رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ[([1]).
هذه إحدى دعوات زكريا التي قصّها اللَّه تعالى في كتابه .
لما رأى زكريا أنّ اللَّه يرزق مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذٍ في الولد، وكان شيخاً كبيراً قد وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعقيماً، لكنه لكمال إيمانه، وحسن ظنه بربه بكمال قدرته تعالى، ونفوذ مشيئته وحكمته، أقبل على الدعاء من غير تأخير، كما أفاد قوله تعالى: ]هنالك[ .
سأل ربه، وناداه نداء خفياً، كما في قوله تعالى في سورة مريم: ]إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا[ ([2])، فقوله: ]رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ[([3]): جاء الطلب بلفظ الهبة؛ لأنّ الهبة إحسان محض، ليس في مقابله شيء، وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد؛ لكبر سنّه، ولا للوالدة؛ لكونها عاقراً لا تلد، فكأنه قال: أعطني من غير وسط معتاد))([4])؛ لأنه لم ينظر إلى الأسباب والمسببات بظروفها العادية؛ بل نظر إلى خالقها، وموجدها، ومكونها، وهذا هو الإيمان الصادق الخالص للَّه تعالى، وعلى حسن ظن العبد بربه ينال من كراماته، وسحب فضائله التي لا تحدّ ولا تعدّ .
وقوله: ]مِن لَّدُنْكَ[: أي من عندك، إضافة العندية إلى اللَّه تعالى ليكون أبلغ وأعظم؛ لأنّ هديّة الكريم عظيمة وجليلة تليق بمقام العظيم الكريم .
]ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً[: في تقييد الذرية بالطيّبة إشارة مهمّة أنّ العبد لا يسأل اللَّه تعالى الذرية فقط، فلابدّ أن يقيّدها بالصلاح والطيب التي يُرجى منها الخير في الدنيا والآخرة، فالذُّرِّيَّة الطيّبة، هي الطيّبة ((في أقوالها، وأفعالها، وكذلك في أجسامها، فهي تتناول الطيب الحسّيّ، والطيِّب المعنوي))([5]).
قوله: ]إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ[([6]): تعليل للسؤال: أي إني ما التجأت إليك، وسألتك إلا لأنك مجيب الدعاء، غير مخيّب للرجاء، وختم الدعاء بأحسن ختام من التوسل بأسمائه تعالى الحسنى، وصفاته العُلا التي تناسب الدعاء، فجاءته البشارة العاجلة عقيب السؤال، كما أفاد ذلك حرف التعقيب (الفاء) في قوله: ]فَنَادَتْهُ الْـمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْـمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِـحِينَ[([7]).
الفوائد:
تضمّنت هذه الدعوة المباركة فوائد، وحِكَماً، منها([8]):
1- ((إنّ جميع الخلق مفتقرون إلى اللَّه U، حتى الأنبياء لايستغنون عن دعاء اللَّه تعالى في كل أحوالهم، دلّ على ذلك قوله تعالى: ]دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [ ))([9]).
2- إن من أعظم التوسل إلى اللَّه U بالدعاء هو ((اسم (الربّ)؛ لقوله: (ربّه)، ولم يقل (اللَّه)؛ ولهذا أكثر الأدعية مصدرة بـ(الربّ)؛ لأنّ إجابة الداعي من مقتضى الربوبية؛ فلهذا يتوسل الداعي دائماً باسم (الرب)، قال النبي ((يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ، يا ربّ))([10]).([11]).
3- إنه لاينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية؛ لأنّ الذريّة قد يكونون نكداً وفتنة، وإنّما يسأل الذريّة الطيّبة))([12]).
4- إنّ حُسن الظنّ من حسن العبادة، وأنه تعالى يجازي عبده، ويعطيه على قدر حسن الظنّ به، دلّ عليه قوله تعالى : ]هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ[، حيث أقبل على الدعاء مباشرة لحسن ظنّه بربه تعالى، كما جاء في الحديث القدسي عن ربّ العزّة والجلال: ((أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني))([13]).
5- إنّ من تمنى أمراً عظيماً، أو رأى شيئاً جليلاً يتمناه، أن يقبل على الدعاء في لحظته، ولايؤخره، دل عليه قوله تعالى : ]هُنَالِكَ دَعَا[ ففي ((تقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير))([14]).
6- ((إنه ينبغي للإنسان أن يفعل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة، ومنها الدعاء؛ دعاء اللَّه تعالى، وهومن أكبرالأسباب))([15]).
7- فيه دلالة على أن الدعاء يردّ القضاء، وذلك أن من الأسباب العادية، أن العقيم والعجوز لاتلد، فلمّا دعا اللَّه تعالى أن يرزقه الولد، جاءت البشرى مباشرة، كما أفاد قوله تعالى : ]فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ[([16]) عقب دعائه مباشرة، دلّ على ذلك بـ((الفاء السببية))، والتي تفيد التعقيب والترتيب بدون مهلة .
8- ((إثبات سمع اللَّه ، وكرم اللَّه تعالى، وقدرته، وجه ذلك : أنه يسمع الدعاء، ويجيب من دعاه، وقادرعلى الإجابة))([17]).
9 - أهمية التوسل بأسماء اللَّه المضافة (إنك سميع الدعاء)، وأنها من أعظم الوسائل إلى إجابة الدعاء، حيث اختاره r دون غيره من الأسماء.
10- إنه كما يُتوسل إليه تعالى بأسمائه، كذلك يُتوسل إليه جل وعلا بأفعاله، فقوله: ]هَبْ لِي[ ، توسّل بصفة الهبة، وهي صفة فعلية، وهي مشتقة من اسمه (الوهّاب).
11- أن في ذكر هذه القصة العجيبة، وما تضمنته من دعوة جليلة ((حتى لا ييأس أحد من فضل اللَّه تعالى ورحمته، ولايقنط من فضله تعالى وتقدّس))([18]).
12- يستحب الإسرار بالدعاء، دلّ عليه قوله تعالى: ]إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا[([19]).
13- استحباب الخضوع في الدعاء، وإظهار الذُّلِّ، والمسكنة، والضعف؛ لقوله تعالى : ] وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا[([20]).
14- أنّ من أحبّ الوسائل إلى اللَّه تعالى التوسل إليه بضعف الداعي، وعجزه، وفقره إلى اللَّه تعالى؛ لأنه يدلّ على التبري من الحول والقوة، وتعلّق القلب بحول اللَّه، وقوته؛ لقوله تعالى: ]رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا[ ([21]).
15- أنَّ الشكوى إلى اللَّه تعالى لاتنافي الصبر، وإنما هي من كمال العبودية للَّه تعالى.
16- يُستحبّ التوسّل إلى اللَّه تعالى بنعمه، وعوائده الجميلة السابقة عليه؛ لقوله تعالى: ]وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا[، ((أي لم أشقَ يا ربّ بدعائك؛ لأنك لم تخيّب دعائي؛ بل كنت تجيب دعوتي، وتقضي حاجتي، فهوتوسّل إليه بما سلف من إجابته وإحسانه طالباً أن يجازيه على عادته التي عوّده من قضاء حوائجه، وإجابته إلى ما سأله))([22]). لهذا يستحسن للداعي أن يستحضر نعم اللَّه تعالى عليه، وأنوع إحسانه بين يدي دعائه.
17-ينبغي للداعي أن يكون جُلُّ دعائه في مطالب الدين؛ لقوله تعالى : ]وَإِنِّي خِفْتُ الْـمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي[([23])، أي : ((وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي، ألاّ يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك))([24]).
18- أنّ فعل الخيرات والمسارعة إليها من أعظم أسباب الإجابة، دلّ عليه قوله تعالى: ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ[ بسبب ]إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ[([25])، علّل جلّ وعلا بإجابته لدعائه، ووهبه إياه يحيى، وإصلاح له زوجه بـ((إن)) التي هي من حروف التعليل، وكذلك التأكيد([26])،أي استجبنا لهم بسبب مسارعتهم إلى القربات والطاعات، ((ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها إلاّ انتهزوا الفرصة فيها))([27]).
19- أنّ دعاء اللَّه تبارك وتعالى في حالتي الرغبة والرهبة من أسباب إجابة الدعاء، دلّ عليه في الآية السابقة: ]وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا[.
20- أنّ الخشوع من أسباب إجابة الدعاء، كما في قوله تعالى: ]وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[([28]) بالجملة الاسمية التي تدلّ على الدوام والثبوت، ((والخشوع هو: التذلّل، والتضرّع، والخوف اللازم للقلب الذي لايفارقه))([29]).
([1]) سورة آل عمران، الآية: 38.
([2]) سورة مريم، الآية: 3.
([3]) سورة آل عمران، الآية: 38.
([4]) تفسير الألوسي، 3/ 232.
([5]) تفسير آل عمران للعلامة محمد بن عثيمين، 1/232 .
([6]) سورة آل عمران، الآية : 38.
([7]) سورة آل عمران، الآية : 39.
([8]) استنبطت الفوائد من هذه الدعوة في هذه السورة، وفي سورة مريم ، وفي سورة الأنبياء .
([9]) تفسير آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 1/ 236.
([10]) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم 1015.
([11]) تفسير آل عمران، 1/ 236.
([12]) المرجع السابق، 1/ 238.
([13]) البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ]وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم 2675, ومسند أحمد واللفظ له، 15/ 466، برقم 9749.
([14]) روح المعاني، 3/ 231.
([15]) تفسير آل عمران، للعلامة ابن عثيمين، 1/ 238.
([16]) سورة آل عمران، الآية: 39.
([17]) تفسير سورة آل عمران، للعلامة ابن عثيمين، 1/ 239.
([18]) البداية والنهاية، 2/ 395.
([19]) سورة مريم، الآية: 3.
([20]) سورة مريم، الآية: 4.
([21]) انظر: تفسير ابن سعدي، ص 569، وتيسير اللطيف المنان، ص 132.
([22]) بدائع الفوائد، 3/ 504.
([23]) سورة مريم، الآية: 5.
([24]) تفسير ابن سعدي، ص 564.
([25]) سورة الأنبياء، الآية: 90.
([26]) انظر بتوسع: القياس في القرآن الكريم والسنة والنبوية، ص 361.
([27]) ابن سعدي، ص 615.
([28]) سورة الأنبياء، الاية : 90.
([29]) تفسير ابن كثير، ص 1046.