الزلازل دروس وعبر
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على رسوله الأمين،وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
أيُّها النَّاسُ: إن الساعة قد اقتربت، وظهر كثير من علاماتها وأشرا طها؛ فمن أشراطها وعلاماتها؛ ما نرى ونسمع في هذه الأيام من كثرة الزلازل، وهذا مصداق ما أخبرنا به النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ كما في حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-,قال: قال رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم-:(لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل) رواه البخاري.وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:(لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم,ويتقارب الزمان,وتكثر الزلازل ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهَرْج). قيل: وما الهَرْج يا رسول الله؟ قال: (القتل القتل) رواه البخاري.وها أنتم ترون كثرتها وتتابعها في هذا الزمن مصداقاً لقول نبينا-صلى الله عليه وسلم-. ولا تزال نذر الله -تعالى- إلى عباده متتابعة، وبصور متعددة، وأشكال مختلفة متنوعة، فتارة تأتي على شكل رياح مدمرة، وتارة على شكل فيضانات مهلكة، وتارة على شكل حروب طاحنة، وتارة عبر زلازل مروعة؛ وهذه النذر التي يرسلها الله على عباده,ومنها الزلازل لله فيها حكم بالغة،وعظات مؤثرة، وعبر كثيرة،ودروس متكاثرة، فما هي هذه الدروس والعبر؟ هذا ما سنتحدث عنه في هذه الدقائق المعدودة- بإذن الله تعالى-؛ فمن هذه الدروس والعبر؛ بيان عظمة قدرة الله -عز وجل-، فهو القادر- سبحانه- على كل شيء، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون؛ قال –تعالى-:قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْسورة الأنعام: 65. ومن هذه الدروس والعبر التي نأخذها من هذه الزلازل أنها عقوبة ورحمة؛ عقوبة من الجبار -جل جلاله- يُرسلها على الكفار والعصاة؛ يُخوِّفهم بها، ويُوقظهم بها من رقدة الغفلة، لعلهم يتوبون إليه، قال-تعالى-:أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة المائدة(74).وقال-تعالى-:وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا سورة الإسراء: 59. وقال-تعالى-:وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ سورة النــور: 31.قال العلامة ابن القيم-رحمه الله-:وقد يأذن الله-سبحانه-للأرض في بعض الأحيان فتحدث فيها الزلازل العظام فيحدث من ذلك الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرع إلى الله–سبحانه-والندم؛كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض...: إن ربكم يستعتبكم. وقد بين أسباب هذه الزلازل من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى-صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم،وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلةً وخَسْفاً، ومَسْخاً وقَذْفاً، وآيات تتابع كنظامٍ بالٍ قُطِعَ سلكه فتتابع)1. وذكر الإمام أحمد عن صفية,قالت: زُلزلت المدينة على عهد عمر,فقال:أيُّها النَّاسُ، ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم. لئن عادت لا تجدوني فيها. و ذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك: أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أُمَّ المؤمنينَ حَدِّثينا عَنِ الزَّلزلةِ؟,فقالتْ: إذا استباحُوا الزِّنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف،غار الله -عز وجل- في سمائه،فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإنْ تابُوا ونزعوا،و إلا أهدمها عليهم،قال: يا أم المؤمنين، أعذاباً لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالاً وعذاباً وسُخْطاً على الكافرين...2. وهي رحمة يُرسلها على المؤمنين ليمتحنهم وليثيبهم وليرفع درجاتهم؛ فقد روى الإمام أحمد من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم اللهُ بعذابٍ مِنْ عندِهِ).فقلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذٍ أناس صالحون؟قال: (بلى) قلت: كيف يصنع بأولئك؟قال:(يُصيبهم ما أصاب النَّاسَ، ثم يصيرون إلى مغفرةٍ من اللهِ ورضوان)(3).فاتقوا الله-عباد الله-واعتبروا بما يجري حولكم، وتوبوا إلى ربكم،وتذكروا قولَ ربِّكم-جل جلاله-:قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَسورة الأنعام: 65-67.بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تُحصَى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، محمد وعلى آله وصحبِهِ ومن اقتفى.
أمَّا بعدُ:
أيُّها المسلمون: كتب عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- إلى الأمصار كتاباً جاء فيه:أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله-عز وجل- به العباد ، وقد كتبت إلى سائر الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق به فإن الله-عز وجل- قال:قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى سورة الأعلى: 14-15. وقولوا كما قال آدم:قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ سورة الأعراف: 23.وقولوا كما قال نوح: وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ سورة هود:47. وقولوا كما قال يونس عليه السلام: لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ سورة الأنبياء: 874. وما وقع ويقع بالناس مما يكرهون فإنما هو من جراء ذنوبهم؛ كما قال-تعالى-:ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ سورة الروم:41. فكل ما يحدث على هذه المعمورة من الزلازل مدمرة،وحروب طاحنة، وفيضانات مُهلكة إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي؛ كما قال الله-تعالى-:وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ سورة الشورى:30. وقال-سبحانه-:فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سورة العنكبوت:40. وما أكثر ذنوبنا اليوم من انتهاك حرمات الله وتعدي حدوده، وتضييع وتفريط في أوامر الله تعالى وواجباته؛ فترك للصلاة بالكلية، وتهاون بالصلاة في المسجد مع جماعة، وأكل للربا.
وأشد من ذلك ما آل إليه حال النساء من تبرج وسفور، وهجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم التواصي به والقيام بحقه، والذي يعتبر بوابة أمان للمجتمع من عذاب الله -تعالى- ومكره، ومن البلايا والرزايا التي جمعت الشرور، ولم يفرح الشيطان بمثل ما فرح بها، تلك الأطباق السوداء (الدشوش) التي فعلت فعلها في الأمة من مسخ لهويتها، وهتك لأخلاقها،-ولا حول ولا قوة إلا بالله-؛ فإننا مع هذه المعاصي المنكرة – عباد الله- لنخشى أن تنزل علينا عقوبة الله بسبب أمننا من مكر الله -تعالى-وعقوبته، قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ سورة النحل:46-45.أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ سورة الأعراف: 97.فيا من تعصي الله!! عُدْ إلى ربِّك،وأحسن الظن به،وجد وجاهد نفسك في طاعة الله، واعلم أنه لن تنفعك الضحكات، ولا الأغاني والمسلسلات، ولا الصحف والمجلات، ولا الأهل والأولاد، ولا الإخوان والأصحاب، ولا الأموال، وإنما تنفعك الحسنات والأعمال الصالحات.
فـلا تغـرنكَ الـدنيـا وزينَتُهـا* وانظر إلى فعلها في الأهلِ والوطنِ
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمَعِهَا* هل راحَ منها بغـيرِ الزادِ والكفنِ
يا نفسُ كفي عن العصيان واكتسبي* فعـلاً جميـلاً لعـلَّ اللهَ يرحمني5
نسأل الله أن يوفقنا إلى التوبة النصوح، إنه سميع قريب مجيب. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
1 - رواه الترمذي (2211) وقال: وفي الباب عن علي وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
2 - الجواب الكافي صـ( 87-88) بتصرف.
3 - رواه أحمد (6/304) .
4- انظر الجواب الكافي لابن القيم، صـ(88).
5 - انظر مورد الظمآن لعبد العزيز السلمان (3/496).