كيف الجمع بين تمام الدين في قوله تعالى : ( الْيَوْم أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم ) واختلاف العلماء ؟
السؤال : الحمد لله ، أنا مسلم ، ولله الفضل والمنَّة ، ولكن أشكلت عليَّ آية في كتاب الله العزيز ، وهي (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم) فإذا كان الدّين كاملاً - وهو كذلك - ، فكيف نجمع بين هذه الآية وبين خلاف العلماء في مسائل كثيرة ؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
ليس هناك تعارض بين كمال الشريعة ، وما يوجد من اختلاف بين علماء الإسلام ؛ وذلك إذا عُرف المراد من كمال الدّين في الآية ، وكماله هو : أصول الدّين ، وقواعد الأخلاق ، وكليّات الشرع ، أما المسائل الجزئية فهي متجددة ولا نهاية لها ، ولهذا لم يأت النص من الشرع على حكمها ، وإنما يجتهد العلماء في إدخالها في تلك القواعد العامة ، أو الاستدلال لها بمختلف الأدلة ، كالقياس وغيره ، ومن هنا جاء اختلاف العلماء .
قال الشاطبي رحمه الله - في بيان معنى الآية - :
"المراد : كلياتها ، فلم يبقَ للدّين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات ، والحاجيات ، أو التكميليات ، إلا وقد بُينت غاية البيان .
نعم ، يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد ؛ فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتة في الكتاب والسنّة ، فلا بد من إعمالها ، ولا يسع الناس تركها ... ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه ، ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل : فالجزئيات لا نهاية لها ، فلا تنحصر بمرسوم ، وقد نص العلماء على هذا المعنى ، فإنما المراد : الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد ، التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل" انتهى .
"الاعتصام" (1/507) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
"فقد بيَّن الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه ، وكلام رسوله : جميع ما أمره به ، وجميع ما نهى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه , وبهذا يكون دينُه كاملا كما قال تعالى : (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نعْمَتي)" انتهى .
"إعلام الموقعين" (1/332) .
ثانياً:
كمال الدّين ، وتمامه ، لا يمنع من الاختلاف في فهم آية ، أو سبب نزولها ، أو صحة حديث ، أو فهمه على وجهه الصحيح ؛ فليس العلماء على درجة واحدة من العلم ، فقد يخفى على واحد منهم ما علمه غيره ، وقد يَفهم من النصوص ما لا يفهمه غيره عندما يختفي عليه الدليل الواضح ، وهذا كله لا يتعارض مع تمام الدين ، بل هو محاولة من المجتهد للوصول إلى حكم الله ، فيما لم يأت نص بحكمه ، ونظراً لاختلاف الناس في الفهم والعلم فقد وقع الخلاف بينهم في حكم كثير من الجزئيات .
قال ابن القيم رحمه الله – متمماً كلامه السابق نقله عنه - :
"ولكن قد يقصر فَهم أكثر الناس عن فَهم ما دلّت عليه النصوص ، وعن وجه الدلالة ، وموقعها ، وتفاوت الأمّة في مراتب الفهم عن الله ورسوله : لا يحصيه إلا الله ، ولو كانت الأفهام متساوية : لتساوت أقدام العلماء في العلم ، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث ، وقد أثنى عليه ، وعلى داود بالعلم ، والحكم ، وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه " الفهم ، الفهم فيما أدلي إليك " ، وقال علي : " إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه " ، وقال أبو سعيد : " كان أبو بكر أعلمَنا برسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس أن (يفقهه في الدّين ويعلمه التأويل)" انتهى .
"إعلام الموقعين" (1/332) .
وبهذا يعلم أن اختلاف العلماء لا ينافي كمال الدين .
ومن تأمل أسباب اختلاف العلماء : لم يجد فيها سبباً واحداً مرجعه إلى الشرع ذاته ، فالتعارض بين الأدلة ليس موجوداً على الحقيقة في نصوص الشرع ، بل فقط في نظر المجتهد ، وخفاء الأدلة ، وعدم العلم بها ، أو عدم فهمهما على وجهها : وكل ذلك يؤكد ما قلناه من أن الشريعة كاملة تامّة وإنما يبحث كل مجتهد بما وهبه الله من علم وفهم : لمعرفة الحكم المطابق لمراد الله تعالى في نصوص الوحي .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب