نحن والموعد المنتظر
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، نحمده - تعالى - ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء من بعد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل - وطاعته عملاً بقول المولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3.
أيها المسلمون:
نعيش في هذه الحياة الدنيا مغترين بالمظاهر الزائفة التي تظهرها لنا الدنيا سواء مظهر المال، أو الجاه، أو المنصب ... الخ، وفي نفس الوقت نعمل على تشييد القصور، وزخرفة الدور، ناسين أو متناسين أن لنا موعداً ننتظره لن نُخلَفَه، في وقت لا يعلمه أحد إلا الله - عز وجل -، وهذا الموعد لا يستثني أحداً من الخلق، أتدرون ما هذا الموعد؟
إنه موعد مغادرة دار الدنيا الفانية، والانتقال إلى دار أخرى صغيرة لا تتجاوز مساحتها الثلاثة الأمتار، دار ضيقة، لكن من يهتم بذلك؟ ومن يعمل لتلك الدار؟
تجدنا نعمل للذي سيفنى، ونترك الذي سيبقى؟
والناس يستعدون للمواعيد التي يعلمون متى ستحصل، ولكن الأمر الأشد والأعظم أنهم لا يحسبون حساب الأمر المحتم الذي لا يدري أحد متى سيقع، ومتى سيأتي، فلا يستعد له إطلاقاً، ولا يعطيه أي اهتمام.
إن هذا الموعد هو الذي قال الله - تبارك وتعالى - عن حتميته، وأنه واقع على كل إنسان: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}4، فالموت حتم في كل مكان، وعلى كل إنسان، وإلى الله المرجع والمآب، ونحن مهاجرون إليه في أرضه الواسعة، وعائدون إليه في نهاية المطاف.
زائر غريب لن يطرق الباب، ولن يستأذن على أحد، يأتي على حين غفلة، في ساعة سنمر بها جميعاً، وما منا من أحد إلا وهو واقع تحت بأسه، في ساعة يُذَل فيها الجبابرة، ويخضع فيها العصاة، وهنا يتحقق قوله - تبارك وتعالى -: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}5، فقلد "كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فهذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص، وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "حضرت أبي - رضي الله عنه - وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه، فأخذته غشية، فتمثلت ببيت من الشعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال - رضي الله عنه -: ليس كذلك، ولكن قولي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله إن للموت لسكرات))6، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تبتعد وتتناءى وتفر، قد حل بك، ونزل بساحتك، ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه، ولا الحيد عنه"7.
أيها المسلمون:
سنقف اليوم إن شاء الله - عز وجل - جميعاً مع بضع آيات كريمات من سورة ق للنظر فيما تضمنته من المواعظ والزواجر التي تخللت ثنايا تلك الآيات، أما السورة فهي من السور التي كان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب بها في الجمع، ويجعل مادتها هي جلُّ خطبته، وكل هذا لأنها اشتملت على المواعظ الكبار، والزواجر العظام، وموضوعنا ينحصر في بعض الآيات من هذه السورة الكريمة يقول الله - تبارك وتعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ** هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}8.
أيها المسلمون:
إنها آيات عظيمة وبليغة أنزلها الله - عز وجل - ليتعظ العبد وينزجر، وليعلم أن الله - تبارك وتعالى - هو الذي خلقه فهو عالم بحاله، ومطلع عليه، وفيها إرشاد من الله - عز وجل - للعبد إلى أي الطريقين يسلك، وأي الاتجاهين يميل، "إنها آيات رهيبة شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها، وجرس فواصلها، تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وباطنها وظاهرها، تتعقبها برقابة الله التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب، وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقاً كاملاً شاملاً، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبداً، ولا تغفل من أمره دقيقاً ولا جليلاً، ولا تفارقه كثيراً ولا قليلاً، كل نفس معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة، والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب كما هي مضروبة على حركة الجوارح، ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت، وفي كل حال.
آيات تروع الحس روعة المفاجأة، وتهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب، وذلك كله إلى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث، وصور الحشر، وإلى إرهاص الساعة في النفس، وتوقعها في الحس، وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض، وفي الماء والنبت، وفي الثمر والطلع {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}9"10
ولقد صوَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حال الإنسان في الموت ومصيره بعده في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - حيث قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، قال: فقعدنا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل ينظر إلى السماء و ينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ثم قال: إن الرجل المسلم إذا كان في القبر من الآخرة، وانقطاع من الدنيا؛ جاء ملك الموت فقعد عند رأسه، وينزل ملائكة من السماء كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيقعدون منه مد البصر، قال: فيقول ملك الموت: أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فلا يتركونها في يده طرفة عين، فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون بها على جند من ملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه، فإذا انتهى إلى السماء فتحت له أبواب السماء، ثم يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة، ثم يقال: اكتبوا كتابه في عليين، ثم يقال: ارجعوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فترد روحه إلى جسده، فتأتيه الملائكة فيقولون: من ربك؟ قال: فيقول: الله، فيقولون: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولون: ما هذا الرجل الذي خرج فيكم؟ قال: فيقول رسول الله، قال: فيقولون وما يدريك؟ قال: فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، قال: فينادي مناد من السماء أن صدق فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وأروه منزله من الجنة، قال: ويُمَد له في قبره، ويأتيه روح الجنة وريحها، قال: فيُفعل ذلك به، ويمثل له رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك وجه يبشر بالخير، قال: فيقول: أنا عملك الصالح، قال: فهو يقول: رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي، ثم قرأ: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}، وأما الفاجر: فإذا كان في قبل من الآخرة، وانقطاع من الدنيا أتاه ملك الموت، فيقعد عند رأسه، وينزل الملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيقعدون منه مدَّ البصر، فيقول ملك الموت: أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينقطع معها العروق والعصب كما يستخرج الصوف المبلول بالسفود ذي الشعب، قال: فيقومون إليه فلا يدعونها في يده طرفة عين، فيصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على جند من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ قال: فيقولون فلان بأقبح أسمائه، قال: فإذا انتهى به إلى السماء غلقت دونه أبواب السماوات، قال: ويقال: اكتبوا كتابه في سجين، قال: ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرمى بروحه حتى تقع في جسده، قال: ثم قرأ {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}11 قال: فتأتيه الملائكة فيقولون: من ربك؟ قال: فيقول: لا أدري فينادي مناد من السماء: أن قد كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وأروه منزله من النار، فيضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، قال: ويأتيه ريحها وحرها قال: فيفعل به ذلك، ويمثل له رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، قال: فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يبشر بالشر، قال: فيقول: أنا عملك الخبيث قال: وهو يقول: رب لا تقم الساعة))12.
هاتان موعظتان بليغتان اشتملتا على الوعظ الإلهي، والإرشاد النبوي، كل هذا حرصاً على هذا العبد المسكين الغارق في الشهوات والملذات، ليعلم أين مصيره، وما منتهاه، وإلى أين سيؤول حاله فيكون على أهبة الاستعداد، ويعد العدة من الأعمال الصالحة، وليتزود من الخير، وهذا ما حث الله - تبارك وتعالى - عليه بقوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}13، تزودوا لما أنتم قادمون فالطريق طويل، والمسلك صعب، فإلى متى الغفلة؟، وإلى متى الإعراض؟، ألا فهل من متعظ بهذه المواعظ الإلهية؟، وهل من قلوب تسمع، وتعي؟
الأمر جلل، والخطب عظيم.
نسأل الله - عز وجل - أن يقينا عذاب جهنم، وعذاب القبر، وأن يهدي قلوبنا ويطهرها، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
كلنا يعلم أن الموت حق، وأمر محتوم لا مفرَّ منه، وأن كل كائن على هذه الدنيا لا بد أن يذوق طعم الموت وسكراته، ولكن لنكن صادقين مع أنفسنا، هل سألنا أنفسنا كيف حالنا ونحن على فراش الموت؟ بل ليسأل كل واحد نفسه من خلال ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث السابق هل سيقول ملك الموت عند قبض الروح: ((أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان))، أم أنه سيقول: ((أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب)).
عباد الله:
إن الأمر جد، والخطب جلل، فهل أعددنا العدة؟، وما حالنا عند شخوص البصر، وسكون القلب, والتفاف الساق بالساق: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}14، من منا يضمن أن آخر كلامه من هذه الدنيا سيكون: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"؟ ألم نشاهد الأحبة وواريناهم التراب، هل فكرنا يوماً ونحن ندفن أننا في يوم من الأيام سَنُدفن؟
إن الموت لا يفرق بين صغير ولا كبير؛ لأن الله - عز وجل - قضى بأن: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}15، وحين يأتي الأجل، وينزل القضاء؛ يصل العبد إلى مفترق طريقين ذكرهما الله - عز وجل - في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}16.
فأي الطريقين ستسلك؟، ومن أي الفريقين أنت؟
إن الاختيار هنا ليس بالقول، أو بالرغبة، بل بما سبق هذا الحال من الأعمال الصالحة، نعم أجزم أنك اليوم تستطيع أن تقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" مئات المرات، بل أكثر من ذلك، ولكن ليس المراد هو اليوم بل المراد هل ستستطيع أن تقولها في ذلك الوقت في ساعة الصفر، حين ينزل بك ملك الموت.
وإذا نزل الموت بالإنسان تمنى العودة إلى الدنيا، فإن كان كافراً لعله يسلم، وإن كان عاصياً فلعله يتوب: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}17، وحين الاحتضار لا يقبل إيمان نفس لم تكن آمنت، أو كسبت خيراً، ولا تنفع التوبة لم تكن وقعت من قبل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}18.
والسعيد من طاب للموت، وطاب له الموت، فجعل يشتاق إلى لقاء ربه لاستعداده لذلك اللقاء، وتوقعه لما هنالك، والشقي من اجتمعت عليه الحسرتان، وتطابقت عليه الشدتان، واستبان له الخسران، وواجه مغبة التسويف، والمماطلة، والنسيان.
لهذا علينا أن نكثر من ذكر هادم الذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، ومؤيم الأزواج والزوجات، ومنغص العيشات، وعلينا أن نستعد له بتجديد التوبات، والحرص على الطاعات، والبعد عن المحرمات، والاستعداد للممات، والحذر من اجتماع الحسرات، والانغماس في الشهوات، واغتنام الفرص، والاستفادة من الأوقات.
وإياك أخي الكريم من الاغترار بهذه الدنيا الفانية، فإن كنت كبيراً فاتق الله وارجع، وتب إلى الله، واستغل ما بقي من عمرك، وأنت أخي الشاب لا تأمن مكر الله، ولا الموت، ولا تظنن أنك في أمان منه فقد يموت الصغير، ويعمَّرُ الشيخ الكبير، ويهلك الصحيح، ويصحُّ المريض، فكم من صغير دَفَنْتَ، وشاب وشابة واريتَ، وكم من عروس قبرتَ، وشيخ عجوز عاصرتَ؟ واعتبر أنه قد مات أبناء وبنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم قبله إلا فاطمة الزهراء.
فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة وطول الأمل، وحب الدنيا، وكراهية الموت، فهذه أدواء مضلة، وأمراض مذلة، وأماني مخلة، وتأمل لما بعد الموت، وفكر فيه.
نسأل الله - عز وجل - أن يهوِّن علينا سكرات الموت، وأن يقينا عذاب القبر، وأن يثبتنا بالقول الثابت إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
1 سورة آل عمران (102).
2 سورة النساء (1).
3 سورة الأحزاب (70-71).
4 سورة العنكبوت (57).
5 سورة ق (19).
6 البخاري (4094).
7 تفسير ابن كثير (4/270)بتصرف.
8 سورة ق (16-35).
9 سورة ق (8).
10 في ظلال القرآن (7/10).
11 سورة الحج (31).
12 المستدرك (1/93)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/219).
13 سورة البقرة (197).
14 سورة القيامة (29-30).
15 سورة الأعراف (34).
16 سورة الزمر (71-74).
17 سورة المؤمنون (99-100).
18 سورة النساء (18).