بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار ..
وأن منع التفاضل إنما هوفي تفضيل من بعد الحديبية على من قبلهم، أما من لم يدرك ذلك الزمان ولم يجد له على الحق أعوانا فقد يكون له أجر خمسين من أصحاب الصحبة الشرعية ... وملت لهذا الرأي بعد جمع النصوص التي تبدوا متعارضة ...
قلت:
1 - وقد طبق هذه القاعدة وأشار إليها في مسألة التفاضل بين الحسن والحسين - وهما تابعيان كما قرر- هل هم أفضل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال (ص183): كما يوجد في هذه الطبقة "طبقة التابعين" من هوأفضل من بعض الصحابة صحبة شرعية كالحسن والحسين؛ فهما سيدا شباب أهل الجنة رغم أنهما تابعيان، بل إن هناك خلافاً بين بعض أهل العلم في تفضيلهما على أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع لأن أبا بكر وعمر قد وردت نصوص "في صحتها نظر" - كذا قال - تفيد أنهما سيدا كهول أهل الجنة والحسن والحسين ورد فيهما نص "حسن" يفيد أنهما سيدا شباب أهل الجنة، فهل سيدا شباب أهل الجنة أفضل أم سيدا كهول أهل الجنة؟ هناك خلاف, وإن كان الأكثر على تفضيل أبي بكر وعمر، لكن هذا الخلاف دليل على أن بعض صالحي التابعين أفضل من كثير من المهاجرين والأنصار يشرط أن يأتي التقضيل بأدلة خاصة كما استفدنا تفضيل الحسن والحسين.
قلت: لا خلاف بين أهل السنة - الذي يدعي الانتماء إليهم - أن الشيخين أبا بكر وعمر أفضل من الحسن والحسين، بل من أبيهما وقد صح عن علي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ما خلا النبيين والمرسلين لا تخبرهما يا علي)) (1).
وصح كذلك عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبوبكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر, وخشيت أن يقول عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (2).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم (3).
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن علياً - رضي الله عنه - أفضل من ولديه الحسن والحسين كما جاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة, وأبوهما خير منهما)) (4).
__________
(1) لترمذي (3665) (3666).
(2) لبخاري (3671).
(3) لبخاري (3655).
(4) بن ماجة (118).
وقال ابن حجر: ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمرقال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبوبكر ثم عمر ثم عثمان.
زاد الطبراني في رواية: فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره.
وروى خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر قال: كنا نقول إذا ذهب أبوبكر وعمر وعثمان استوى الناس فيسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره (1).
وقال أيضاً: ونقل البيهقي في "الاعتقاد" بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (2).
وقال شيخ الإسلام: وأما سائر الاثنى عشر - أي الأئمة عند الشيعة - فهم أصناف منهم من هومن الصحابة المشهود لهم بالجنة كالحسن والحسين, وقد شركهم في ذلك من الصحابة المشهود لهم بالجنة خلق كثير, وفي السابقين الأولين من هوأفضل منهما مثل أهل بدر وهما رضي الله عنهما, وإن كانا سيدا شباب أهل الجنة فأبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة, وهذا الصنف أكمل من ذلك الصنف, وإذا قال القائل هما ولد بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل وعلي بن أبي طالب أفضل منهما باتفاق أهل السنة والشيعة (3).
__________
(1) الفتح" (7|17).
(2) الفتح" (7|17).
(3) منهاج السنة" (4|169).
وقال شيخ الإسلام: إذ قد تواتر عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال - أي علي بن أبي طالب - على منبر الكوفة وقد أسمع من حضر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر. وبذلك أجاب ابنه محمد بن الحنفية فيما رواه البخاري في "صحيحه" وغيره من علماء الملة الحنيفية, ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا علياً أوكانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر, وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان, وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبوالقاسم البلخي قال: سأل سائل شريك بن عبد الله ابن أبي نمر فقال له: أيهما أفضل أبوبكر أوعلي؟ فقال له: أبوبكر. فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم إنما الشيعي من قال مثل هذا, والله لقد رقى علي هذا الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر. أفكنا نرد قوله أكنا نكذبه والله ما كان كذاباً (1).
وقال أيضاً: وقال ابن القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال: ما رأيت أحداً ممن أقتدي به يشك في تقديمهما يعنى على علي وعثمان؛ فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما (2).
وأما تفضيل الصحابة على من بعدهم فهذا مما اتفق عليه السلف.
قال شيخ الإسلام: وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله, وكثرة الصوارف عنه, وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم, وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة.
وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله؛ فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد.
قال أبوبكر بن عياش: ما سبقهم أبوبكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه.
__________
(1) منهاج السنة" (1/ 14).
(2) منهاج السنة" (2/ 58).
وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم ... والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب, والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين، لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز.
ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين, وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.
ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر , وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية, وهوأزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لوأنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).
قالوا: فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم؛ لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك, والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن جبل ذهب من الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين, ومعلوم فضل النفع المتعدى بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم؛ فلوقدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيراً, وأين مثل جبل أحد ذهباً حتى ينفقه الإنسان وهولا يصير مثل نصف مد.
ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز.
وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحوبه السيئات الحسنات, وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى, وحينئذ فيعرف أن من هودون الصحابة قد تكون له حسنات تمحومثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة (1).
__________
(1) منهاج السنة" (6/ 227).