دراسة شاملة حول أثر قول ابن عمر : (يا محمد) وتضعيف العلماء ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين , محمد بن عبد الله وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلي يوم الدين , ورضي الله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة أجمعين , أما بعد : فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار , وأصلي وأسلم على النبي العدنان المرسل رحمةً للبشرية والأكوان قال الله تبارك وتعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً " , وقال الله جل في علاه : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور " وقال جل في علاه في سورة آل عمران : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " أما بعد فإن الله تبارك وتعالى أمرنا الإلتزام بعبادتهِ , والتوسل بهِ , ولكن الرافضة شذت عن الأصول الثابتة بما ذهبت إليه من الإعتقاد المخالف للمسلمين والله المستعان , ومن هذه الآثار التي حاول الرافضة الإستدلال بها لأثبات التوسل بالأموات حديث [ خدرت رجل إبن عمر ] وأستغرب حقيقة من هذه الأفهام المضطربة ... !!
أخرج البخاري في الأدب المفرد (1/335) حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال : خدرت رجل بن عمر فقال له رجل اذكر أحب الناس إليك فقال محمد 438 باب . قال الشيخ الألباني في التعليق [ ضعيف ] .
قلتُ : قال إبن معين في التاريخ برواية الدوري (4/24) : [ سمعت يحيى يقول الحديث الذي يروونه خدرت رجل بن عمر وهو أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قيل ليحى من عبد الرحمن بن سعد قال لا أدري شك العباس سعيد أو سعد ] وفيهِ أبي إسحاق السبيعي وهو مدلسٌ مشهور وقد عنعن في الحديث فلا يصح , وعبد الرحمن بن سعد هذا لم أعرفهُ . والحديث أخرجهُ في مسند الجعد (1/369) وإبن عساكر في تاريخ دمشق (31/177) , وإبن سعد في الطبقات (4/154) , وإبراهيم الحربي في غريب الحديث (2/674) , وإبن السني في عمل اليوم والليلة , وكما قلنا البخاري في الأدب المفرد (1/335) . قلتُ : وأبي إسحاق السبيع ( مدلس ) , وعبد الرحمن بن سعد ذكره المزي في تهذيب الكمال وقال روى له البخاري في الادب موقوفاً عليه وتفرد بهِ ولم نعرف حالهُ , فالرجل لا يعرف حالهُ لا من قريب ولا من بعيد , والأغرب محاولة الصوفية تصحيح الأثر بقولهم أنهُ من رجال البخاري في [ الأدب المفرد ] وأقول هل إشترط الإمام البخاري الصحة الكاملة كما فعل في [ الصحيح الجامع ] إن كان الصوفية لديهم العلم في هذه المسألة فليفيدوننا , نقل الحافظ إبن حجر رحمه الله تعالى أن النسائي وثقهُ بل هو مجهول الحال لا يعرفُ حالهُ إلا من ترجمة إبن حجر وذكر توثيق النسائي لهُ قلتُ لا أعرف ولا يخفى أن للحديث طرق أخرى سنبينها بحول الله تعالى .
الطريق الثاني : حدثنا محمد بن خالد بن محمد البرذعي ، ثنا حاجب بن سليمان ، ثنا محمد بن مصعب ، ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الهيثم بن حنش ، قال : كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فخدرت رجله ، فقال له رجل : " اذكر أحب الناس إليك . فقال : يا محمد صلى الله عليه وسلم . قال : فقام فكأنما نشط من عقال " قلتُ وفي هذا الحديث نظر .
قلتُ : أخرجهُ إبن السني في عمل اليوم والليل (1/320) , وفي الأذكار (1/305) وقال [ ضعيف ] كما في الأذكار للنووي إن لم تخني ذاكرتي والله أعلم بالصواب في هذا , وفي تحفة الذاكرين للشوكاني رحمه الله تعالى (1/307) , بإسنادهِ كما تقدم أعلاهُ والحديث ضعيف الإسناد لا إعتبار بهِ , بل ساقط فقد ضعفهُ [ النووي ] رحمه الله تعالى رحمةً واسعة .
أخرجه ابن السني في (اليوم والليلة) (169) ، من طريق محمد بن مصعب ، ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الهيثم بن حنش ، قال : كنا عند عبد الله بن عمر .. فذكره .ومحمد بن مصعب هو القرقساني ، ضعيف , وأبي إسحاق السبيعي ( مدلس ) وإسرائيل لا يدرى إن كان سمع منهُ قبل أو بعد الإختلاط وقد عنعن أبي إسحاق السبيعي فالحديث ضعيف الإسناد لا يستقيم .
الطريق الثالث : من حديث أبي شعبة , اخرجهُ إبن السني في عمل اليوم والليلة حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، وعمرو بن الجنيد بن عيسى ، قالا : ثنا محمد بن خداش ، ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي شعبة ، قال : كنت أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما ، فخدرت رجله ، فجلس ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك . فقال : " يا محمداه فقام فمشى " قلتُ : وهذا الحديث ضعيف الإسناد , عمرو بن الجنيد بن عيسى [ لم أعرفهُ ] وفيهِ أبو إسحاق السبيعي [ مدلس مشهور وقد عنعن في الحديث ] , ومحمد بن إبراهيم الأنماطي قال أبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل (7/187) : [ أدركتهُ ولم أكتب عنهُ ] , والحديث أخرجهُ غير واحد من أهل العلم من طريق [ الهيثم بن الحنش ] وقد تكلمنا في هذا الحديث ومن أخرجهُ بهذا الطريق في الكلام أعلاه , وأما [ عبد الرحمن بن سعد القرشي ] يحيى بن معين [ لم يعرفهُ ] ونقل ابن حجر توثيق النسائي ولم يثبت أن النسائي وثقه أو أخرج لهُ حتى في السنن , وأما سفيان الثوري وإن كان سمع من أبي إسحاق قبل الإختلاط , فإن أبي إسحاق مدلس وقد عنعن وإسرائيل سمع منهُ الحديث قبل الإختلاط , فلا يصح الاثر حتى بهذا الطريق , وقد حاول الصوفية والمبتدعة تصحيح الحديث للإستئناس , وهذا لا يصح ولا يثبت بل إن كانت رواية سفيان قبل الإختلاط فلا تصح وما اخرجهُ العلماء بنفس الإسناد أيها الجهلة وفي الإسناد ضعفٌ شديد . قال الرافضي أن هناك من أعلام الحديث من صحح هذا الأثر وسأوردُ ما قالهُ الرافضي وأعلق عليه بحول الله تعالى .
أبو إسحاق السبيعي مدلّس وقد عنعنه. قال بتدليسه: النّسائي، وابن حبان، كما أنه أُورِد في: (طبقات المدلّسين)، و(التبيين لأسماء المدلّسين)، وغيرها , ويجبُ ملاحظة أن السبيعيّ اختلط بآخره، فليتنبّه لذلك من أراد النظر في رواية الأثر عن ابن عبّاس.
وقد سبق وأن ذكرنا موقف الإمام الألباني رحمه الله تعالى : " ضعّف العلامة الألباني -رحمه الله- الحديثَ في (ضعيف الأدب المفرد) برقم (964)، وتكلّم عليه في (تخريج الكلم والطيّب) " مع التنبيه أني إستفيدُ من كلام بعض طلبة العلم في هذا الأثر .
قال الشيخ هيثم : " لو قلنا بأن الأثر صحيحٌ، حيث أنّ أحداً لم يصرّح بتدليس السبيعي في هذا الحديث بالذات، فإنه ليس فيه دليل على مطلب القائلين بجواز دعاء النبي الكريم بعد وفاته، لأنّ فعل ابن عمر هذا كان من قبيل العادات العربية وقتئذٍ، وليست له خلفيّة شرعيّة.فقد كان من عادات العرب قبل الإسلام وبعده أنه إذا خدرت رِجل أحدهم أن يذكرَ اسم شخصٍ يحبّه حتى يزول الخدر، ظانّين أنّ ذلك نوع من العلاج يساعد في سريان الدم إلى الرجل المخدورة. من ذلك قول الشاعر: رُبَّ مُحبٍ إذا ما رجله خدرت *** نادى كُبيْشة حتى يذهب الخدرُ
وقول أخر: أما تجزيَن من أيام مَرْء *** إذا خدرت له رجل دعاكَ؟
وقال ثالث: أَثيبي هائماً كَلِفاً مُعَنّى *** إذا خدرت له رجلٌ دَعاكِ
وفِعْل ابن عمر هو من هذا القبيل، من العادات المحضة، وليس من المشروع في نفسه. فإن قال قائل: ما كان البخاري ليذكرَ الأثرَ في (الأدب المفرد) لولا دلالةً شرعيةً رآها فيه؟ (وهي من حجج الأحباش).قلت: ليس كذلك، فإن البخاري (رحمه الله) أورد أحاديث كثيرة في (الأدب المفرد) من قبيل ذكر العادات الحسنة والآداب الرفيعة، مما ليس مشروعاً في نفسه.من ذلك تبويبه بـ: (باب الرجل يكون في القوم فيبزق)، و(باب من أدلى رجليه إلى البئر إذا جلس وكشف عن الساقين)، و(باب الجلوس على السرير). وهذه كلّها عادات وآداب وسلوكيّات لا أكثر.
فقد تكلم عن هذا الأثر الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد - شفاه الله وعافاه - في كتابه الماتع (( تصحيح الدعاء )) في صفحة ( 362 ) ، وقد ذهب إلى تضعيفه .
وقد ذهب إلى تصحيحه الشيخ العلامة عبد الله ين عبد الرحمن السعد - حفظه الله - ، وقد سئل عن كون هذا من الاستغاثة ، فأجاب : هذا غير صحيح , والاولى بهذا الحديث أن يقال علتهُ الإضطراب , مع العلم أن أبي إسحاق السبيعي معروف بالتدليس , وكان قليل الرواية عن عبد الرحمن , وكنتُ قد ذكرت في بداية الكلام أن عبد الرحمن بن سعد لم يعرف , وعدم معرفة إبن معين لا تضرهُ لن غيرهُ عرفهُ وهو قد وثقهُ إبن حبان رحمه الله تعالى , والخلاصة أن هذا الحديث متكلم في متنهِ أكثر .
أقول ففي الحديث أمران مهمان وجب التنبيه لهما .
1) صحح الحديث بعض أهل العلم مع الكلام حول المتن بأن هذا لا يصلح أن يكون شاهداً على جواز التوسل بالأموات , وقد ضربنا مثالاً , وقد تعرضتُ للتضعيف والتوثيق والكلام حول المتن , والصريح في مثل هذا الإختلاف بين أهل العلم إلا أن الإمام الألباني وأعلام ذهبوا إلي ضعف هذا الحديث , ولكن تصحيح من صحح الخبر وسكت عنهُ ولا أعرف متى أصبح سكوت الإمام النووي توثيق للحديث وتصحيح وقولي صحح بعضهم ليس بالعدد الكثير خلاف ما ذهب إليه كثير من المعاصرين والعلة في إضطرب الحديث , ولم يصرح أحد أن أبي إسحاق دلس ولكن ضعفهُ اعلام المتأخرين .
2) ضعف الحديث جمع من أهل العلم , كالألباني و بن زيد وبن سعد وهم من كبار المحدثين , وقد ضعفهُ غير واحد من المحدثين كما في كتب المتقدمين وأما من ذهب إلي تصحيح الخبر قول العلامة " الحويني " أطال الله عمرهُ في الفتاوي الحديثية : " عن الهيثم بن حنش قال : كنا عند عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، فخدرت رجله ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنما نشط من عقال ؟ الجواب : أخرجه ابن السني في (اليوم والليلة) (169) ، من طريق محمد بن مصعب ، ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الهيثم بن حنش ، قال : كنا عند عبد الله بن عمر .. فذكره .ومحمد بن مصعب هو القرقساني ، ضعيف . وقد خولف إسرائيل ، خالفه سفيان الثوري ، فرواه عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن سعيد قال : خدرت رجل ابن عمر ، فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فقال : محمد .أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) (964) ، قال : حدثنا أبو نعيم : ثنا سفيان به ، والثوري أثبت في أبي إسحاق من إسرائيل ، وعبد الرحمن بن سعد ثقة ، فهذا الوجه قوي . وقد رواه أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق ، عن أبي سعد قال : كنت أمشي مع ابن عمر ، وذكر نحوه ، أخرجه ابن السني (167) ، والمعتمد رواية الثوري . والله أعلم " أهـ . قلتُ رضي الله عنك الإختلاف في تصحيح الحديث لا شك أنهُ واقع فقد راى الإمام الألباني ضعف هذا الحديث وقد رأى ذلك غيرهُ , وأذكر أني قرأت للشيخ التميمي كلاماً حول هذا وهو كالتالي , والأصل عندي ضعف هذا الخبر وإن كان متنهُ لا يثبت التوسل بالأموات كما سنبين بإذن الله تعالى عقب الرد على الرافضي .
هذا الخبر عن ابن عمر رضي الله عنهما ضعيفٌ جداً لا يصح ولا يثبت، وفيه من العلل ما تنسفه نسفاً، وترده ردا.
فهو مما تفرد به إسحاقٌ السبيعي رحمه الله، حمله عنه كلٌ من:
- [زهير بن معاوية].. والراوي عنه؛ هو: [علي بن الجعد].. والراوي عنه السبيعي عنده: [عبد الرحمن بن سعد].
- [سفيان الثوري].. والراوي عنه؛ هو: [أبو نعيم الفضل بن دكين].. والراوي عنه السبيعي عنده: [عبد الرحمن بن سعد].
- [سفيان وزهير] مقرونين.. والراوي عنهما؛ هو: [أبو نعيم الفضل بن دكين].. والراوي عنه السبيعي عنده: [عبد الرحمن بن سعد].
- [شعبة].. والراوي عنه؛ هو: [عفان بن مسلم].. والراوي عنه السبيعي عنده: [مجهول لا يعرف لم يُسَمْ].
- [إسرائيل بن يونس].. والراوي عنه؛ هو: [محمد بن مصعب].. والراوي عنه السبيعي عنده: [الهيثم بن حنش].
- [أبو بكر بن عياش].. والراوي عنه؛ هو: [محمد بن خداش].. والراوي عنه السبيعي عنده: [أبو شعبة] وفي نسخة [أبو سعيد].
فاتفق سفيان وزهير، وخالف شعبة وإسرائيل وأبو بكر.. وهذه العلة كافية وحدها لنسف القصة لاضطرابها، فإن أبا إسحاق السبيعي قد اختلط في أخرة فأصبح لا يميز.. وهذه العلة وحدها كافية في إسقاط هذا الخبر.
ولا يمكن أن نقدم ونرجح طريقٌ على طريق والحالة هذه إطلاقاً.. فإذا كان قدما أصحابه وأوثقهم قد اختلفوا في التعيين = فمن باب أولى اختلاف من هم دونهم ممن روى عنه هذا الخبر.. وقد قلت قبلُ: وهذه العلة وحدها كافيةٌ في نسف وإسقاط هذا الخبر.
ثانياً: عنعنة إسحاق وتدليسه.. ففي جميع الطرق كلها لم يصرح بالتحديث في شيء منها إطلاقاً.. وهذه علة أخرى لا يستهان بها في رد هذا الخبر ونسفه.. فإن السبيعي رحمه الله قد أكثر من الرواية عن أناس لا يعرفون، ومنهم من هو ضعيف قد تفرد بالرواية عنهم.
ثالثاً: [محمد بن مصعب]: منكر الحديث، كثير الغلط، وكان مغفلا، قد ضعفه جماعة من الأئمة، ومشاه آخرون بشرط الموافقة لمن هو أوثق منه.
[الهيثم بن حنش]: مجهولٌ لا يعرف.. وليس من أهل الرواية والتحديث.
[أبو بكر بن عياش]: متكلمٌ فيه.. وكان كثير الخطأ، وقد اختلط في أخرة، وإذا روى عنه الضعفاء والمجاهيل فليس حديثه بشيء؛ وهنا الراوي عنه هو: [محمود بن خداش]: مجهولٌ لا يعرف حاله ولا عينه.
فهل مثل هؤلاء يقبل منهم هذا الخبر ويجعل دينٌ عند عباد الأموات والقبور؟!!
ولا غرو في ذلك.. فقد قبلها قبلهم كبراؤهم من قبلهم أمثال داود بن جرجيس وزيني دحلان ومن على شاكلتهم.. فهؤلاء امتداد أولئك.
رابعاً: أما رواية ابن عباس رضي الله عنهما؛ فهي وحدها آفة من الآفات، وعجيبة من العجائب، فهي من طريق الوضاع الكذاب الهالك المجمع على تركه [غياث بن إبراهيم النخعي].. ناهيك عن عدم حبكه لسند ومتن الخبر؛ ففيه من الركاكة ما يبصرها الأعشى.وقد ذكر ابن علان احتمالاً بعيداً جداً في محاولة الجمع بين الوجهين وأن المبهم هنا هو المصرح به هناك، والمبهم هناك هو المصرح به هنا؛ وأنهما قصة واحدة.. وهذا غير صحيح؛ فإن كان = فهو دليلٌ آخر على سقوط هذا الخبر وتهافته.
خامساً: على التسليم جدلاً.. فإن هذا الخبر ليس فيه دليلٌ على الاستغاثة والتوسل، بل غايته ذكر المحبوب الأول للنفس ودعوته بالنداء باسمه، لتكسن النفس من شغل بالها بخدر الرجل وتطمئن، فينشغل الذهن بذكر هذا المحبوب حتى تتحرك الرجل متناسياً صاحبها خدرها بصرف ذهنه لنداء محبوبه وذكره.
قال فضل الله الجيلاني: (وعلى كل حال فصورة النداء في بعض الروايات ليس على حقيقته، ولا يتوهم أنه للاستعانة أو الاستغاثة، وإنما المقصود إظهار الشوق وإضرام نار المحبة، وذكر المحبوب يسخن القلب وينشطه فيذهب انجماد الدم فيجري في العروق، وهذا هو الفرح، والخطاب قد يكون لا على إرادة الإسماع).
وقال أبو علي الشوكاني: (وليس في هذا ما يفيد أن لذلك حكم الرفع، فقد يكون مرجع مثل هذا التجريب، والمحبوب الأعظم لكل مسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فينبغي ذكره عند ذلك كما ورد ما يفيد ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى مثل قوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وكما في حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب أليه من أهله وماله والناس أجمعين". وأما أهل علم الطب فقد ذكروا أن سبب الخدر اختلاطات بلغمية ورياحات غليظة).
فيقال لهذا المستدل: أن غاية ما ورد فيه أنه ذكر للمحبوب، لا نداء طلب حاجة، وغوث، ومدد.. وإلا للزم من ذلك أن كل من ذكر محبوبه فقد استغاث به وتوسل به، وهذا من الباطل والمحال.
قال الإمام العالم العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى:
(واحتج المعترض بما روي أنه قيل لابن عمر - حين خدرت رجله -: اذكر أحب الناس إليك. وأن ابن عباس قاله لآخر. فقال أحدهما: محمد. وقال الآخر: يا محمد.
وليس له في هذا حجة على طلب الحاجات من الأموات والغائبين.
والقائل لم يقل: ادع أحب الناس إليك. والمقول له لم يقل: يا محمد أزل خدر رجلي.
فإن صح الأثر؛ فلعل المعنى في ذلك: أنه توسل إلى الله بمحبة نبيه.
وأحدهما لم يأت بحرف النداء، وذكرها أحدهما، فلعل هذا مثل قولنا: السلام عليك أيها النبي، السلام عليك يا رسول الله.
وخدر الرجل من نوع الضر، والمحتج بذلك يحتج به على جواز طلب كشف الضر من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} أي: لا أقدر على كشف ضر نزل بكم، ولا جلب خير إليكم. أي: إن الله يملك ذلك لا أنا. وقال: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن مفسري الصحابة والتابعين ذكروا أن الآية نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والجن. والآية تعم كل مدعو من دون الله.
فإذا كان الملائكة الذين يكونون وسائط فيما يقدّره الله بأفعالهم = لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال؛ فغيرهم أولى.
فإذا كان هؤلاء المذكورون لا يستجيبون لمن دعاهم فهم داخلون تحت قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وغيرها من الآيات، فكيف تعارض نصوص القرآن بمثل ذلك.
ومضمون دعوى المحتج بذلك: أن الشفاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في رقية النبي للمريض: اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك.
فالمحتج بهذا الأثر على ما ادعاه = معارض لنصوص القرآن والسنة، مكذب لله ورسوله فيما ذكرنا من الآيات والحديث. ولو قال من خدرت رجله: أعوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من شر ما أجد = صار مستعيذا بمخلوق. ونص العلماء أن الاستعاذة لا تجوز بمخلوق، والاستعاذة نوع من الدعاء كما مر تقريره.
فلو قال من أصابه ما يكره: أعوذ بمحمد مما أجد، وأسأله كشف ما أجد، أو أشكو إليه ما أجد = كان المعنى في جميع هذه العبارات واحدا؛ إذ المعنى: أطلب إزالة ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
وابن القيم ذكر هذا الأثر، فلو كان فيه شبهة تعارض ما كان يقرره من أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك = لبين ذلك.
ورأيت من جملة فتاوى للقاضي أبي يعلى؛ منها: أنه سئل عمن يقول: يا محمد، يا علي، فقال: هذا لا يجوز لأنهما ميتان.
وقول المعترض: أوليس ابن تيمية قد عذر المتأول والمقلد وقال: أنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره.
فيقال لهذا: إنما يورد كلام الشيخ هذا من يوافق على تحريم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات وأن ذلك شرك. ثم يقول: لعله يغفر للجاهل ونحوه.
وأما من ينكر قول الشيخ في ذلك، ويبدع من قال بقوله أو يكفره = فلا يتوجه له القول بعذر المذكورين، لأنه يقول إنهم غير مخطئين، بلمأجورين لامتثالهم أمر الله في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} في زعم هذا المحرف لكلام الله، فلا وجه لطلب العذر لهم.
وما قاله الشيخ رحمه الله في هذا الباب؛ أعني باب التوحيد ليس باجتهاد منه، لكنه بين ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء، فرحمه الله ورضي عنه.
والشيخ قال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب علي حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع.
قال: ويغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره. مراده: في الجملة لا في التفصيل، ولهذا قال رحمه الله في شرح العمدة في أثناء كلام سبق:
فكل رد لخبر الله أو أمره فهو كفر دق أو جل، لكن يعفى عما قد خفيت فيه طرق العلم وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره وكان من دعائم الدين من الأخبار والأوامر.
وقد قال رحمه الله: إن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر. ونقل ذلك عنه تلميذه صاحب الفروع فيه؛ قال: ذلك والله أعلم لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
وقال في الرسالة السنية: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب و إلا قتل.
وكذلك قال في مسألة الوسائط: إن فاعل ذلك يستتاب فإن تاب و إلا قتل.
وعموم قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} يتناول كل مشرك. والفقهاء من جميع المذاهب يذكرون في باب حكم المرتد أن من أشرك بالله كفر، ويحتجون بهذه الآية ونحوها، ولم يحرجوا الجاهل من العموم وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. وقال: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. قال ابن جرير: وهذا من أبين الأدلة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعلم منه، لأنه لوكان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسماءها وأحكامها في هذه الآية. انتهى