وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار ؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا ، والقبائل التي قتل منها ، كبنى عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته ، لأنه إليها أقرب . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته ، أو كان هو الأفضل المستحق لها ، لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته ، إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى ، ولا معارض لها ولا صارف أصلا .
ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل ، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هو قادرون على ولايته . ولو قالت الأنصار : علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علىّ ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما ، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون ، إلا كما يبغضون أمثاله . بخلاف عمر ، فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .
ولهذا لما استخلفه أبو بكر ، كره خلافته طائفة ، حتى قال له طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبا لله تخوفنى ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .
فإذا كان أهل الحق مع علىّ ، وأهل الباطل مع علىّ ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق ؟
ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يّدع داع إلى علىّ : لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى ، لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق ، فضلا عن نص جلى ، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلىّ حق . فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله . وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته .
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر ، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوى يدعو إلى منعه ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند يجمع على مقاتلته ، كما كان بعد مقتل عثمان .
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلىّ ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر : إما أن يُسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه . ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع ، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما .
لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا ، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله ، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير .
وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه ، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى .
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء ، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك ، لو تعرض لم تثبت . وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك . فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه ، فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفى والجحد والتكذيب : إما بالوجود وإما بالعلم به .
والثانى : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية ، الذين يقولون : لا ندرى ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به .
والثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده . لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج .
وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة ، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه ، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً .
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ ، وسفسطتهم أكثر ؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .
ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يُظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه : أحدهما : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته . والثانى : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .
وكذلك ملوك الطوائف ، كبنى بويه ، وبنى سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام ، واليمن ، وغير ذلك .
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي من أقارب الملك .
وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ، ودون سائر بنى عبد مناف : كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف ، الذين كانوا أجل قريش قدراً ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا ؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً : لا بقرب نسب منه ، ولا بشرف بيته ، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى .
ودل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك . فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك ؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته . فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسـوله .
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " .
وقال : " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " .
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم . ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة .
وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم .
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم ، فقهرهم وفتح بلادهم . وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك .
فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علىّ أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا ، مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلىّ كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم ، مع قلة الأعوان وقوة العدو ؟!
وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الناس بعده ، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة.
فإنه إذا قيل : لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة ؟ فلابد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة . وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل ، وإرادتهما أفضل . فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .
والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض ، فضّل بعض الخلفاء على بعض . فلما لم يؤت ما أوتيا ، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .
فيقال : إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه ؟ وإذا قيل : لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .
فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .
وإذا قال القائل : إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .
قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا .
وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .
وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.
قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم ، كانوا من أشر الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .
وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك : إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .
وهذا بين لمن تدبره ؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم .
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبى وقاص ، وأسامة بن زيد ، وبن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبى هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن عليا كان موجودا على عهد الثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقول الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادى والحضار ؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله .
وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن ؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار .
ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى خير منهم ، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد . وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم ، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب ، هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( سورة الحشر : 8 ) .
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم ، لم يكرههم عليه مكره ، ولا ألجأهم إليه أحد ؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر ، فلم يسلم أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره.
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج ، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .
كما قال تعالى :
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ( سورة التوبة : 101 )
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم .
وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة ، من أعظم البهتان ، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه ، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم ، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله .
وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً ؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة . ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام ، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟!
وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع ، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله ، طوعا غير إكراه ، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟!
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضى للمعاداة ، لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله ، معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوى المقتضى للموالاه ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً ؟
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى ، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى ، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن . ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضى للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف . ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته .
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم ، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف ، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام ، فأسلموا مغلوبين ، فهموا بالردة ، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص .
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه ، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه .