سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير, وسلم تسليم1.
عبد الله:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (5-6) سورة الشرح. وإذا جاز تخلف وعود البشر وتبدل قوانينهم، فوعد الله لا يتخلف، وسنة الله لا تتبدل؛ إنه وعد من الله سبحانه يتجاوز حدود الزمان والمكان، ولا يقف عند حدِّ من وما نزلت فيه الآيات.
وقد فهم منها السلف هذا المعنى الواسع، فقالوا: لن يغلب عسرٌ يسرين، وقالوا: لو كان العسر في جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه2.
قال أبو حاتم السجستاني:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ** وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكـاره واطمأنت ** وأرست في أماكنها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ** ولا أغـنى بحيلته الأريـبُ
أتاك على قـنوط منك غوثٌ ** يمن به اللطـيف المستجيبُ
وكـل الحادثات وإن تـناهت ** فموصول بها الفرج القريبُ
وقال الآخر:
وَلـَرُب نازلة يضـيق بها الفتى ** ذرعا وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكان يظنها لا تفرج
بل يربط الله ذلك بالتقوى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) سورة الطلاق. وسنة الله -تبارك وتعالى- أنه حين تشتد الأزمات وتتفاقم يأتي اليسر والفرج.
أرأيت كيف فرج الله للأمة بعد الهجرة وقد عاشت قبلها أحلك الظروف وأصعبها؟ وفي الأحزاب حيث بلغت القلوب الحناجر وظن الناس بعدها الظنون، بعد ذلك كانت مقولة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي مقولة صدق: (الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا)3. وحين مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وضاقت البلاد بأصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- وارتد العرب، وأحدق الخطر, وما هي إلا أيام وزال الأمر، وتحول المسلمون إلى فاتحين لبلاد فارس والروم، وصار المرتدون بعد ذلك جنوداً في صفوف المؤمنين, والعبر في التاريخ لا تنتهي.
فهل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة وهم يعيشون أزمة البعد عن دين الله، والإعراض عن شرعه، وانتشار ألوان الفساد، وفي المقابل: التآمر في كثير من الدول على الإصلاح والمصلحين, وانسداد الأبواب في وجوههم، مما أدى إلى سيطرة اليأس على كثير من المسلمين وأصبحت لغة التشاؤم هي السائدة في مجالس بعض الصالحين.
إن المسلم يشعر أن الأمور بقدر الله، وأنه -تبارك وتعالى- قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وأن قدره وقدرته فوق كل ما يريد ويكيد البشر.
إن الأمر قد يكون في ظاهره شرّاً، ثم تكون العاقبة خيراً بإذن الله، أرأيت حادثة الإفك وفيها من الشناعة والبشاعة ما فيها، ومع ذلك هي بنص القرآن: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (11) سورة النــور. وها هو سراقة بن مالك -رضي الله عنه- يلحق النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان أول النهار جاهداً على نبي الله، وكان آخر النهار مسلحة له.
وإن الفساد وإن كان الواجب رفضه شرعاً والسعي لدرئه، إلا أنه أحد روافد الإصلاح، وواقع الأمة اليوم قد بلغ من الترهل والخمول ما يجعل يقظة الأمة أجمع لا تتحقق إلا حين تبلغ الغاية في الذل والانهيار والمهانة، فالمسلم يرفض ذلك شرعاً وديناً ويسعى لدفعه، لكنه قدَراً يعلم أن عاقبته إلى خير بإذن الله، وفي التاريخ عبرة: ألم يكن اجتياح التتار والمغول لبلاد الإسلام، والغزو الصليبي رافداً مهمّاً من روافد يقظة الأمة ونهوضها، بعد أن وصلت إلى مرحلة شبيهة بما نحن فيه اليوم؟ فما أجدر بالصالحين اليوم أن ينظروا بعين التفاؤل، وأن ينصرفوا للعمل والجد، ويَدَعُوا عنهم اليأس والتخذيل؛ فكيد أهل الفساد في بوار، ودين الله ظاهر: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (8) سورة المنافقون4.
عباد الله:
إن الأحداث المتلاحقة والمحن المتواصلة تورث اليأس لدى النفوس، وتغرس بذور الإحباط والقنوط, والدعاة الحكماء هم أولئك الذين لا يحولونها إلى آلة لرفع رصيد اليأس، وإلى وسيلة لصنع الأسى, إنهم يؤمنون بأن في المحن منحاً، وبأن النصر مع الصبر، وبأن مع العسر يسراً: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (139) سورة آل عمران. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف.
ومن تأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد أنه يعتني بتعزيز روح التفاؤل لدى أصحابه في المواقف الحرجة، فحين أتاه خباب -رضي الله عنه- يشتكي له ما لقي من المشركين قال له: (وَاللَّهِ, لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)5. وفي غزوة الأحزاب حين اشتد الكرب بالمؤمنين، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المنافقون الظنون بربهم -تبارك وتعالى- فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- باب الفأل أمام أصحابه، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ), فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ:(اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّه! إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا), ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ), وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا), ثُمَّ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ), وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)6.
إن إشاعة الروح الإيجابية والتفاؤل ينبغي أن تكون واقعية، ومستندة إلى السنن الربانية، لا أن تكون مجرد تخدير للمشاعر والعواطف، فضلاً عن تلمس المنامات أو السعي إلى تنزيل ما صح وما لم يصح من أخبار الفتن الملاحم7.
نسأل الله تعالى أن يعيننا جميعاً على الخير، وأن يمنعنا من الشر، وأن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكفى بالله ولياً ونصيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, أما بعد:
أيها الناس:
اتقوا الله فقد فاز المتقون، واعتمِدوا على ربكم في كل ما به تتصرفون، واعلموا أن كل شيء بقضاء قدره من يقول للشيء كن فيكون، ألا وإن الاعتقاد في القضاء والقدر أحد أصول الإيمان، وبتحقيقه يتحقق للعبد الربح ويسلم من الخسران، فإن هذا الاعتقاد إذا وقر في القلوب نشط العاملين في أعمالهم، ورقاهم إلى مدارج الكمال في كل أحوالهم، فمن آمن حق الإيمان بالله وعلم أن كل شيء بقدره وقضاه ثبت الله قلبه للرضا والتسليم وهداه، ومن استعان بالله معتمداً بقلبه عليه أعانه، ومن لجأ إليه واحتمى بحماه حماه وعصمه وصانه، ومن تحمل في سبيله الأثقال والمشاق سهلها عليه وهونها، ومن قصد نحوه صادقاً كفاه كل مؤنة وزين في قلبه مسالك الخير وحسنها، كيف يرهب الخلق في رضا الخالق من يعلم أن الأجل محتوم؟ وكيف يخشى الفقر فيما ينفق من ماله في الخير من تيقن أن الرزق مقسوم؟ كيف لا يطمئن إلى كفاية الله ورزقه من يعلم أن الله تكفل بأرزاق الخليقة؟ كيف لا يثق بوعد من قال: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (39) سورة سبأ.
وهو الذي بيده خزائن الملك على الحقيقة، كيف يتسخط العبد المصائب والمكاره والله هو الذي قدرها؟ كيف لا يحتسب له ثوابها ويرجو ذخرها من يعلم أن الله هو الذي أجراها ودبرها؟ ألا وإن الإيمان بقضاء الله وقدره يوجب الطمأنينة إلى الله في كل الحالات، ويسهل على العبد اقتحام الصعاب والأهوال الملمات، قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ, فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا, وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْر, وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)8. والله يقول وقوله الحق: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن9.
عبد الله:
لا تيأس واعلم أن بعد الجوع شبعاً، وبعد الضمأِ ريّاً، وبعد السهر نوماً، وبعد المرض عافية، سوف يصل الغائب، ويهتدي الضال، ويفك العاني، وينقشع الظلام, {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} (52) سورة المائدة.
بشر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشر المنكوب بلطف خفي وكف حانية وادعة.
إذا رأيت الصحراء تمتد تمتد فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال, إذا رأيت الحبل يشتد يشتد فاعلم أنه سوف ينقطع.
مع الدمعة بسمة، ومع الخوف أمناً، ومع الفزع سكينة, النار لا تحرق إبراهيم التوحيد لأن الرعاية الربانية فتحت نافذة برداً وسلاماً, البحر لا يغرق كليم الرحمن لأن الصوت القوي الصادق نطق بـ{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (62) سورة الشعراء. المعصوم في الغار بشر صاحبه بأنه وحده معنا فنزل الأمن والفتح والسكينة.
إن عبيداً ساعاتهم الراهنة وأرقاء ظروفهم القاتمة لا يرون إلا النكد والضيق والتعاسة؛ لأنهم لا ينظرون إلا إلى جدار الغرفة وباب الدار فحسب، ألا فليمدوا أبصارهم وراء الحجب، وليطلقوا أعنة أفكارهم إلى ما وراء الأسوار.
إذن فلا تضق ذرعاً فمن المحال دوام الحال، وأفضل العبادة انتظار الفرج، والأيام دول، والدهر قلب، والليالي حبالى، والغيب مستور، والحكيم كل يوم هو في شأن، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، وإن مع العسر يسر10.
اللهم أصلح شأن المسلمين, ويسر أمورهم, اللهم اجعل لأمة الإسلام من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ومن كل عسر يسراً, ومن كل بلاء عافية, اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.
1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع، لابن عثيمين.
2 تفسير السعدي (1/929).
3 رواه البخاري -3801- (13/14).
4 مجلة البيان العدد106-ص52-جمادى الآخرة 1417هـ. مقال للشيخ/ محمد بن عبد الله الدويش.
5 رواه البخاري -3343- (11/444).
6 رواه أحمد -17946- (38/133)، والنسائي (8858)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 189): رواه أحمد وفيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.
7 مجلة البيان العدد187-ص26-ربيع الأول 1424هـ. من مقال للشيخ/ محمد بن عبد الله الدويش.
8 رواه أحمد بهذا اللفظ -2666- (6/198) وصححه الألباني في كتابه: ظلال الجنة برقم (315).
9 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي).
10 موقع اسلام سليكت