الصواعق المحرقة ..
كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى ، المتوفى سنة 974 هـ .
والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها ، ولذلك قال في بداية الكتاب :
" سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق ، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب ، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا ، ومنهاجا شريفا ، ومسلكا منيفا . ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة . . إلخ " ( ص 9 ) .
فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة و نحوهما ، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه ؟
لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا ، ثم نبين مسلك عبد الحسين .
بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات ، ومما جاء فيها : بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات . ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة . وأخيرا طريق ثبوت الخلافة .
وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا :
جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق ، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل ، وقسم الباب إلى خمسة فصول :
الأول : في بيان كيفيتها : وبدأه بقول : " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به ، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج .. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل .
وقال بعد هذا ( ص 20 ) .
" وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه : عن ابن مسعود قال : لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر ابن الخطاب ، فقال : يا معشر الأنصار : ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . ثم قال بعد هذا ( ص 21 ) :
وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والحاكم ، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال : خطب أبو بكر فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة ، ولا يد إلا بتقوية الله . فقال على والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها ؛ إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بين الناس وهو حى " .
وقال أيضا :
وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار ، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره ، وقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار ، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تابع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ ( انظر ص 21 : 22 ) .
وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر ، فقال :
قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك ، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود .
ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا ، فهو عند الله سيئ . وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر ، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود ، وهو من أكابر الصحابة ، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر ، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وكذلك عند جميع المعتزلة ، وأكثر الفرق ، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى . فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم ، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا . على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع ، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم ، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا ، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر ، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان .
وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول : أجمع الناس على خلافة أبى بكر ، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم . وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله ، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة . وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس ، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه ، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما . إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر ، فإذا لم يبال على بها ، ونازعه ، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى ، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته ، ولقد سأله العباس في أن يبايعه ، فلم يقبل ، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم . ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر بخبر : الأئمة من قريش ، فانقادوا له وأطاعوه ، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة ، وأحق بالإجابة ، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد ، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا ، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة ، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة ، ولكن وقى الله شرها .
ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار ، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر : إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها . إنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وكبره ، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم ، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا كنت فيها راغبا ، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما " ، إلى آخر ما مر ، فقبلوا منه ذلك ، وما اعتذر به . ( انظر ص 23 : 25 ) .
وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري ، بقوله :
فتأمل عذره وقوله : لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه ، وأنه لا ينكر ما فضله الله به ، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم ! ( ص 26 ) .
أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة ، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال :
فمنها قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال : هو والله أبو بكر ، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال : لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه . " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال :
وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال : لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك ، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا . ( انظر 27 : 28 ) .
واستمر في ذكر الآيات الكريمة ، ومما قاله :
ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى :" قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".
أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة ، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما : هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم ، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة : سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول : الصديق في القرآن في هذه الآية . قال : لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة . قال : فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر ، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما . قال ابن كثير : ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم ، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم ، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق .
فإن قلت : يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلت : لا يمكن ذلك مع قوله تعالى : " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعا كما مر ، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة ، ورعاية حقوقها ، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة ، وعندهم كفار ، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة ، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها .
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
قال ابن كثير : هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق ، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال : إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله . يقول الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ".
ومنها قوله تعالى :" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".
وجه الدلاله : أن الله تعالى سماهم صادقين ، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب ، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه ، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته . أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن ، كما قاله ابن كثير ، ( انظر ص 31 : 32 ) .
وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة ، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر ، انتقل إلى السنة المطهرة . فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة ، والأحاديث التي تدل على فضله ، وهى تزيد على المائة ، وذكرها في أبواب متفرقة .
وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر .
1 ـ أخرج أحمد وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود . وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه : إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا . والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس :
اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر ، واهتدوا بهدى عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود .
2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ، فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر ، وفى لفظ لهما : لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر ، وفى آخر لعبد الله بن أحمد : أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر للبخاري : ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل . سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر لابن عدى : سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر . وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم .
قال العلماء : في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها .
3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك ، فأتيته فسألته ، فقال : إلى أبى بكر . ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات .
4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها . وفى بعضها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ، ثم قال : دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر ، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر .
5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة ؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة : قولى له يأمر عمر ، فقالت له ، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف ! مروا أبا بكر .
واعلم أن هذا الحديث متواتر ، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة. وفى بعض طرقه عن عائشة : لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر . وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة ، وكان أبو بكر غائبا ، فتقدم عمر ، فصلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، لا، لا ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، فيصلى بالناس أبو بكر ، وفى رواية عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس ، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر ، فقال يا عمر : صل بالناس ، فلما كبر وكان صيتا وسمع صلى الله عليه وسلم صوته قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . وفى حديث ابن عمر : كبر عمر فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره فأطلع رأسه مغضبا ، فقال : أين ابن أبى قحافة ؟ قال العلماء : في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق ، وأحقهم بالخلافة ، وأولاهم بالإمامة .
قال الأشعرى :
قد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن . انتهى . وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة ، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة . ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه : لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس ، وإنى لشاهد وما أنا بغائب ، وما بى مرض ، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا .
قال العلماء : وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال : كان قتال بين بنى عمرو بن عوف ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم ، فقال يا بلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس ، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة . ثم أمر أبا بكر فصلى . ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة ؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن ، وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم ، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات ، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس ، والأموال ، ووصول كل ذى حق إلى حقه ، فلذلك رضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الدين ، وهو الإمامة العظمى ، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر .
وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال : قال لي الرشيد : يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ قلت : يا أمير المؤمنين : سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون . قال والله وما زدتنى إلا عماء ، قلت : يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام ، فدخل عليه بلال ، فقال يا رسول الله : من يصلى بالناس ؟ قال : مر أبا بكر يصلى بالناس ، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه ([254])، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله ، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعجبه فقال : بارك الله فيك .
6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا ، قال لأبى بكر : ضع حجرك إلى جنب حجرى ، ثم قال لعمر : ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر ، ثم قال لعثمان : ضع حجرك إلى جنب حجر عمر ، ثم قال : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال أبو زرعة : إسناده لا بأس به ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك ، وصححه ، والبيهقى في الدلائل ، وغيرهما . وقوله لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم . على أن قوله آخر الحديث : هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة ([255]).
هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر . وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف ، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم هل نص على خلافة أبى بكر ؟
وقال ( ص 42 وما بعدها ) :
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك . ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا . وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق ، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج : لم ينص على أحد ، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال : قالوا يا رسول الله : ألا تستخلف علينا ؟ قال : إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب . وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف . وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ( يعنى أبا بكر ) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر ، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها . والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت .
وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ فقال : ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى على خيرهم . وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال : قال على : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر . وقول البخاري في تاريخه : روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر وعثمان : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال البخاري : ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى ، ومر أن هذا الحديث ، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى ، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه ، ومراد من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم نص عليه وأشار إليه قبل ذلك . ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال ، وإن بعد بخلافه عند الموت ، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف ، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين : معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد . على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها ، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال : وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ، ثم استخلف الله أبا بكر ، فوالله ما عصيته ولا غششته ، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته . الحديث . فتأمل قوله في أبى بكر : ثم استخلف الله أبا بكر ، وفى عمر : ثم استخلف عمر ، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر ، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه بما ذكرناه . وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه ، وعلى كل فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له ، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت ، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر ، فأخبر بذلك كما مر ، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا واقعا مخالفا له ، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم ، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص . . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل ، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه ، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه ؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد ؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا ، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر ، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة . واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين ، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص ، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره ، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر : أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين ، وغير ذلك مما يأتي . إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره ، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها ، إذ لم يصل علمه لأئمة الحديث المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه . وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث ؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه ؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر . نعم روى آحادا خبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى . وخبر : من كنت مولاه فعلى مولاه . وسيأتي الجواب عنهما واضحا مبسوطا ، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة ، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة ،فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد . أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي . فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه ، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا . وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ .
وقولهم : ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل . فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها ، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه ، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح : خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم . وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة . ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق ، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه . معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام . ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم ، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته ، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم . ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة ، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته ، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه ؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى ، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى . وحاصله مع الزيادة : أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة : هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره . ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي ، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه ، فقال على : لا نرى لها أحدا غيرك ، فبايعه هو وسائر المتخلفين .