ونبلوكم بالشر والخير فتنة
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد الأحد, الماجد الصمد, الملك القدوس السلام الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد, نحمده حمداً ليس له حد, ونشكره شكراً لا يُعد, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الأحمر والأبيض والأسود, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام وصبر, وحج وأنفق وتصدق وعلى جود ربه اعتمد, اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من التزم شرع الله وقارب وسدَّد, أما بعد:
"خلق الله -جل وعلا- الدنيا لتكون داراً للابتلاء والاختبار، ومن ثم فإنه جعل الإنسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره، والرخاء والشدة، والخير والشر؛ ليرى سبحانه كيف يصنع هؤلاء العباد، وكيف يطلبون مراضيه في جميع الأحوال، قال جل وعلا-: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35) سورة الأنبياء1.
وإن من يتأمل في الفتن يجد فيها من المنافع والخير ما يجعلها تنطوي على المنح على ما فيها من محن، وهذه سمة خاصة لأهل الإيمان، فلقد اجتمعت قوى الشر المتحالفة تريد النهب والسرقة وانتهاك الحقوق والأموال والأنفس والثمرات، وتدمير القيم والأخلاق مع حرب مشينة على الإسلام وأهله، ولكنها تغطي هذا الوجه القبيح والفعل الشنيع كي تخدع السذج والمرجفين في البلاد، فيقولون: نريد تحرير الشعوب من الطغاة والمتجبرين، نريد فك القيود عن الشعوب المحاصرة في بيوتها وبلادها، نريد للناس الخير والرفاهية والرخاء!
وكذبوا وخسئوا فلم يعد هذا يخفى على أحد ممن عنده مسحة من عقل، لقد حركت هذه الفتن في الناس كل كوامن النفس، وجمعت قلوب المسلمين على نصرة الإسلام والمسلمين، وتحرك المسلمون نحو دينهم وربهم ما لو وعظهم الوعاظ والخطباء عشرات السنين ما وصلوا إليه، وتلك من المنح في هذه المحن.
إن ادعاء أهل الباطل أنهم يريدون الخير والإصلاح محض كذب وافتراء، وهذا ادعاء أهل الباطل دائمًا، فلقد أراد فرعون من قبل أن يقتل موسى -عليه السلام- وهذه مسألة تحتاج إلى تهيئة الرأي العام لتقبل ذلك حتى لا يثور عليه الناس، وهل يجرؤ على أن يلصق بموسى -عليه السلام- تهماً ليبرر للناس ما يريد أن يفعله به، فعرض الأمر عليهم قائلاً كما قال الله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) سورة غافر. فالظالمون لا يقيمون وزناً لأحد وإن كانوا أنبياء، ولا يعظمون شرائع، وليس عندهم ما يردعهم عن الظلم، بل هم لا يعظمون الله تعالى، ففرعون يتحدى موسى -عليه السلام- فيقول: ذروني أقتل موسى وليدع ربه، ولما أحس فرعون أن الشعب من الممكن أن يثور عليه إذا به يتوجه بهذا الخطاب للناس يبرر لهم قوله وفعله: إني أخاف أن يبدل دينكم فتمسح في الدين، والدين منه براء، ليخدع الناس، ثم بين لهم سبباً آخر فقال: أو أن يظهر في الأرض الفساد. لقد وصف فرعون موسى -عليه السلام -بالفساد، فهل موسى -عليه السلام- هو الذي سيبدل ويغير الدين؟ وهل دعوة موسى -عليه السلام- فساد؟ أو تؤدي للفساد؟ وهل سيقتنع الناس بذلك؟ ولكنه التبرير المقيت الخبيث الذي يستخف بعقول البشر من جانب الطغاة حيال أهل الإيمان.
إن القتل شنيع مستقبح مستهجن في كل الشرائع، والله تعالى يقول: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) سورة المائدة. فكيف يقبل الإنسان على القتل وهو يعلم جرمه وإثمه، لابد أن تقوم النفس الخبيثة بدور التبرير حتى يقع القتل، فقد أقبل ابن آدم الأول على قتل أخيه بعد ما بررت وزينت له نفسه الخبيثة ذلك، قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ (27) سورة المائدة. ومع أنه هدده بالقتل إلا أنه أحجم عنه حتى قامت النفس الخبيثة بدورها فبررت وهيأت وزينت وشجعت، فأقبل بعد إحجام وانتهك الحرمات بسبب ذلك: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) سورة المائدة. والنفس تضعف بذلك فتلين وتستجيب لتلك المبررات وإن كانت واهية، وإن كانت خلاف الحقيقة, وهكذا يزين الإنسان لنفسه مغتراً بقوته وسطوته وجبروته الاعتداء على الآمنين في حين أنه يوهم نفسه زوراً أنه يفعل ذلك من أجلهم وهذا عين الفساد والإجرام، فهذا فرعون اللعين حينما التقى بموسى -عليه السلام- يقول له كما قال الله تعالى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (18-19) سورة الشعراء. إن فرعون الذي قتل الصغار, وبقَـرَ بطون النساء وأجرم في حق البلاد والعباد يذكر موسى -عليه السلام- أنه قتل, مع أنه قتل على سبيل الخطأ، أرأيت إلى حال هذا المجرم الأثيم كيف يشوه صورة نبي الله موسى -عليه السلام- فيشنع عليه ويصفه بما ليس فيه، وهذا دأب كل أهل الكفر، وما أشبه الليلة بالبارحة، فهذا هبل الأكبر قائد تحالف الشيطان يرمي التهم ويوزعها على كل من في الأرض فيقول: هذا إرهابي، وهذا متطرف، وهذا متواطئ، وهذا ديكتاتور، وهذا رجعي، إلى آخر التعبيرات التي يهدد بها من يشاء، بل ونسي نفسه فبات يفكر في القضاء على المسلمين في كل مكان، تارة في أفغانستان وأخرى في العراق، ويبيد اليهود كل شيء في فلسطين على مرأى ومسمع من الدنيا وبإذن ورأي هبل الأكبر نفسه، كذلك زين له خياله المريض أنه قادر على أن يفعل ما يشاء، حتى أصبح الكثيرون مهددين من هذا الأحمق الجاهل الذي تحركه الصليبية الحاقدة والصهيونية الخائنة والمجرمون المرتزقة المنتفعون من نهب ثروات الشعوب. إن المسلمين يتوجهون إلى الله تعالى ويجأرون إليه سبحانه أن ينتقم ممن استحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، لقد جمعت هذه المحن قلوب المسلمين، لأنهم يعلمون أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى مقرون بالرضا والاحتساب, فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر وعلى الاحتساب, وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، وهذا هو الفارق بينهم وبين عدوهم وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ (104) سورة النساء. فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر من الله تعالى، ولكن أهل الكفر يعيشون في شقاء وكرب وذل وإن تظاهروا بخلاف ذلك.
"إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة, ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابه سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)2.
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته, ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء, وإن كان في دينه رقة خفف عنه, ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة"3.
إن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من تسلط عدوه عليه وغلبته له وأذاه له في بعض الأحيان أمر لابد منه, وهو كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم, فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع عن الضر واللذة عن الألم لكان ذلك عالماً غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر والألم واللذة والنافع والضار, وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) سورة الأنفال. فماذا عسى المسلمون أن يفعلوا؟ هل يتقاعسون عن نصرة إخوانهم؟ فيأتي الدور عليهم؟ وهل يقف الحكام مكتوفي الأيدي مكبلين أنفسهم وشعوبهم بما يسمى بالشرعية الدولية التي لم ولن تقدم شيئاً أبداً، من يرحم الصغار والنساء والأبرياء والضعفاء من تلك الهجمة الهمجية الإرهابية الحاقدة؟ ثم ماذا نحن قائلون لربنا سبحانه يوم القيامة إذا سألنا عن ذلك؟ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (4-6) سورة المطففين. نسأل الله العلي الأعلى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر أعداء الدين من الغزاة المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تبق منهم أحد4.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين, وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
عباد الله:
لقد مضت سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر والخير أي يختبرهم بما يصيبهم مما يثقل عليهم كالمرض والفقر والمصائب المختلفة, كما يختبرهم بما ينعم عليهم من النعمة المختلفة التي تجعل حياتهم في رفاهية ورخاء وسعة العيش كالصحة والغنى ونحو ذلك، ليتبين بهذا الامتحان من يصبر في حال الشدة ومن يشكر في حال الرخاء والنعمة، قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35) سورة الأنبياء. أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا والمصائب والشدائد, كالسقم والفقر وغير ذلك, كما نختبركم بما يجب فيه الشكر من النعم كالصحة والغنى والرخاء ونحو ذلك, فيقوم المنعم عليه بأداء ما افترضه الله عليه فيما أنعم به عليه. وكلمة فتنة في قوله تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أي ابتلاء في مصدر مؤكد لقوله تعالى: وَنَبْلُوكُم من غير لفظه, وقوله: وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ, أي فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر. فاختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسارِّ ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا، فالمنحة والمحنة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر والمحنة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فالمنحة أعظم البلاءين, وبهذا النظر قال عمر -رضي الله عنه-: "بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر"5.
أيها الناس:
إن من سنة الله في الابتلاء أنه يمتحن عباده بالشر كما يمتحنهم بالخير، ومن امتحانه لهم بالشر إصابتهم بأنواع البلايا والمصائب والشدائد وما يشق على نفوسهم، ومن هذا النوع من الاختبار ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز, قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (155-157) سورة البقرة. أخبرنا الله تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم فتارة بالسراء وتارة بالضراء كالمذكور في هذه الآيات وهو الخوف والجوع ونقص من الأموال، أي ذهاب بعضها، ونقص في الأنفس كموت الأصحاب والأقارب والأحباب, ونقص في الثمرات فلا تثمر الحدائق والمزارع والأشجار كعادتها, فالذين يصبرون في هذه البلايا ويقولون: إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ, أي يقولون ذلك عن علم ومعرفة بأنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء, وعلموا أنه لا يضيع عنده مثقال ذرة من خير، ومن الخير صبرهم، وعلموا أنهم راجعون إليه تعالى فيجازيهم على صبرهم يوم القيامة، وهؤلاء الصابرون يبشرهم الله تعالى بما أخبرنا به وهو: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ, أي ثناء من الله ورحمه, وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ, أي مهتدون إلى الطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا الأمر لله.
عباد الله:
من الابتلاء امتحان الله الناس بزينة الدنيا, قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (7-8) سورة الكهف. أي جعلنا ما يصلح أن يكون زينة للأرض ولأهلها من زخارف الدنيا, وما يستحسن منها لنمتحن الناس بذلك، بل ذهب الإمام القرطبي –رحمه الله- إلى أن الزينة في الآية تشمل كل وجه الأرض، فلفظ الزينة في الآية عموم؛ لأنه كل شيء على وجه الأرض دال على خالقه جل جلاله، فكل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه, وعلى هذا العموم الذي ذهب إليه الإمام القرطبي يكون معنى الآية: إن الله تعالى جعل جميع ما على الأرض من غير ذوي العقول زينة للأرض تتزين به وتتحلى, وهو شامل لزينة أهلها أيضاً. وزينة كل شيء بحسبه وهو زينة لأهلها، ولا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على خالقه الله جل جلاله.
ومعنى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: أي لنختبرهم في زينة الأرض ليتبين من هم أحسن عملاً. وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن به الشرع, وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء6.
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ (20) سورة الحديد.فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) سورة لقمان. وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (197) سورة البقرة. واجعلوا نصب أعينكم قول الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) سورة محمد. وصلوا وسلموا على رسول الله؛ حيث أمركم سبحانه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) سورة الأحزاب.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, والموت راحة لنا من كل شر, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.