أنزل الله القرآن هداية للناس وأمرهم بتدبره ، وبين النبي عليه السلام ما أُشكِل منه وفصل ما أُجمل ، ولم يجعل فيه سرا لأحد .
السؤال :
هل شرح النبي صلى الله عليه وسلم كل معاني القرآن الكريم لأصحابه ، سواء المعنى الظاهر أو المعنى الباطن ؟ هل وضح النبي صلى الله عليه وسلم كل معاني آيات القرآن الكريم لأصحابه؟ على سبيل المثال ، قوله عز وجل " قل هو الله أحد " ، هل فسّر النبي صلى الله عليه وسلم كل الأوجه المحتملة لكلمة " أحد " ؟ - هل تعتقد أن هناك كثيرًا من معاني القرآن الكريم لم يشرحها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ؟ أم أن معانيه فقط هي ما وضحها صلى الله عليه وسلم لأصحابه ؟ - هل يجوز لباحث أن يبحث في معاني القرآن الكريم ، ويحصل على معاني جديدة له ، ولا شك تكون هذ المعاني متوافقة مع تعاليم الإسلام ؟ - هل تعتقد أنه بسبب أن قصة "آصف بن برخيا " لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجب تصديقها ؟ ولا نؤمن بها ؟ - بمعنى آخر، هل القرآن لا فائدة منه إلا القراءة فقط ، فلا يجب أن نتمعن ونستخلص من آياته بعض الخواطر والأفكار ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
أنزل الله القرآن هداية للناس ليخرجهم به من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد ، أنزله الله تبيانا لكل شيء ، وهدى وشفاء ورحمة للمؤمنين .
وأمرنا الله عز وجل بتدبر آياته ، فقال سبحانه : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء/ 82 ، وقال عز وجل : ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون/ 68 ، وقال عز وجل : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) سورة ص/ 29 .
ومعنى تدبر آيات الله : " التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه ، وفي مبادئه وعواقبه ، ولوازم ذلك ، فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف ، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم ، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته ، فإنه يعرِّف بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال ; وما ينزه عنه من سمات النقص ، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه ، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب .
وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة ، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن .
ومن فوائد التدبر لكتاب الله : أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا "
"تفسير السعدي" (ص: 189)
وليس معنى التدبر المأمور به تسلط الذهن والفكر على آيات الكتاب المجيد بالشطح والدعاوى والأكاذيب والتقول على الله بزعم أن ذلك من آثار التدبر وعواقب التفكر في آيات الله .
ومن ذلك شطحات الصوفية ، وخطرات ومزاعم أهل البدعة ، وأكاذيب الفلاسفة .
ولا يصح التعويل على الخواطر ، وما يظهر للذهن لأول وهلة ، فإن ذلك من المناهج الخاطئة في تدبر القرآن الكريم ، وقد جاءت آثار متعددة عن السلف في التحذير من تفسير القرآن بالرأي.
راجع لمعرفة المزيد جواب السؤال رقم (158665) ، (137288) .
ثانيا :
قال الله عز وجل : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل/ 44.
قال ابن كثير رحمه الله :
" أي : لعلمك بمعنى ما أنزل عليك ، وحرصك عليه ، واتباعك له ، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم ، فتفصل لهم ما أجمل ، وتبين لهم ما أشكل : وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي: ينظرون لأنفسهم فيهتدون، فيفوزون بالنجاة في الدارين " انتهى من "تفسير ابن كثير" (4 /574) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" ومن تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله تعظيم سنته , والدعوة إليها وتنفيذ مقاصدها , والتحذير من خلافها , وتفسير القرآن الكريم بها فيما قد يخفى من آياته , فإنه يفسر بالسنة ويوضح بها , فالسنة توضح القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه , كما قال عز وجل : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (1 /248).
فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم القرآن ، وأعلمهم بأحكامه ، وبين لهم ما أشكل عليهم ، وقد روى الطبراني في الكبير (1647) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ) . وصححه الألباني في " الصحيحة " (1803) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" فقد بيَّن الله - سبحانه - على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمره به ، وجميع ما نهى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه , وبهذا يكون دينُه كاملا كما قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) " انتهى من " إعلام الموقعين " ( 1 / 250 ) .
راجع جواب السؤال رقم : (2110) ، (93111) .
ولكن لا بد أن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم أهل لسان فصيح وعربية مستقيمة ، والقرآن أنزل بلسان عربي مبين ، فكثير من آياته لا يستعصي فهمها ومعرفة معناها على أحد من الصحابة ، كما أن كثيرا من آياته معلوم المعنى بداهة ، لا يحتاج إلى من يفسره ويشرحه ؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : " التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ : وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها ، وتفسير لاَ يُعذر أحدٌ بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره " – يعني المتشابه . انتهى من "تفسير الطبري" (1 /75) .
ثالثا :
لا يخفى على من دون الصحابة في العلم والفهم معنى قول الله تعالى : ( قل هو الله أحد ) وهو الإقرار لله عز وجل بالوحدانية في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته .
وهذا الاعتقاد هو الذي قام عليه الدين كله ، فلا يعقل أن يخفى على أحد من الصحابة الإقرار به والعمل بمقتضاه ، ولا يلزم القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل لهم مجلسا خاصا يفسر لهم معنى هذه الآية الكريمة .
وقول السائل : " هل فسّر النبي صلى الله عليه وسلم كل الأوجه المحتملة لكلمة "أحد"؟
قول غريب ، يوضحه قوله قبل ذلك : " سواء المعنى الظاهر أو المعنى الباطن " وهو مما يدل على أن السائل يظن أن هناك من معاني القرآن معان ظاهرة وأخرى باطنة .
وهذا قول محدث في دين الله ، لا يعرفه سلف هذه الأمة ، ولا يعرف عن أحد من أئمتها وعلمائها أنهم قالوا به ؛ إذ ليس في الإسلام ولا في القرآن بواطن وأسرار يخص الله بها من يشاء من عباده ، وهو الذي تسميه طوائف الصوفية " العلم اللدني " !
وقد روى البخاري (1870) ومسلم (1370) وأحمد (957) – واللفظ له - : " سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ فَقَالَ : ( مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا ) قَالَ : فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا : ( لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا ) .
ورواه النسائي (4422) ولفظه : " سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا : هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسِرُّ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ ؟ فَغَضِبَ عَلِيٌّ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ وَقَالَ : مَا كَانَ يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا دُونَ النَّاسِ غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَأَنَا وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ : ( لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ ) .
أما ما يدعيه أهل الانحراف من الصوفية والشيعة من أن لآيات القرآن ظاهرا وباطنا وحَدّا ومطلعا ؛ ولذلك استعملوا طريقة الكشف والأحلام والخواطر في تفسير القرآن الكريم : فقول باطل محدث لا دليل عليه ، إنما الدليل على خلافه ، ولذلك لما انتهجوا هذا النهج تقولوا على الله بغير علم ، وتكلموا في كتاب الله بأهوائهم ، فأتوا بالطامات .
وهذا لا يعني عدم وجود أوجه متعددة محتملة في تفسير بعض آيات القرآن المجيد ، فإن هذا موجود فعلا ، ولكنه على الوجه الذي يتضح به معنى الآية متكاملا ، وهو من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَمِثَالُ " هَذَا التَّفْسِيرِ " كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فَهَذَا يَقُولُ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا يَقُولُ هُوَ الْقُرْآنُ أَيْ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقُولُ: السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَهَذَا يَقُولُ: طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَا يَقُولُ: طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّرَاطَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا وَيُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَلَّ الْمُخَاطَبَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الصِّرَاطُ وَيَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ النَّعْتِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/ 160) .
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه المقصود من قول الله تعالى : ( قل هو الله أحد ) على التمام ، وذلك بالبيان العلمي والعملي ، فحياته كلها معهم صلى الله عليه وسلم مبناها على التوحيد ، ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ولذلك لم يقع أحد من الصحابة رضي الله عنهم في الشرك – والعياذ بالله – فإن الله تعالى عصمهم من الشرك ، كما عصمهم من البدعة ؛ لأنهم مصابيح الهدى وأئمة التقوى ، وإنما ضل من ضل بخلافهم وترك ما كانوا عليه ، والذي كانوا عليه هو التوحيد ، وهو معنى قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) .
أما تصور أن يكون هناك من المعاني الباطنة الخفية لهذه الآية ما لم يطلع عليه كثير من الصحابة ولا يعلمه أئمة التفسير وأهل العلم : فهذا تصور فاسد باطل ؛ لأن موجبه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم العلم عن أصحابه ، ولم يؤد رسالة ربه على التمام ، وهذا الاعتقاد لا يعتقده أحد ممن يؤمن بالله واليوم الآخر .
فكل ما احتاجه الناس من تفسير كتاب الله على الوجه الذي لا يضلون بعده ولا ينحرفون عن صراط الله المستقيم فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينه أصحابه من بعده .
رابعا :
ما تقدم لا يعني أن الله لا يخص أحدا من خلقه بفهم صحيح لكتابه ، بل إن هناك مَن يَمنّ الله عليهم بفهم صحيح ومعان كريمة قد تُحجب عن غيره .
فمن ذلك ما رواه البخاري (4294) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ . قَالَ : فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ ، وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي . فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) ؟ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ لِي : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ ؟ قُلْتُ لَا قَالَ : فَمَا تَقُولُ ؟ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ، قَالَ عُمَرُ : مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ ".
وروى البخاري (143) وأحمد (2393) – واللفظ له - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ : ( اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ).
ومن ذلك استدلال عليّ رضي الله عنه على أن أقل الحمل ستة أشهر بالجمع بين قوله تعالى : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) البقرة/233 ، وقوله تعالى : ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) لقمان/ 14 وقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) الأحقاف /15، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم .
"تفسير ابن كثير" (6/336) .
ومن ذلك استدلال الإمام الشافعي رحمه الله وغيره بقوله تعالى : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء/ 115 ، على حجية الإجماع ، كما في "إرشاد الفحول" (1/198) ، وغير ذلك كثير مشهور .
وهذا إنما يكون لأهل العلم من أهل السنة ممن له فيها قدم صدق ، أما أهل الأهواء والتقول على الله وعلى رسوله فلا حظ لهم في ذلك .
وضابط هذا الفهم حتى يكون صحيحا أن يُعرض على الكتاب والسنة فإن وافق الكتاب والسنة فهو فهم صحيح ، وإن خالفهما فهو فهم باطل .
خامسا:
لا شك أن هناك الكثير من آيات القرآن الكريم لم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم بالتفسير ؛ فقد قدمنا أن من القرآن ما يعرفه أهل اللسان العربي ، ومنه ما لا يعذر أحد بجهله لظهور معناه ، فهذا وأمثاله لا يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم عادة بالتفسير ؛ لأن أصحابه قد أحاطوا به علما .
فلا شك أن الصحابة كانوا يعرفون معنى قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) البقرة/ 218 .
فمثل هذا قد لا يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم بالبيان لظهور معناه وإحاطتهم به .
أما مثل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) المؤمنون/ 60 ، فقد يخفى على بعضهم معناه فيحتاج إلى بيان نبوي ؛ كما أخرج الترمذي (3175) أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) صححه الألباني في " الصحيحة " برقم (162) .
سادسا :
قول السائل : هل يجوز لباحث أن يبحث في معاني القرآن الكريم، ويحصل على معان جديدة له ؟ فنقول : نعم ، ولكن بشروط ، منها : أن يكون هذا الباحث طالب علم ، له إلمام بعلوم القرآن والسنة ولسان العرب ، ومنها : أن لا يخالف ما توصل إليه ، التفسير المعروف لآيات القرآن المجيد ، بحيث يكون القول بها إحداثا لقول جديد ، وإنشاء لمعنى محدث في تفسير الآية .
وهذا مثل أن يتوصل بعض الباحثين إلى أن العسل يشفي بإذن الله من كثير من الأمراض والتي منها كذا وكذا ، وهو نافع لكذا وكذا ، ويذكر قول الله تعالى : ( فيه شفاء للناس ) النحل /69.
وهذا من التفكر والتدبر لآيات الله ؛ ولذلك قال الله بعدها : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )
أو يتوصل بعضهم إلى معرفة الأضرار التي يسببها الجماع في الحيض عند الكلام على قول الله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ) البقرة/ 222.
أو يتكلم بعضهم على مضار الإسراف في الطعام والشراب فيأتي بأشياء جديدة في الطب ، وذلك عند الكلام على قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الأعراف/ 31 ، ونحو ذلك ، فهذا لا بأس به ، بل هو مطلوب مرغوب فيه .
أما شطحات الصوفية ودعاوى أهل البدعة وتقولات كثير من الذين يتكلمون عن الإعجاز العلمي في القرآن بغير علم ، فكثير من هذا ، بل أكثره ، من المنكر والزور .
سابعا :
أما قصة آصف بن برخيا وغيرها من قصص أهل الكتاب : فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن أهل الكتاب بقوله : ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ؛ فإنه كانت فيهم الأعاجيب ) رواه أحمد في "الزهد" (ص16) وصححه الألباني في "الصحيحة" (2926) .
وهذا فيما عسى أن يكون صحيحا ، أما المقطوع بكونه لا يصح لمخالفته ما عندنا أو لمخالفته المعقول : فهذا لا يرخص فيه ، قال ابن كثير رحمه الله :
" وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا حَرَجَ" فِيمَا قَدْ يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ، فَأَمَّا فِيمَا تُحيله الْعُقُولُ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظُّنُونِ كَذِبُهُ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ .
وَقَدْ أَكْثَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَذَا طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْخَلَفِ، مِنَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَيْسَ بِهِمُ احْتِيَاجٌ إِلَى أَخْبَارِهِمْ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 394) .
وقال أيضا :
" صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ( إِذَا حَدَّثكم أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ) ، ثُمَّ أَخْبَارُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَمِنْهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ، بِمَا دُلَّ عَلَى خِلَافِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْضًا. وَمِنْهَا: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَهُوَ الْمَأْذُونُ فِي رِوَايَتِهِ، بِقَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرج ) وَهُوَ الَّذِي لَا يصدَّق وَلَا يُكَذَّبُ، لِقَوْلِهِ: ( فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ) " انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/ 528) .
فأمثال هذه القصص التي تروى عن أهل الكتاب إذا كانت لا تخالف الشرع أو العقل فلا حرج في روايتها وحكايتها ، ولا تصدق ولا تكذب حتى ترد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ تصدق وعلى الرأس والعين .
والخلاصة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى بلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل ، وبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم ، ولم يدع شيئا يقربهم من الجنة إلا أمرهم به ورغبهم فيه وحضهم عليه ، ولم يدع شيئا يقربهم من النار إلا نهاهم عنه وحذرهم منه .
وأن الله عز وجل يسر القرآن لعباده ، كما قال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) القمر/ 17 ، فمن طلب خيره نال منه ، ومن تعلمه رفع الله به ، وليس فيه من غوامض الأمور والمعاني الباطنة ما اختص الله به طائفة دون أخرى ، إلا ما يفتح الله به على بعض أهله من الفهم الصحيح والقول السديد الذي لا يخالف أمر الدين في شيء منه صغير أو كبير.
وأن القرآن المجيد لم ينزله الله على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم لمجرد التلاوة فقط ، وإنما أنزله ليتدبروه ويتفكروا في آياته ؛ فيزدادوا إيمانا مع إيمانهم ؛ كما قال تعالى :
( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة/ 124، 125.
فعلى المسلم أن يتجرد لله ، وأن يهتدي بهداه سبحانه ، وأن لا يخرج عن صراط الله المستقيم ، وأن يتبع ولا يبتدع ولا يقلد المبتدع ، وأن يلزم جماعة المسلمين ، وأن لا يأخذ إلا عن أهل العلم الذين خصهم الله بفضله ، وعصم طريقهم من الزلل ؛ لأنهم ورثة الأنبياء .
والله تعالى أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب