نعمة الإسلام في اجتماع الأمة
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ألف بين القلوب بوحدة الإسلام، وجمع شتات الناس ليعبدوه ويدخلوا دار السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بالاعتصام، وحذر من الفرقة والاختصام، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وضع أسس الوحدة، وأقام للتوحيد مناراً بين الأنام وعلى آله وصحبه الغر العظام، وعلى من تبعهم واستن بهديهم على مدار الأزمان.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: لقد بُعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أمة ممزقة متناحرة، أمة وثنية تعبد الأصنام والأوثان، وكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي يتعايش بها سكان الجزيرة ويتحركون من خلالها، سلماً وحرباً وتعاقداً وتعاهداً وبيعاً وشراءً. ولكن هذه القبيلة كانت تضغط ضغطاً شديداً على كيان الفرد فينسحق تحت ثقلها، وتنمحي شخصيته في شخصيتها فيصبح كما قال الشاعر:
وهل أنا إلا من غُزيَّةَ إن غَوَتْ غَويتُ وإن ترشد غزية أرشد
وكان مجتمعاً تحكمه القوة إلى الحق فالذي يملك القوة يحكم، ومن لا يملكها يحكم عليه، ومن ثم يقع الظلم لا محالة، كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم ومن لا يظلم الناس يظلم
فالطريقة الوحيدة لدفع الظلم هي البدء بالظلم، ومن هنا كانت الغارات الدائمة بينهم والعدوان المستمر، وكانت الحمية التي يصفها القرآن: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (26) سورة الفتح.
لقد كانت تستعبدهم في الحقيقة أرباب أو فئات أربع من الأرباب في آن واحد, ربوبية الأصنام المعبودة والجن والملائكة وغيرها من معبوداتهم، وربوبية القبيلة، وربوبية العرف الموروث عن الآباء والأجداد، وربوبية الهوى والشهوات1. لقد عاش الجاهليون في تفرق وتمزق وشتات، كانت الكلمة الواحدة تجمعهم والأخرى تفرقهم، قبائل متحاربة، لا كيان لهم ولا سيادة ولا سلطة تجمعهم، بل كان كثير منهم يتبع مملكة الروم، وآخرون يتبعون الفرس.
فإذا أرادوا أن يجتمعوا فعلى ماذا سيجتمعون، على أي دين وعلى أي مبدأ تتوحد كلمتهم؟ فكذلك كانت نظرة الروم والفرس إليهم، نظرة ازدراء واحتقار، ويرون أن الأعرابي هو ذلك الجاهل المتخلف الذي لا هم له إلا الطعام والشراب والنساء والمال.
ثم بعث الله -تعالى- إلى هذه الأمة الممزقة المشتتة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هادياً الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع عادات وأعراف الجاهلية، ولقد استطاع الرسول الكريم في فترة وجيزة أن يجمع تلك القبائل المفرقة الممزقة، ويلم شتاتهم في أيام بسيطة بهذا المنهج الذي جاء به من عند الله؛ بالكتاب والسنة. فتغيرت الأوضاع وانقلب كل شيء رأساً على عقب، فأصبح أولئك العرب الرعاع قادة الأمم، وهم الذي أخذوا منصب إصلاحها وتوجيهها، تغير عجيب! وانقلاب غريب! يجعل الإنسان مشدوهاً يسأل ما هو السر في ذلك؟ والجواب: يظهر واضحاً جلياً إنه هذا المنهج الإلهي، الذي جاء من عند الله، منهج الكتاب والسنة، منهج لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أيها المسلمون: هيا بنا نأخذ جولة ونتأمل في بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي حثت على الاجتماع ونبذ الفرقة والتنازع والاختلاف. لنرى كيف ربى القرآن والسنة المسلمين على هذا المبدأ العظيم.
ومن ذلك أن أغلب نصوص الخطاب في القرآن تأتي مخاطبة الجماعة، مثل: {يا أيها الذين آمنوا}، {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا...} إلخ.
ومن ذلك قوله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (208) سورة البقرة.
يقول ابن كثير: يقول الله –تعالى- آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره. ومما أمر به الاجتماع ومما نهى عنه التفرق والاختلاف. ومن ذلك قوله –تعالى-: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (103) سورة آل عمران.
ففي هذه الآية يأمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله المتين يعني القرآن.
قال ابن كثير: وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه أمركم، ويسخط لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من النار، وهم الذي على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.2
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، فإنه كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى.
قال –تعالى-: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (62)- (63) سورة الأنفال. وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان. وقد امتن بذلك عليهم رسول الله يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسم، بما أراده الله، فخطبهم فقال: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟) فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن. وهذه الآية نزل في شأن الأوس والخزرج؛ وذلك أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق، و الألفة فبعث رجلاً معه أمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب، ففعل فلم يزل ذلك دأبه، حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتشاوروا ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم فجعل يسكنهم، ويقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟) وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم.3
ومن الآيات التي تحث على الاجتماع وتذم الفرقة قوله –تعالى-: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (13) سورة الشورى.
قال ابن كثير: أي وصى الله –تعالى- جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.4
قال قتادة: (كأنهم بنيان مرصوص) ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه، فكذلك الله -عز وجل- لا يحب أن يختلف أمره، وإن الله حث المؤمنين في قتلاهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به)5
بل لقد حذر الله -تعالى- من اتباع سبيل غير سبيل المؤمنين فقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء. فمن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عمد واتبع غير سبيل المؤمنين وفارقهم استحق ذلك العذاب الأليم من الله رب العالمين.
أيها المسلمون:
إن جماعة من المنافقين أرادوا تمزيق وحدة المسلمين، وتفريق صفهم، وأنشأوا لذلك مسجد ضرار ففضحهم الله -عز وجل-، وأبدى عوارهم للمسلمين، وقال فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (107) سورة التوبة. فانظروا إلى الإسلام إنه يحارب كل طريق إلى تمزيق وحدة المسلمين وإن كان مسجداً. وهذا المسجد لم يرد به الخير وإنما أريد به أن يكون مقراً للمنافقين يدبرون فيه مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين، ويشقون به عصا الجماعة.
ولقد ذم الله الاختلاف وأمر بالاجتماع، فقال: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (105) سورة آل عمران.
قال ابن كثير: ينهى الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية أن يكونوا كالأمم الماضية في افتراقهم واختلافهم، فقد قال عن الأمم الماضية: ((وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد)) (البقرة176).
فعلينا أن نكون صفاً واحداً كما أمرنا ربنا، وأن نسعى لتوحيد الأمة على كتاب الله وسنة رسول الله.. اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، واجمع شملهم، ووحد صفهم، وقوِّ كلمتهم، وأصلح من وُلِّي عليهم، إنك على كل شيء قدير..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
أيها المسلمون: إنه لم يوجد دين كدين الإسلام حث على الاجتماع، وحذر من الافتراق، بل لقد استطاع تحويل المجتمعات الممزقة المفرقة إلى مجتمع واحد متماسك متآزرٍ متآخٍ متآلفٍ، يرحم بعضه بعضاً. ومن هنا لا بد أن يعلم الناس جميعاً أنهم كلما زاد تمسكهم بالدين كلما زادت وحدتهم وألفتهم، وكلما بعدوا عن الدين تفرقوا وتمزقوا.
ولقد حذر الله من التنازع وبين أنه طريق الفشل، فقال: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (46) سورة الأنفال. وبين أن التنازع بالفعل كان سبباً للفشل فقال: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (152) سورة آل عمران. وبين ما هو السبيل إذا وجد النزاع، فقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء.
وذم الذين يفرقون الدين فقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (31)-(32) سورة الروم.
وقد أمر الله بالتمسك بالقرآن والسنة وأن لا ينحرف المسلم عنهما فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(153) سورة الأنعام.
وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، أنهم يحرصون أشد الحرص على وحدة المسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم إنه -سبحانه وتعالى- بين أن هذا الأصل وهو الجماعة عماد لدينه وقد كره النبي -صلى الله عليه وسلم- من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق، فوصف الفرقة الناجية بأنهم المتمسكون بسنته، وأنهم الجماعة. وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله –تعالى- في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء. وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين.. وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.6 أيها المسلمون:
نستنتج من هذه الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم أن الإسلام دين الوحدة. وأن على الناس إذا أرادوا وحدة الصف أن يتمسكوا بالكتاب والسنة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(153) سورة الأنعام.
وليعلم الناس جميعاً أن الشعارات التي يرددها العلمانيون، والملحدون، والتي تحث على الوحدة، كل هذه الشعارات زائفة, ولن يجتمع المسلمون تحت أية مضلة غير مضلة الإسلام، فلا القومية العربية ولا غيرها من المبادئ استطاعت ولن تستطيع أن تجمع شمل الأمة كما استطاع الإسلام، ومن أراد الدليل فليقرأ التاريخ..
ولينظر ما ذا أثمرت لنا تلك الشعارات وتلك الرايات السوداء المظلمة! سوى مزيد من التفرق والتمزق، وفرح كل دولة بما هي عليه من الفساد والإفساد، والتفاخر بالأوطان والقوميات، واحتقار أبناء تلك الدول بعضهم بعضاً، بسبب تلك الحواجز الأرضية التي صنعها الاستعمار وأبناؤه في كل مكان..
أسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على كتابه وسنة نبيه. اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفهم، وانزع البغضاء والشحناء من بينهم، اللهم رد المسلمين أجمعين إلى دينك القويم، واجمع كلمتهم يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
1 -من مقدمة كتاب التربية لمحمد قطب.
2- تفسير ابن كثير (1/417-418).
3- ابن كثير (1/418).
4- تفسير ابن كثير (4/114).
5- ابن كثير (4/379).
6- الفتاوى (ج24/170).