هل أٌبيح للنبي صلى الله عليه وسلم التزوج على نسائه قبل وفاته ؟
السؤال: سمعتُ أنَّ الله قد حرَّم على النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج على نسائه أخريات ، وحرَّم عليه أيضاً أن يطلقهن ، ثم بعد ذلك نسخ الحكم ، وأحل الله له أن يتزوج عليهن ، وأن يطلقهن ، فهل هذا صحيح ؟ .
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة حكم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع ، هل هو على الإباحة أن ينكح من يشاء ، أو هو ممنوع ؟ .
والذي يظهر – والعلم عند الله – أن الله تعالى منع نبيه صلى الله عليه وسلم من التزوج على نسائه رضي الله عنهن أولاً بقوله تعالى ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ) الأحزاب/ 52 ؛ إكراماً لنسائه ؛ لأنهن اخترن الله ورسله والدار الآخرة عندما خيَّرهن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نُسخ هذا الحكم المانع بحكم آخر يبيح له صلى الله عليه التزوج بغيرهن ؛ وذلك إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم .
ثم أكرم النبي صلى الله عليه وسلم نساءَه بأن لم يتزوج عليهنَّ ، فكانت المنَّة له عليهن بذلك .
ثانياً:
اختلف العلماء فيما نسخ ذلك المنع ، على ثلاثة أقوال :
1. القول الأول : أن الناسخ هو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الأحزاب/ 50 .
ولا يشكل كون الآية الناسخة قبل المنسوخة في المصحف ؛ إذا العبرة بالنزول وليس بالتدوين والكتابة ، وثمة موضع آخر – عند الجمهور – يشبه هذا ، ولم يستنكروا كون الآية الناسخة قبل المنسوخة في ترتيب المصحف ، والآيتان هما : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) البقرة/ 234 , وهي ناسخة – عند الجمهور - لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) البقرة/ 240 .
قال القرطبي – رحمه الله - :
ويبيِّن لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم : أن قوله عز وجل ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ) منسوخة على قول أهل التأويل - لا نعلم بينهم خلافاً - بالآية التي قبلها ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) .
" تفسير القرطبي " ( 14 / 218 ، 219 ) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) , هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) ، والجواب ظاهر ، وهو : أن الأولى ناسخة لهذه , وإن كانت قبلها في المصحف ؛ لأنها متأخرة عنها في النزول .
وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها إلاّ في موضعين ، أحدهما : هذا الموضع , الثاني : آية ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ) هي الأولى في المصحف , وهي ناسخة لقوله : ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) الآية ؛ لأنها تقدمت في المصحف ، فهي متأخرة في النزول , وهذا على القول بالنسخ .
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ( ص 13 ) .
2. القول الثاني : أن الناسخ هو قوله تعالى : ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) الأحزاب/ 51 .
وهو قول " الضحَّاك " رحمه الله ، كما في " معاني القرآن " للنَّحاس ( 5 / 368 ) ، وهو الذي رجَّحه النووي رحمه الله ، كما في " شرح مسلم " ( 10 / 50 ) ، وقال : " قال أصحابنا : الأصح : أنه صلى الله عليه وسلم ما توفي حتى أبيح له النساء مع أزواجه " انتهى .
وهو – كذلك – ترجيح الشيخ أبي بكر الجزائري حفظه الله ، كما في كتابه : " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " ( 4 / 284 ) .
3. القول الثالث : أن الذي نسخ المنع هو السنَّة النبوية :
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْها : " مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ " . رواه الترمذي (3216) وقال : حسن صحيح ، والنسائي (3204) .
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها بلفظ : " لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء ، إلا ذات محرم ، وذلك قول الله عز وجل : ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ) " .
لكنَّ الأثر ضعيف لا يصح ، فقد أخرجه ابن أبى حاتم في " تفسيره " ( 10 / 3145 ) ، وفيه : عمر بن أبي بكر الموصلي ، وهو متروك ، فالإسناد ضعيف جدّاً .
ورواه ابن سعد ( 8 / 194 ) من طريق الواقدي ، وهو ضعيف جدّاً .
انظر " بيان مشكل الآثار " ( 1 / 453 ) .
وقد رجح " النحَّاس " هذا القول ، ورأى أن السنَّة هي التي نسخت المنع ، وذكر كونها منسوخة بالقرآن احتمالاً ، لا ترجيحاً ، فقال رحمه الله :
وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية ، وهو وقول عائشة رضي الله عنها واحد في النسخ ، وقد يجوز أن تكون عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن .
" الناسخ والمنسوخ " ( ص 629 ) .
وهو الذي رآه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ، وذكر لفتة متينة ، فقال :
قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك ) الآية ، يظهر تعارضه مع قوله : ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ) الآية .
والجواب : أن قوله : ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ ) منسوخ بقوله : ( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك ) ، وقد قدمنا في " سورة البقرة " أنه أحد الموضعين اللّذين في المصحف ناسخهما قبل منسوخهما لتقدمه في ترتيب المصحف مع تأخره في النزول - على القول بذلك - ، وقيل : إن الآية الناسخة لها هي قوله تعالى : ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ) الآية .
والذي يظهر لنا : أن القول بالنسخ أرجح ، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومَن بعدهم ، منهم : علي ، وابن عباس ، وأنس ، وغيرهم ، ولكن المرجح له عندنا : أنه قول أعلم الناس بالمسألة ، أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن حِليَّة غيرهن من الضرات ، وعدمها : لا يوجد مَن هو أشد اهتماماً بهما منهن ، فهن صواحبات القصة ، وقد تقرر في علم الأصول أن صاحب القصة يقدَّم على غيره ، ولعل هناك تفريق بين ما إذا كان صاحب القصة راوياً ، وبين كونه مستنبطاً ، كقصة فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى ، فالحجة معها ، والحديث يؤيدها ، ومع ذلك فعمَر يرد قولها ، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة ، وأبي رافع ( أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال ) على رواية ابن عباس المتفق عليها ( أنه تزوجها مُحْرِماً ) ؛ لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها .
فإذا علمت ذلك : فاعلم : أن ممن قال بالنسخ : أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : " ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له النساء " ، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت : " لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم " .
أما عائشة : فقد روى عنها ذلك : الإمام أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي في سننيهما ، والحاكم وصححه ، وأبو داود في " ناسخه " ، وابن المنذر ، وغيرهم .
وأما أم سلمة : فقد رواه عنها : ابن أبي حاتم - كما نقله عنه ابن كثير - ، وغيره .
ويشهد لذلك : ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء ) ، قال الألوسي في " تفسيره " إن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والعلم عند الله تعالى .
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ( ص 68 ، 69 ) .
فالخلاصة :
أن الله تعالى أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من يشاء من النساء غير من عنده من التسع ، وكان هذا بعد المنع منه ، ولكنه صلى الله عليه وسلم اقتصر عليهنَّ ؛ إكراماً لهنَّ .
قال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله - في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) - :
هذه الآية من المتقدم في التلاوة المتأخر في النزول ، ونظيرها آيتي الوفاة في " البقرة " على رأي الجمهور ، إذ مضمون هذه الآية التوسعة على الرسول صلى الله عيه وسلم ؛ إكراماً له لما تحمَّله من نكاح زينب ، ثم قصره في الآيات بعد على من تحته من النساء ؛ إكراماً لهن أيضاً ، وذلك في قوله ( لا يحل لك النساء من بعد ) ، ثم لم يُقبض حتى رَفع الله عنه الحظر ؛ إكراماً ؛ وإعلاءً من شأنه ، إذ قالت عائشة : " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء " .
" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " ( 4 / 281 ) ، وينظر ما قرره الإمام الطحاوي حول ذلك المعنى في كتابه : " بيان مشكل الآثار " ( 1 / 457 ) .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب