قال تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (*) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24,25]
فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع .. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: "الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله" فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة؛ فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله، كشجرة طيبة وهو المؤمن، أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء"
وقال الربيع بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه، وفرعه في السماء خشية الله" .. والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن؛ فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوًا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين .. وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها.
فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سُبُل ربِّه ذللاً غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلاً .. كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلاً، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت ..
فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلامًا كثيرًا طيبًا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب ..
كما قال تعالى {.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ..} [فاطر: 10]
فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملاً صالحًا كل وقت.
والمقصود: أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفًا بمعناها وحقيقتها نفيًا وإثباتًا، متصفًا بموجبها قائمًا قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته .. فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت.
حكمة تشبيـه المؤمن بالشجرة
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته.
فمن ذلك: أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام .. ليطابق المشبه المشبه به، فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل* المرضي ..
فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور، فإذا كان العلم صحيحًا مطابقًا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقًا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء .. وإذا كان الأمر بالعكس، عُلِم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
تجديـــد الإيمـــان سقيا شجرة الإسلام
ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس .. فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم" [رواه الطبراني وصححه الألباني، صحيح الجامع (1590)]
وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه، فإن تعاهده ربُّه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته .. ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر، فالمؤمن دائمًا سعيه في شيئين:
1) سقي هذه الشجرة .. 2) وتنقية ما حولها ..
فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته.
المصدر:
إعلام الموقعين (171:175) بتصرف.
*الدل: الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك.