طلع البدر علينا .. و .. حمامتا الغار حقيقة أم خيال؟؟
طارق حميدة ـ فلسطين
طلع البدر علينا
من المشهور جدا أن أهل المدينة المنورة قد استقبلوا الرسول عليه السلام بهذه
الأنشودة عندما وصلهم مهاجراً من مكة:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وقد قال الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة :" أما تلك الروايات التي تفيد استقباله عليه السلام بنشيد طلع البدر علينا فلم ترد بها روايات صحيحة " .
علماً بأن الرواية ضعيفة جداً لكونها من رواية عبيد الله بن عائشة ، رواها بسند معضل _ وهو ما سقط من إسناده راويان فأكثر على التوالي_ حيث إن بينه وبين الرسول، عليه السلام "مفاوز" ، وهو المتوفى سنة 228 للهجرة.
وقد أورده ابن تيمية رحمه الله في "أحاديث القصاص"، وورد "في تذكرة الموضوعات". وفي اسمي الكتابين من الدلالة على درجة الرواية ما يكفي .
لكن ابن القيّم ،رحمه الله ، في زاد المعاد ،نظر إلى الرواية من ناحية المتن ، وأكد بأن هذه الأنشودة قد قيلت عقب عودة الرسول عليه السلام من غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة ,وليس كما هو شائع .ويدلل على قوله بأن ثنية الوداع ليست من طريق القادم من مكة جنوبا، بل من طريق القادم من الشام وتبوك شمالا، ويبدو أن ابن القيم قد اعتمد ما في البخاري من استقبال بعض أهل المدينة للرسول وهو عائد من تبوك عند ثنية الوداع ، فجمع بين الروايتين ،وخطّأ من قال بأن
النشيد قيل في الهجرة، علما بأن رواية البخاري لاتتضمن النشيد ، ورواية عبيد الله ابن عائشة واهية جدا،كما أسلفنا.
وهناك بيتان آخران من الأنشودة، يتكرران على الألسنة، ولم أجد الأخير منهما فيما بين يديّ من كتب السيرة، وهما :
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع
وهذا النص، على فرض أنه كان متصلا بالمقطع الأول، فمن المستبعد، أيضا، أن يكون قيل في استقبال الرسول عليه السلام وقت الهجرة ،ذلك أنه حتى ذلك الوقت لم يكن قد تحول اسم يثرب الى المدينة00 بل إنه حتى وقت كتابة "الوثيقة/الدستور"، لم يكن قد تغير الاسم . ويمكن لمتابع الوثيقة أن يقرأ فيها عبارة (وإن بينهم النصر على من دهم يثرب) ،وذلك بعد مدة من استقرار الرسول الكريم فيها.
الغريب بعد كل الذي قرره العلماء بخصوص الرواية، أن فريقاً من العلماء الأجلاء والمحققين المعتبرين، لا يرغبون في اطّراح هذه القصة ، فتراهم ،من جهة، يقررون وجود أكثر من ثنية للوداع إحداهما شامية والأخرى مكية، رداً على نقد ابن القيم ،ومتجاهلين الضعف الشديد للرواية.
ولعل من أسباب ذلك أن مثل هذه القصة مما تعلمناه صغاراً ، وشكل عقولنا وأذهاننا ، ويعز علينا أن نحذفه أو نلغيه .
ولا ننسى أن هذه الرواية تعكس المشاعر المحبة الحالمة للكثيرين ممن يتمنون لقاء الرسول عليه السلام ، ويستبعدون أن يقدم الرسول المدينة ، وهو النور الساطع والبدر الطالع والسراج المنير ، ثم لا يخرج الجميع في استقباله ، يغنون وينشدون ويقيمون الأفراح والليالي الملاح ابتهاجاً بهذه المناسبة العظيمة !!.
حمامتا الغار
حقيقة أم خيال؟؟
تعلمنا في الصغر أن المشركين حين وصلوا غار ثور وهم يقتفون آثار الرسول عليه السلام وصاحبه رضي الله ,إذا بالعنكبوت قد نسجت على باب الغار , وإذا حمامتان قد باضتا ورقدتا على البيض ,مما أقنع قريشاً بأنه لا أحد في الغار .
ولعل من نافلة القول أن نكرر ما يذكره أهل الحديث ,من أن رواية الحمامتين لا تصح . ولكن اللافت أننا لا نتخيل الغار إلا والحمامتان على بابه ولا يكاد فنان يخط بريشته رسما للهجرة إلا وتكون الحمامتان والعنكبوت العنصر الأساسي في لوحته .. والأعجب من ذلك أن كثيراً الوعاظ , وبعض العلماء حين يُِسألون عن صحة رواية الحمامتين، لا يرون بأسا في إثباتها على الرغم مما أسلفنا من حالها .
والذي أراه أن الأمر بالنسبة للكثيرين أكبر من مجرد المحاكمة العقلية للنصوص .. ذلك أن الموضوع يتعلق برموز عميقة في النفس الإنسانية .. إذ الحمامة رمز للسلام ,وكثيرا ما نسمع تعبير"حمامة السلام".
وبالتالي فلعل منشأ الرواية أن أحد القصاص وهو يروي قصة الهجرة ومحاصرة المشركين للغار ثم عودتهم خائبين، وبالتالي نجاة الرسول الكريم وصاحبه ، يعلق بالقول:" وحطت حمامة السلام على الغار". في صياغة مجازيه تؤكد ختام تلك الأحداث المقلقة . ولا يلبث الخيال المجازي والتعبير البلاغي أن يتحولا في أذهان الكثيرين، وعلى رأسهم القصاص، الى أحداث وحقائق.ولا ننسى أن هؤلاء قد أكثروا من الوضع في الحديث والسير وقصص الأنبياء،بحسن نية أو بسوئها.
ومثل ذلك ما نجده في الروايات الإسرائيلية من أن نوحاً عليه السلام ، حين استوت سفينته على الجوديّ، بعث الغراب ليأتيه بالخبر فوقع على الجيف وأبطأ عليه ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ، فعرف نوح عليه السلام ،أن الماء نضب وأن بإمكانه الهبوط!!
هذه الرواية لم تأت في القرآن ، ولا ورد بشأنها حديث صحيح . ومع ذلك ذكرها غير واحد من المفسرين ، ويكررها الكثير من الوعاظ والخطباء.
والسبب ، فيما يبدو، هو أيضاً، أن الحمامة وغصن الزيتون رمزان للسلام والسلامة .
ولذلك أوردهما القُصّاص وتابعهم المفسرون والوعاظ ، وطرب لهما جمهور القراء والمستمعين .
أما الغراب الذي يتشاءم الناس من شكله وصوته، ويعتبرونه رمزاً للخراب ، فإن الخيال الشعبي لا يتصور أن يعود إلى نوح عليه السلام بأخبار السلامة. ولذلك لا بد أن يبطئ عليهم وينشغل عنهم بجيفة.
وفي القرآن الكريم ، نلاحظ أن الله تعالى الذي لا يعتريه من الضعف ما يعتري البشر، يجعل من الغراب أول معلم لبني آدم ، وكأنه يدعوهم إلى عدم إغلاق عيونهم وآذانهم إذا رأوا ما يكرهون . وإنما إلى أخذ الدروس والعبر من كل شيء، مهما كان صغيراً أو حقيراً . ولذلك لم يستحي الله تعالى أن يضرب الأمثال بالبعوض والذباب.
يتضح مما سبق كيف أن النفس البشرية تُسقط رموزها ومشاعرها وأحلامها على الأحداث والقصص ، وحتى النصوص والأخبار الدينية ..
ولعلنا يمكن أن نستنتج بأن نسبة كبيرة مما اعترى الكتب السابقة من الزيادة والتحريف هو من هذه الشاكلة. وأن من حكمة الله تعالى أن تعهد بحفظ الرسالة الخاتمة ، ولم يستحفظ عليها أحداً من البشر.