أضرار الإعلام ومنافعه
الحمد لله الذي فطر عقول البشر متغايرة، وجعل النفوس برأيها على نقطة الرضى دائرة، أحمده على نعمه التي أوضحت ما أبهم وألبس، وأبدت نار الهدى التي لم تكن بسوى أنامل الذوق تقبس، وراضت جواد الانتقاد الذي إذا أم غاية لم يثن عنانه ولم يحبس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يسجع بها حمام اللسان من اليقين على أراكه، وتنجي قائلها من الوقوع في حبائل الشرك وأشراكه، وتكون له ذخيرة إذا عدم سكونه بعد حراكه، وأشهد أن محمدا سيدنا وعبده الذي عصمه الله من الخطأ في القول والعمل، وآتاه من جوامع الكلم ما لم تطمح إليه عين أمنية ولم تطمع فيه يد أمل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هابتهم الأساود وخافتهم الأسود، وتجانست أفعالهم فما منهم إلا من يجول ويجود، ويسوس ويسود، وتبرأت شيمهم من النقائص فلم يكن فيهم مختال ولا متكبر ولا حسود، صلاة تتبسم عن ثغرها شفة الفجر في لعس الظلام، ويتلثم بنورها وجه البدر في عرس التمام، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتجنبوا أسباب سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران.
أيها الإخوة المسلمون: يعتبر الاتصال الإنساني فطرة فطر الله عليها البشرية منذ نشأتها الأولى، فقد مضت سيرة الحياة الإنسانية ضمن سلسلة علاقات متعددة تقوم على اتصال الإنسان بالإنسان أفراداً وجماعات وأمماً حتى أمكن تنظير هذه الفطرة ضمن سلسلة من العلوم و المعارف كان منها الإعلام.
والإعلام بدأ ينقل المعلومة من شخص أو أشخاص إلى آخرين, وذلك عن طريق الكلمة المنطوقة لتصل مباشرة من الفم إلى الأذن من دون وسيط أو وسيلة.
حتى كان التطور السريع الذي صاحب العمليات الاتصالية عامة والإعلام بصفة خاصة، حيث أصبحت هذه الكلمة أو المعلومة التي اصطلح عليها باسم الرسالة الإعلامية تنقل من شخص أو أشخاص إلى عالم متسع من المتلقين عن طريق الإذن, ولكن بوسيلة جديدة وجهاز جديد عرف بالراديو.. وتنتقل أيضاً على أنظار وعيون الملايين عن طريق التلفاز أو السينما أو غيرهما, من الوسائل المرئية الحديثة مما جعل العملية الإعلامية تتحول شكلا ومضمونا وهدفا حيث لم تعد مجرد خبر ينقل أو تسلية في وقت فراغ , بل أصبحت تمثل نشاطاً هادفاً يسعى إلى العديد من الأهداف التي تتركز في معظمها على التأثير والإقناع بهدف أحداث التغيير والتحويل نحو أهداف ومبادئ وقيم يسعى إليها صاحب الرسالة ومرسلها سواء كان ذلك في عالم القيم والمثل أو الاتجاهات و المبادئ و المذاهب، وبهدف استمالة المتلقي -السامع أو الرائي- واعتناقه لقيم ومبادئ صاحب الرسالة.
وظهر الإعلام كسلاح خطير في هذا الصراع الدولي سيما بعد أن توفرت له وسائل متطورة لها قدرة الوصول إلى أي مجتمع وجماعاته وبسهولة وبساطة, فحظي الإعلام بذلك باهتمام كبير من جانب الدول والمجتمعات والهيئات في عالمنا المعاصر, وأصبحت الرسالة الإعلامية تحمل فكر مرسلها لتعمل في مجالات النشاط الإنساني كافة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً, فكان الإعلام بذلك قوة فاعلة تربط المجتمع الإنساني بمضامين واتجاهات متعددة بغرض التحويل والإقناع ومن ثم الإتباع والولاء.
ووسائل الإعلام -أيها الناس- "سلاح ذو حدين" فإذا أدركت مسؤوليتها تجاه مجتمعاتها تستطيع أن تكون أداة إصلاح، أما تلك الوسائل التي تتحرك بدوافع تجارية أو نفعية محضة فإنها تتحول إلى معول هدم وتخريب لأركان المجتمع ومن أهمها الطفل الذي يعد لبنة المستقبل لاسيما وإننا في عصر التدفق الإعلامي الهائل عبر شبكات التلفزة العالمية عابرة الحدود، وشبكة المعلومات العالمية الإنترنت التي ربطت الكرة الأرضية كلها برباط واحد.
وما نشاهده اليوم من هذا الفيض الهائل من البرامج المسموعة والمقروءة والمرئية التي تحملها أجهزة متطورة يوماً بعد يوم لدليل واضح على خطورة وأهمية الإعلام بالنسبة لأي مجتمع يتطلع للسيادة والانتشار.
وعلى الرغم من إيجابيات هذه الثورة الإعلامية والوسائل المتطورة في مجال التثقيف والأخبار وربط المجتمع البشري بما يحدث في أنحاء العالم لحظة بلحظة وما تحقق من وعي ويقظة فكرية بين الأجيال الجديدة في هذا العالم فإنها لم تخل من سلبيات خطيرة، ومظاهر سالبة انجرفت إليها الكثير من محطات الإرسال والبث ودور النشر و الطباعة سواء كان ذلك بغرض الهدم المقصود لما تعارف عليه الناس من قيم ومثل أو الكسب المادي والانتشار، وكلها -ولا شك- قادت نحو آثار سالبة ظهرت في العديد من المجتمعات، وخصوصاً في مجال الفكر و الثقافة والآداب العامة, مما أوجد صراعاً رهيباً في عقول الناشئة، ومعارضات -سالبة- من جانب المفكرين و المربين, فوقع العالم في حيرة نتيجة هذا الصراع بين ثقافات متعارضة ودول مختلفة ليضع الأجيال الحالية في حيرة بل وأحياناً في ضياع وتيه.
ومن بين تلك الوسائل الهدامة -عباد الله- تلك القنوات الفضائية والتي هي كالنار تحت الرماد؛ موجودة في كل بيت، ولديها القدرة على الوصول لكل فرد منا، بعيدة عن أي رقابة منع أو حتى تقييد أو تحديد.
جمهورها يمتد من الأطفال حتى المسنين رجالاً ونساء ومراهقين، إنه مرض صامت وخطير!!
وسكوتنا على مثل هذا يؤثر على الوعي وعلى الفكر؛ لا سيما على أطفالنا الصغار والمجتمع، إنه جزء من الغزو الثقافي الذي تمارسه القوى الكبرى لمسخ الهوية الدينية للشعوب الإسلامية!!
تظهر فيها مشاهد يندى لها الجبين، وأحداثا قد نفرت منها الأخلاق من بث السموم الفكرية الداعية إلى الفوضى والانحراف.. تشرذم عائلي هنا، وخيانة فجريمة هناك!!.. حب مخز، وتبرج فاحش مثير؛ يفسد المرأة والشباب، من مشاهدة -كليبات- فاضحة تشكل خطراً على القيم السماوية، وأخلاقيات الشعوب الإسلامية؛ فهي لا تقل خطورة عن أسلحة الدمار الشامل، بل أشد منها فتكاً!!.
وما تبثه بعض الفضائيات يعد تهديماً للبنيان الاجتماعي والفكري والحضاري، بل هو سلاح خطير؛ يستهدف كل من يسعى للحفاظ على تقاليده وعاداته.. همها الأول الأطفال، والمراهقون والشباب... هدفها واحد وهو الابتعاد عن القيم والأخلاق، وجني ملايين الدولارات على حساب تدني أخلاق المجتمع!!.
أيها الناس: إن مجتمعنا يعاني الكثير من آثار هذه الفاضيات عن أكثر القيم والمبادئ الإنسانية فضلاً من خلوها من القيم الإسلامية -إلا ما رحم ربك-، وساعد على ذلك غياب الأسرة، وكذلك من ما تبثه من عري وفسق، وتقدم المعارف بلا قيود؛ بينما الأطفال الصغار يشاهدون كل هذا القَذَر!!.
وبجانب الغزو الثقافي عبر القنوات الفضائية ما يسمى بالصحافة والتي تحوي تلك المجلات الهابطة، التي تقدم نماذج من عروضات الأزياء الفاضحة، من مناظر مخزية لا تمت للإسلام بصلة، تعلن فيها ما يهدم تعاليم الإسلام والقرآن، ومنها تلك الجرائد التي لا تكاد تخلو من تلك التجاوزات، فعندما تخوض في أدق تفاصيل الجرائم وبشكل يبدو وكأنه تشويقي أو مثير، يكون له أثره البالغ في تأليف الشخصية الإسلامية أو تدميرها، حيث وأن القراء يهمهم أن يتابعوا ما يحدث في مجتمعهم من وقائع وحتى جرائم.
ومن الوسائل الخطيرة أيضاً: الشبكة العالمية أو ما يسمى بالإنترنت، والعاب الكمبيوتر والهاتف الخلوي الذي أصبح وسيلة إعلام خطيرة وأصبحت الرسائل الإلكترونية المتبادلة خلاله من أسرع وسائل الإعلام شيوعاً؛ لأنها تتخطى كل الحواجز.
فينبغي للمسلمين أن يستيقظوا من نومهم العميق فإنه يخشى ألا ينتبهوا إلا بعد فوات الأوان وخراب المجتمعات والأسر..
نسأل الله أن يقي مجتمعاتنا شر الإعلام وأعداء الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: ولما كان العالم الإسلامي جزءاً لا يتجزأ عن غيره من الدول والمجتمعات التي تتعرض لما يبث من برامج إعلامية مختلفة, فقد كان طبيعياً أن تتأثر كثير من هذه المجتمعات المسلمة بمضامين وأهداف الرسائل الإعلامية الصادرة من أجهزة الإعلام المختلفة سيما بعد سيطرة الشبكات الإذاعية والأقمار الصناعية...، ولما كانت المصادر الإعلامية في معظمها بعيدة عن هدى الإسلام ومبادئه أو على الأقل غير حريصة على تقديم مفاهيم الإسلام وتوجيهاته ضمن مضامين برامجها, فقد أتاح ذلك سيطرة ملموسة على ما يصل العقل المسلم من برامج منحرفة عن هدى الله حتى أصبحت مثل هذه البرامج قضايا مسلماً بها لدى بعض الناشئة حيث لا بديل عنها تقدمه الدول والجماعات الإسلامية التي كانت-بل ومازالت- لا تملك تقنيات الاتصال الحديثة أو التنظير والتأصيل الإسلامي للرسالة الإعلامية.
أيها الناس: إن الواقع الذي تعيشه معظم المجتمعات الإسلامية في صراعها مع التيارات الوافدة والأفكار المادية التي تحملها أجهزة إعلام لها قدرة التأثير والتجديد والإقناع , لاشك أنه لا يتفق تماماً مع ما يجب أن تكون عليه هذه الأمة المسلمة من مكانة وريادة, والتي أشار إليها كتاب الله عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (143) سورة البقرة. وليس هذا أمر خيار أن تكون كذلك أو لا تكون, بل هو فرض على أمة الإسلام أن تتولى الدعوة والإبلاغ بأحكام الله، الداعية للفضيلة والصلاح، بل ومحاربة المنكرات وكل ما يفسد عقائد الناس أو ينحرف بسلوكهم, يقول الحق سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران، ويؤكد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) ويستحيل على الأمة أن تكون كذلك بغير وسائل فاعلة قادرة على التحدي والصمود والتفوّق على وسائل غير المسلمين مما يتطلب ضرورة الاهتمام بالإعلام ووسائله وتجنّد له الطاقات والأخذ بأفضل الأساليب والوسائل وأفضلها في مجال البرمجة والتقنية.
ومن نعمة الخالق على هذه الأمة أن شرع لها ديناً هادياً وأرسل إليها رسولاً مرشداً، دين يتعامل مع مظاهر الحياة كافة ومواقف الإنسانية على اختلافها, فإذا ضعفت الشخصية الإسلامية أمام هذا الفيض والكم الهائل من التيارات المعادية والمبادئ المستحدثة فليس ذلك مطلقاً لعجز في القدرة على الاستجابة لمحدثات ولمستجدات العصر, ولكن لأن الكثير من المسلمين فقدوا روح المبادرة على التغيير, وبالتالي فقدوا حركة الاجتهاد والتطوير الباني, فعاشوا عالة على غيرهم في كثير من مجالات المعرفة والتقنية وكان الإعلام من أبرزها، ومع مستحدثات القرن التاسع عشر, وما بعده امتد الغزو الغربي على نطاقه الواسع فاستيقظ العقل المسلم ليجد هذه التحدي الصارخ لحضارته وأفكاره ومبادئه مما جعل المواجهة أمرا حتمياً.
إن هذه المواجهة أصبحت ضرورة لا خياراً, فالإسلام يرفض مواقف السلبية بين الإسلام ومجتمعه, كما يرفض الضغط والإجبار لصالح مبادئ وأفكار واتجاهات تتعارض مع هدى الله وذلك بعد أن حرر الإسلام الإنسان من قيود القهر وكلفه أعباء المسؤلية عن إرادة الاختيار، ومن هنا تبرز ضرورة الإعلام الإسلامي الذي يحمل هدى الله ليس لمجرد المواجهة ورد الفعل فقط, بل لإعزاز كلمة الله من خلال أجهزة ووسائل يقوم عليها متخصصون مدربون مؤمنون برسالة الإسلام {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة.
ويسعى الإعلام المهتدي بهدى الله إلى تحقيق أمور مهمة هي ثماره وفوائده نذكر منها:-
أولا: مواجهة حالة الضياع التي يعيشها المجتمع المعاصر عامة، ومجتمع المسلمين خاصة بما يعيد التوازن السليم بين فطرة الإنسان ومستحدثات العصر الفكرية منها والمادية.
ثانيا: تحقيق مواجهة إيجابية فاعلة أمام حملات غير المسلمين ممن يعادون الإسلام إما جهلاً به أو حقداً عليه, وذلك من خلال أجهزة ووسائل متطورة تواكب مطلوبات العصر, بما يحقق إعلاماً قادراً ومتميزاً يقوم على المنهج العلمي الصحيح.
ثالثا: تقديم الإسلام ومبادئه وفق أصوله التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام, ونقد ما لصق به من شبهات وافتراءات من خلال برامج تجمع بين قوة الحجة وفن الإقناع والتأثير بجانب الجاذبية وحسن العرض.
إن عالمنا المعاصر في أشد الحاجة إلي هذا النوع من الإعلام الذي بدأ بفضل من الله يظهر من خلال جهود بدت متواضعة ولكنها تنمو يوماً بعد يوم بما يبشر بنجاحها وخصوصاً بعدما ظهر واضحاً إقبال الكثيرين من أهل الصلاح على التعامل معها والاستجابة لمضامينها، ومن هنا ولهذه الأسباب وغيرها تظهر أهمية الإعلام القائم على هدى الله وفق منهج إسلامي يقوم على التأهيل العلمي المعاصر وبين المضمون الهادف والعرض الجذّاب.
جعل الله اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا جعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.