء، فالجميع كانوا متعطشين لها، فأقدم نسخة عبرية للعهد القديم هي المازورية (الماسورية) وهي تعود إلى القرن العاشر بعد الميلاد، وفيها اختلافات كثيرة مع النسخة السبعينية اليونانية المترجمة في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، إضافة لاختلافاتها مع نسخة السامريين، لذلك احتاج اليهود والمسيحيون ــ والبروتستانت بوجه خاص ــ إلى مرجح لهذه النسخ المتضادة، وقد كانت النتيجة أن وجدوها خليطًا بين هذه النسخ الثلاث مع زيادات ونقائص.