قال تعالى { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (*) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (*) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (*) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 1,4]
والتكاثر في كل شيء .. فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الاخرة، فهو داخل فى حكم هذه الآية. فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم، فيجمعه تكاثرًا وتفاخرًا .. وهذا أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه؛ فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها.
عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ، قَالَ "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي"، قَالَ "وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟" [صحيح مسلم]
ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدًا مؤكدًا إذا عاين تكاثره هباءً منثورًا .. وعَلِمَ دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعًا وغرورًا، فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له وخَسِرَ هنالك تكاثره كما خَسِرَ أمثاله وبدا له من الله ما لم يكن فى حسابه وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه ..
فَعُذِبَ بتكاثره في دنياه، ثمَّ عُذِبَ به في البرزخ، ثمَّ يُعَذَب به يوم القيامة ..
فكان أشقى بتكاثره إذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة، فلم يفز من تكاثره إلا بأن صار من الأقلين ولم يحفظ به من علوه به فى الدنيا بأن حصل مع الاسفلين ..
فيا له تكاثرًا ما أقله، ورزءًا ما أجله .. ومن غنى جالبًا لكل فقر، وخيرًا توَّصل به إلى كل شر
يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه: يا ليتني قدمت لحياتى وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي ..
{.. رَبِّ ارْجِعُونِ (*) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99,100]
تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها، ورجعة يسألها فلا يجاب إليها.
وقوله {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]
جوابه محذوف دل عليه ما تقدم، أي لما ألهاكم التكاثر .. وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم، لما فُقِدَ منكم علم اليقين وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يُشَك ولا يُمارى في صحتها وثبوتها، ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه.
ويُرتب أثره عليه، فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه .. فإذا صار له علم اليقين، كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد .. فإذا صار عين يقين كجملة المشاهدات، كان تخلف موجبه عنه من أندر شيء .. وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضى الله عنه في أهل بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقوله {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (*) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3,4]
قيل: تأكيد لحصول العلم .. كقوله {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (*) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4,5].
وقيل: ليس تأكيدًا؛ بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثانى في القبر .. هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس، ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه؛ أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الإخلال بالفصاحة .. الثاني: توسط "ثُمَّ" بين العلمين وهى مؤذنة بتراخي ما بين المرتبتين زمانًا وخطرًا .. الثالث: أن هذا القول مطابق للواقع، فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ثم يعلم في القبر وما بعد ذلك علمًا هو فوق الأول ..
الرابع: أن هذا مطابق لما بعده من قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (*) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6,7] .. فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين: إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين، وتقدم الأولى وتراخي الثانية عنها.
ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم، فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه فى الدنيا .. هل ناله من حلاله ووجهه أم لا؟، فإذا تخلَّص من هذا السؤال سُئِلَ سؤالاً آخر: هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا؟
فالأول: سؤال عن سبب استخراجه، والثاني: عن محل صرفه ..
كما جاء عن ابن مسعود: عن النبي أنه قال: "لا تزول قدم بن آدم يوم القيامة من عند ربِّه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟، وعن شبابه فيم أبلاه؟، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟، وماذا عمل فيما علم" [رواه الترمذي وحسنه الألباني]
وفيه أيضًا من حديث من أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم، أن يقال له: ألم نصح جسمك ؟ ونروك من الماء البارد ؟" [رواه الترمذي وصححه الألباني]
وفيه أيضًا عن عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: لما نزلت {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، قال الزبير: وأي نعيم نُسأل عنه، وإنما هو الأسودان: التمر والماء؟!، قال "أما إنه سيكون" [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني]
وقوله "أما إنه سيكون" .. إما أن يكون المراد به: أن النعيم سيكون ويحدث لكم، وإما أن يرجع إلى السؤال .. أي إن السؤال يقع عن ذلك وإن كان تمرًا وماءً فإنه من النعيم، ويدل عليه قوله فى الحديث الصحيح وقد أكلوا معه رطبًا ولحمًا وشربوا من الماء البارد، فقال رسول الله "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد ورطب طيب وماء بارد" [رواه الترمذي وصححه الألباني] .. فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه.
وعن أبي هريرة وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله : "يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالاً وولدًا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟، فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني" [رواه الترمذي وصححه الألباني]
والواقع يشهد بعدم اختصاص الخطاب بالكفار وحدهم، وأن الإلهاء بالتكاثر واقعٌ من المسلمين كثيرًا .. بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر، وخطاب القرآن عام لمن بلغه وإن كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله فهو متناول لمن بعدهم وهذا معلوم بضرورة الدين .. فقوله { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ..}خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الالهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.
وتأمل ما في هذا العتاب الموجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها إلى أن زار القبور .. ولم يستيقظ من نوم الإلهاء، بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه إلا وهو في عسكر الأموات .. وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق، يتبيَّن لك أن العموم مقصود.
وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثرٍ به، ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا على اختلاف أجناسها وأنواعها .. وأيضًا فإن التكاثر تفاعل، وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه فيكون أكثر منه فيما يكاثره به والحامل له على ذلك توهمه أن العزة للكاثر.
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره .. كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم، إذ لم يتكاثروا بها ..
وكل من كاثر إنسانًا في دنياه أو جاهه أو غير ذلك، شغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة .. فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تُكَاثِر بما يدوم عليها نفعه وتَكْمُل به وتزكو وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك وينافسها في هذه المكاثرة ويسابقها إليها ..
فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد، وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم ..
فهذا تكاثر مُله عن الله والدار الآخرة هو صائر إلى غاية القلة، فعاقبة هذا التكاثر قل وفقر وحرمان .. والتكاثر بأسباب السعادة الآخروية تكاثر لا يزال بذكر بالله ولقائه، وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى ..
وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولاً وأحسن منه عملاً وأغزر علمًا .. واذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها، كاثره بخصلة أخرى هو قادر على المكاثرة بها ..
وليس هذا التكاثر مذمومًا ولا قادحًا في إخلاص العبد، بل هو حقيقة المنافسة واستباق الخيرات،،
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين يدي رسول الله ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره .. وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما، فلما تبيَّن له مدى سبقه له قال: والله لا أسابقك إلى شيءٍ أبدًا.
ومن تأمل حُسن موقع "كَلَّا .." في هذا الموضع، فإنها تضمنت ردعًا لهم وزجرًا عن التكاثر ونفيًا وابطالاً لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعزتهم وكمالهم به ..
فتضمنت اللفظة نهيًا ونفيًا، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علمًا بعد علم، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها.
وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين .. بل هم مستودعون في المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار، فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار؟ .. فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة، ثمَّ منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر ..
فهنا ثلاثة أمور: عبور السبيل في هذه الدنيا، وغايته زيارة القبور، وبعدها النقلة إلى دار القرار.
فَلِلَّهِ ما أعظمها من سورة وأجلها وأعظمها فائدة وأبلغها موعظة وتحذيرًا، وأشدها ترغيبًا في الآخرة وتزهيدًا في الدنيا على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها ..
فتبارك من تكلم بها حقًا، وبلغها رسوله عنه وحيًا،،
· المصدر:
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (183:194) بإختصـــار.