الكذب بين الزوجين : ضوابط وحدود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
الأصل في الكذب هو الحرمة لما فيه من مضار على الفرد والأسرة والمجتمع , فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام , ويعده من خصال الكفر والنفاق ...
يقول الإمام النووي – رحمه الله تعالى – : " إعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً , فيجوز في بعض الأحوال بشروط , ومختصر ذلك : أن الكلام وسيلة إلى المقاصد , فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه , وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب , جاز الكذب . ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً , وإن كان واجباً , كان الكذب واجباً , فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله , أو أخذ ماله وأخفى ماله , وسئل إنسان عنه , وجب الكذب بإخفائه , وكذا لو كان عنده وديعة , وأراد ظالم أخذها , وجب الكذب بإخفائها . والأحوط في هذا كله أن يورّي , ومعنى التورية : أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه , وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ , وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب , ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب , فليس بحرام في هذا الحال " . [ رياض الصالحين ص404 ] .
وقد استدل العلماء على هذا المعنى في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث : ( الرجل يقول القول يريد به الإصلاح – بين الناس – , والرجل يقول القول في الحرب , والرجل يحدث امرأته , والمرأة تحدث زوجها ) . [ مسلم رقم 2605 ] .
فمن أراد الإصلاح بين الخصمين جاز له الكذب من زيادة في الكلام الطيب أو بشيء من تزيين الكلام على الآخر وإنكار ما قاله أحدهما في الآخر من سب وإهانة .
وكذلك أجاز الشرع للمسلم أن يكذب حتى لا يكشف الأسرار , ولا يقول المعلومات عن جيش المسلمين أو أن يخبر عن مواطن الضعف في الجبهة الداخلية تحت عنوان الصدق , بل الواجب إخفاء ذلك عن العدو لأن الحرب خدعة .
وكذلك يجوز للزوج أو الزوجة من كلام في المبالغة أن لا يخبر أحدهما الآخر عن ماضيه العاطفي , ومن الحكمة والصواب أن لا يبوح الواحد للآخر عن مشاعر وأحاسيس يكون الصدق فيها مساً لمشاعر الآخر .
ومما يذكر في عهد عمر – رضي الله عنه – عن ابن أبي عذرة الدؤلي , وكان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن , فطارت له في الناس أحدوثة يكرهها فلما علم بذلك , أخذ بيد عبد الله بن الأرقم , حتى أتى به إلى منزله , ثم قال لامرأته : أنشدك بالله هل تبغضينني ؟ قالت : لا تنشدني , قال : أنشدك بالله , قالت : نعم , فقال لابن الأرقم : أتسمع ؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر – رضي الله عنه – فقال : إنكم لتحدثون أني أظلم النساء وأخلعهن , فاسأل ابن الأرقم ! فسأله عمر فأخبره , فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة , فجاءت هي وعمتها , فقال : أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه ؟ فقالت : إني أول من تاب وراجع أمر الله , وقالت : إنه ناشدني بالله فتحرجت أن أكذب , أفأكذب يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم فاكذبي ! فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك , فإن أقل البيوت التي يبنى على الحب , ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب .
يقول القرضاوي معلقاً : " وهذه والله إحدى الروائع العمرية , فلم يكن مجرد رئيس دولة , بل كان إلى جوار ذلك عالماً مربياً وفقيهاً ومفتياً , إنه يطبق هنا الحديث النبوي في حديث المرأة مع زوجها والرجل مع زوجته , فلا يرى مانعاً أن تخبره بالكذب إبقاء على الزوجية , ثم ألقى حكمته الخالدة : إن أقل البيوت ما يبنى على الحب , وإنما يتعاشر الناس بالإسلام والأحساب " . [ فتاوى معاصرة – د. القرضاوي 1/494 ] .
وفي حديث أم كلثوم جواز أن يكذب الرجل على زوجته وكذلك المرأة على زوجها , ولكن أهل العلم قيدوا الكذب بأن يكون فيما يتعلق بأمر المعاشرة وحصول الألفة بينهما .
قال الخطابي : " كذب الرجل على زوجته أن يعدها ويمنّيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه , يستديم بذلك صحبتها ويصلح من خلقها " . [ عون المعبود 13/179 ] .
وقال الإمام النووي : " وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به إظهار الود والوعد بما يلزم ونحو ذلك , فأما المخادعة في صنع ما عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين " . [ شرح النووي على مسلم 16/158 ] .
وبهذا يظهر جواز الكذب بين الزوجين إذا كان في ذلك محافظة على الحياة الزوجية ومنع لهدمها , وحفاظاً على بقاء الأسرة , واستمرارية الحياة الزوجية كما قال عمر رضي الله عنه لتلك المرأة : فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك , فإن أقل البيوت التي يبنى على الحب ...
والله تعالى أعلم