الغَرفة في
تصحيح حديث صيام يوم عرفة
(يُكفر السنة الماضية والباقية)
1433هـ - 2012م
إعداد: تركي بن مبارك البنعلي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمد لله الذي له التشريع والسيادة, والصلاة والسلام على خير خلقه وعباده, وعلى آله وصحبه أهل الديانة والريادة, وعلى من اتبعهم بإحسان دون نقص أو زيادة, أما بعد:
فقد اشتهر عندنا في البحرين رجل صاحب غرائب, وشذوذات متتالية وعجائب, فيوم يقول بالجهر في صلاة الجنائز! ويوم يقول بأن الطواف بالبيت لغير الحاج والمعتمر غير جائز! وأيام وأيام في الترقيع للأمراء والحكام, وثالثة الأثافي أنه يبدع من عمل بحديث عرفة وصام! فأخرج كتاباً مهلهلاً في تضعيف ما أخرجه مسلم, [1] وقام بنشره على كل مسلم! بل قام أصحابه باختصار كتابه في منشورات, ولم يكتفوا بتوزيعها في المساجد والطرقات, بل إنه من المضحك المبكي نشرها في رياض الأطفال من قبل بعض المعلمات!
وكم ذا بمصرَ من المضحكاتِ ***ولكنه ضحكٌ كالبكا! [2]
ولكي لا يلتبس الأمر على أحد من المسلمين, قمت بذكر بعض من صحح الحديث من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين.. سواء ممن نص على ذلك, أو أشار أو أقر ذلك, وقد رتبتهم على تاريخ الوفاة فيما يلي, -اسأل الله أن يغفر لهم ولي-:
1- الإمام أبو حسين مسلم بن الحجاج النيسابوري رحمه الله (ت:261هـ) حيث أخرجه في صحيحه [انظر: صحيح مسلم ح 2746-2749].
2- الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي رحمه الله (ت: 297هـ), وقد قال عنه: "حديث أبي قتادة حديثٌ حسن؛ وقد استحب أهل العلم صيام يوم عرفة إلا بعرفة".اهـ [تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 3/518].
3- الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي رحمه الله (ت: 303هـ), وقد قال عنه: "هذا أجود حديث عندي في هذا الباب".اهـ [السنن الكبرى للنسائي 3/224].
4- الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله (ت: 310هـ) حيث قال عنه : "هذا خبر عندنا صحيح سنده، لا علة فيه توهنه، ولا سبب يضعفه؛ لعدالة من بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نقلته".اهـ [تهذيب الآثار - مسند عمر 1/290].
5- الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي رحمه الله (ت: 311هـ) حيث أخرجه في عدة مواضع من صحيحه [انظر: صحيح ابن خزيمة 3/288 ح 2087، 3/296 ح 2111، 3/298 ح 2117، 3/301 ح 2126].
6- الإمام أبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الأسفراييني رحمه الله (ت:316) حيث أخرجه في صحيحه [انظر: المسند الصحيح ح2545].
7- الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي رحمه الله (ت: 321هـ) [انظر: شرح معاني الآثار 2/72 ].
8- الإمام أبو حاتم محمد بن حبان رحمه الله (ت: 354هـ) حيث أخرجه في موضعين من صحيحه [انظر: الإحسان 8/394 ح 3631، 8/395 ح 3632].
9- الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم (ت: 405هـ) [انظر: المستدرك على الصحيحين 2/658 ].
10- الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمه الله (ت: 456هـ)[انظر المحلى 7/18 ].
11- الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر رحمه الله (ت: 463هـ) [انظر: التمهيد 21/162 ].
12- الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي رحمه الله (ت: 516هـ) [انظر: شرح السنة 6/343 ].
13- القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله (ت: 544هـ) [انظر: إكمال المعلم 4/75].
14- الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت:620هـ), حيث قال: "قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن صيامه يكفر سنتين".اهـ [المغني 3/105].
15- الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله (ت: 676هـ) [انظر: شرح النووي على مسلم 2/85].
16- شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله (ت: 728هـ) حيث قال: "صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة)".اهـ [مختصر فتاوى ابن تيمية للبعلي /290].
17- الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي رحمه الله (ت: 748هـ) [انظر: سير أعلام النبلاء 10/684].
18- الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية رحمه الله (ت: 751هـ) حيث قال: "صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن صيامه يكفر سنتين".اهـ [تهذيب السنن 7/77].
19- الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله (ت: 852هـ). [انظر: فتح الباري 4/237].
20- الإمام أبو عبد الرحمن شرف الحق محمد أشرف الصديقي العظيم آبادي (ت: قبل 1322هـ). [انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 7/42].
21- الإمام أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري رحمه الله (ت: 1353هـ). [انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 3/518].
22- شيخ مشايخنا محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (ت: 1420هـ) [انظر: صحيح سنن الترمذي (749), وصحيح سنن ابن ماجه (1756-1757), وإرواء الغليل (955)].
23- الشيخ صفي الرحمن المباركفوري رحمه الله (ت:1427هـ) [انظر: منة المنعم في شرح صحيح مسلم 2/199-200].
24- شيخنا المحدث شعيب الأرنؤوط حفظه الله, وقد قال لي عن من ضعفه: "غلطان, غلطان, الصواب أنه حديث صحيح, أولاً: أنه في مسلم, ثانياً: لم أر أحداً من النقاد تكلم على هذا الحديث".اهـ
25- شيخنا العلامة أبو أويس محمد الأمين بو خبزة حفظه الله. [نقلاً عن شيخنا الحدوشي].
26- شيخنا المحدث عبد الله بن عبد الرحمن السعد حفظه الله.
27- شيخنا العلامة أبو الفضل عمر بن مسعود الحدوشي حفظه الله, وقد قال لي: "الحديث صحيح, وقد تلقته الأمة بالقبول, وأما من ضعفه فعلى أي شيء استند؟! أتى بما لم يأت به الأوائل!".اهـ
28- شيخنا أبو صهيب صفاء الضوي أحمد العدوي حفظه الله, قال عنه: "صحيح".اهـ [انظر: إهداء الديباجة بشرح سنن ابن ماجة 2/396].
29- شيخنا المحدث سعد بن عبد الله الحميد حفظه الله, وقد قال لي: "من الذي أعله غير صاحبكم!".اهـ
30- شيخنا المحدث عامر صبري التميمي حفظه الله, وقد قال لي: "الحديث في صحيح مسلم وهذا كاف, ثم إن للحديث شواهد ومتابعات غير رواية مسلم, فلا يجوز أن يتكلم بدين الله بغير علم ويشذ عن إجماع الأمة".اهـ
فهذه غرفة من معين علماء الحديث الفحول, لم نقف على أحد منهم حكم على الحديث بأنه معلول, وكون حديث أبي قتادة الأنصاري, قد أخرجه الجماعة[3] إلا البخاري, لا يعني إعلال الإمام البخاري له! كما زعم المردود عليه, فقال في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه: "إذاً هذا الحديث معلول ضعيف عند البخاري.. ولما تعرض البخاري لصيام يوم عرفة في صحيحه لم يورد شيئا في فضل صيامه".اهـ [انظر: جزء فيه تخريج حديث صوم يوم عرفة ص60].
وللإجابة على هذا الكلام المزعوم, والتخرص المذموم, الناتج عن تلكم الفهوم! [4] لابد من مقدمتين:
المقدمة الأولى: ليس كل حديث صحيح, قد أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه, بل إن البخاري طلب الاختصار في صحيحه, وذلك يبدو واضحاً من عنوان كتابه الصحيح, حيث أسماه بـ "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسننه وأيامه".اهـ كما ذكر ذلك الإمام ابن الصلاح رحمه الله في مقدمته (ص24-25), والإمام أبو نصر الكلاباذي في أوائل كتابه "رجال صحيح البخاري" (1/24), والإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله في الفهرست (ص45), والإمام النووي رحمه الله في كتابه "تهذيب الأسماء واللغات" (1/73), والإمام العيني رحمه الله في "عمدة القاري" (1/5) وغيرهم الكثير..
المقدمة الثانية: إن شرط الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه أقوى من شرط الإمام مسلم رحمه الله, فالإمام مسلم رحمه الله يشترط المعاصرة بين الراويين مع إمكانية اللقاء, أما الإمام البخاري رحمه الله فيشترط ثبوت اللقاء,[5] قال الإمام السخاوي رحمه الله: "وممن صرح باشتراط ثبوت اللقاء علي بن المديني والبخاري وجعلاه شرطاً في أصل الصحة".اهـ [فتح المغيث 1/165].
وعليه؛ فإن الإمام البخاري رحمه الله لما أخرج في صحيحه, تحت "باب صوم يوم عرفة": حديث أم الفضل بنت الحارث: "أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فقال بعضهم: هو صائم, وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبنٍ وهو واقفٌ على بعيره فشربه".
وحديث ميمونة رضي الله عنها: "أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة, فأرسل إليه بحِلاب وهو واقف في الموقف, فشرب منه والناس ينظرون".
لما أخرج هذين الحديثين إنما هو اختصار منه على أصح الصحيح, لا سيما وأن حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه ليس على شرطه, لذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "كأنه لم تثبت الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه, وأصحها حديث أبي قتادة: (أنه يكفر سنة آتية وسنة ماضية) أخرجه مسلم وغيره, والجمع بينه وبين حديثي الباب أن يحمل على غير الحاج أو على من لم يضعفه صيامه عن الذكر والدعاء المطلوب للحاج".اهـ [فتح الباري 4/301].
وإن مما يؤكد لك كون الإمام البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه لأنه ليس على شرطه, أن الإمام البخاري رحمه الله قال عن عبد الله بن معبد الزماني راوي هذا الحديث عن أبي قتادة الأنصاري, قال: "ولا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة".اهـ [التاريخ الكبير 3/67].
وقال أيضاً: "عبد الله بن معبد الزماني البصري عن أبي قتادة، روى عنه حجاج بن عتاب وغيلان بن جرير وقتادة، ولا نعرف سماعه من أبي قتادة".اهـ [التاريخ الكبير 5/198].
وعبارات الإمام البخاري هذه ليس فيها ثبوت عدم السماع, بل كل ما فيها هو: عدم ثبوت السماع –عنده-, وبين الأمرين فرق عند أرباب هذا الفن, وبون عند المحقق الفطن!
وكون حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه ليس على شرط البخاري لا يعني بالضرورة ضعفه –كما تقدم- فليتنبه!
ثم إن ما أخرجه البخاري رحمه الله مما وافق شرطه يدل على استحباب صيام يوم عرفة, وأن ذلك معروف لدى الصحابة رضي الله عنهم! قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله: (في صوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم) هذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفاً عندهم معتاداً لهم في الحضر, وكأن من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة, ومن جزم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافراً, وقد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلاً عن النفل!".اهـ [فتح الباري 4/301].
ولو سلمنا بضعف الحديث من باب الجدل, وزاحمنا بأولئك الجبال قول ذلك الرجل, إلا أن حديث صيام يوم عرفة له شواهد كثيرة, يعرفها المتضلع بكتب الحديث والسنن والسيرة! بل إن الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله عده في الأحاديث المتواترة.. [انظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص135].
إذن فكلام المردود عليه لا محل له من الإعراب! ولا يحاكى إلا بخزعبلات الأعراب! فكيف له أن يرد المتواتر؟! بكلام سمج متناثر؟!
كَـنَـاطِـحٍ صَـخــرَةً يَـوْمــاً لـيـوهـنـهــا *** فَــلَــمْ يَـضِــرْهــا وَأوْهَـى قَـرْنَهُ الـوَعِلُ! [6]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسين..
وكتب عجلاً: تركي بن مبارك البنعلي
أبو سفيان السلمي
7/ذو الحجة/1433هـ
23/10/2012م
إذا ما قَتَلْتَ الشيء علمًا فقُلْ به **** ولا تقُلِ الشيءَ الذي أنت جاهلُهْ
فمن كان يَهْوَى أن يُـرى مُتَصَـدِّرًا **** ويـكْــرَهُ "لا أدري" أُصيـبــتْ مَقَاتِلُــهْ! [7]
-------------------------------------
[1] عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سُئل عن صيام يوم عرفة قال: (يكفر السنة الماضية والباقية), وفي رواية: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
[2] من شعر أبي الطيب المتنبي, وضبطه بعضهم:
وماذا بمصرَ من المضحكاتِ *** ولكنه ضحكٌ كالبُكا
انظر: ديوان أبي الطيب المتنبي ص35.
[3] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1162) وقد تقدمت الإشارة لذلك, والإمام أبو داود في سننه (2425), والإمام الترمذي في سننه (749), والإمام النسائي في السنن الكبرى (2381), والإمام ابن ماجة في سننه (1730), وغيرهم..
[4] كما قال أبو الطيب المتنبي:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً *** وآفتهُ من الفهمِ السقيمِ
ولكن تأخذ الآذان منه *** على قدر القرائح والفُهومِ!
وضبطه بعضهم:
ولكن تأخذ الآذان منه *** على قدر القرائح والعلومِ
انظر: ديوان أبي الطيب المتنبي ص501.
[5] وقد رد الإمام مسلم رحمه الله على من يشترط هذا الشرط في مقدمة صحيحه.
[6] من شعر الأعشى, وبعضهم ضبطه:
كَـنَـاطِـحٍ صَـخــرَةً يَـوْمــاً لـيـَفْلِقَهَا *** فَــلَــمْ يَـضِــرْهــا وَأوْهَـى قَـرْنَهُ الـوَعِلُ
انظر: شرح المعلقات السبع للتبريزي ص204.
[7] من شعر حارثة بن بدر الغدانِي.