أفحكم الجاهلية يبغون؟!
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين ورب الناس أجمعين، مالك الملك، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك1.
أيها المسلمون:
إن القرآن الكريم قد حسم الحكم في قضية التشريع، ولم يجعل مكاناً للمماحكة في هذا الحكم الجازم ولا لمحاولة التهرب والتحايل والتحريف؛ فشريعة الله هي التي يجب أن تُحكَم في هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس، وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومِنْ بعدهم الحكام، وهذا هو مفرق الطرق بين الإيمان والكفر، وبين الشرع والهدى، فلا توسُّط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح, فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله، لا يُحَرِّفون منه حرفاً، ولا يبدلون منه شيئاً والكافرون والظالمون والفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله؛ لأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان، وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى ممَّا لم يأذن به الله فهم الكافرون والظالمون والفاسقون، والناس كل الناس إما أن يقبلوا حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم المؤمنون، وإلا فما هم بمؤمنين ولا وسط بين هذا الطريق وذاك، ولا حجة ولا معذرة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فشريعة الله التي جاء بها القرآن الكريم جاءت لتكون هي المرجع النهائي للبشرية جمعاء، ولتقيم المنهج الذي تقوم عليه الحياة البشرية في شتى شعبها ونشاطاتها، لقد جاءت ليُحكم بها، لا لتعرف وتدرس، وتتحول إلى ثقافة في الكتب تُسَوَّدُ بها القراطيس؛ يقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} (48) سورة المائدة.
إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة، وحاسمة في ضمير المسلم ويجب التسليم التام بمقتضى هذه الحقيقة، وإلا لا يستقم للمسلم ميزان، ولا يتضح له منهج ولن يخطوَ خطوة واحدة في الطريق الصحيح.
عباد الله:
إن القرآن الكريم لم يُعطَ المكانة السامية أو المنزلة المرموقة بنحو كافٍ بين أنصاره وأتباعه في هذه الأيام، فهو ليس للتبرك، ولا للتلاوة على أرواح الأموات، ومناسبات التعازي، أو التلاوة اليومية من حفظته وعشاقه فقط، وإنما هو دستور للعمل والتطبيق، وتصحيح للعقيدة والشريعة ومناهج السلوك والأخلاق، فإن الله تعالى أوجب بنص قاطع على عباده أن يتدبروا آياته، ويعملوا بنحو شامل لا يقبل التجزئة بشرائعه وأحكامه، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) سورة ص.
إنه لو أتيح لكثير من الحكام حظ من التعقل والإنصاف ولو تجردوا ساعة من شهواتهم؛ لاستمدوا التشريع من معين القرآن، دستور الحياة الأقوم، ولحكموه في جميع شؤونهم، بإيمان واثق يملأ النفوس، والقلوب والمشاعر والأفئدة، وينير جوانب الحياة كلها ضياءُ الإسلام ونور القرآن؛ هنالك تزدهر الحياة وتسعد الرعية ويستشعر العطشى إلى حياة هانئة سعيدة بأن القرآن هو طريق السعادة وسبيل النجاة؛ وذلك من خلال الاستجابة لأوامر الله تعالى والالتزام الدقيق بتطبيق شرعته وتحكيم شريعته في واقع البشرية جمعاء.2
عباد الله: إذا علم أن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والعرافين ونحوهم ينافي الإيمان بالله -عز وجل- وهو كفر وظلم وفسق، يقول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (44) سورة المائدة. ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (45) سورة المائدة. ويقول –جل وعلا-: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (47) سورة المائدة.
وبين تعالى أن الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، وأن الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه، وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، يقول سبحانه: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (49-50) سورة المائدة3.
لقد أمر الله -جل شأنه- جميع الناس أن يرد كل منهم ما لديه من أمانة إلى أهـلها, ثم أوصى سبحانه من وُكلَ إليه الحكمُ في خصومة أو الفصل بين الناس في أمرٍ مَّا أن يحكم بينهم بالعدل سواء كان مُحكَّماً، أو وَليَّ أمر عام أو خاص، ولا عدل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذلك الهدى والنور والصراط المستقيم.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (58-59) سورة النساء.
ثم أثنى سبحانه على ما أسداه إلى عباده من الموعظة إغراءً لهم بالقيام بحقها، والوقوف عند حدودها, وختم الآية بالثناء على نفسه بما هو أهله من كمال السمع والبصر؛ ترغيباً في امتثال أمره رجاء ثوابه، وتحذيراً من مخالفة شرعه خوفاً من عقابه, ثم أمر تعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مطلقاً؛ لأن الوحي كله حق، وأمر بطاعة أولي الأمر فيما وضح أمره من المعروف؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ كما دلت عليه النصوص الثابتة الصريحة في ذلك, فإذا اشتبه الأمر ووقع النزاع وجب الرجوع في بيان الحق، والفصل فيما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة؛ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (59) سورة النساء. وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (10) سورة الشورى4.
اللهم حكم فينا كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك. اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين, اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
مما تقدم يتبين لك -أيها المسلم- أن تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله، وأنه مقتضى العبودية لله والشهادة بالرسالة لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تعامل به الدولة رعيتها، أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل مكان وزمان، وفي حال الاختلاف والتنازع الخاص والعام، سواء كان بين دولة وأخرى، أو بين جماعة وجماعة، أو بين مسلم وآخر، الحكم في ذلك كله سواء، فالله سبحانه له الخلق والأمر، وهو أحكم الحاكمين، ولا إيمان لمن اعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله، أو تماثله وتشابهه، أو أجاز أن يحل محلها الأحكام الوضعية والأنظمة البشرية، وإن كان معتقدا بأن أحكام الله خير وأكمل وأعدل.. فالواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم، وأهل الحل والعقد فيهم: أن يتقوا الله -عز وجل- ويحكموا شريعته في بلدانهم وسائر شئونهم، وأن يقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأن يعتبروا بما حل في البلدان التي أعرضت عن حكم الله، وسارت في ركاب من قلد الغربيين، واتبع طريقتهم، من الاختلاف والتفرق وضروب الفتن، وقلة الخيرات، وكون بعضهم يقتل بعضاً، ولا يزال الأمر عندهم في شدة، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عليهم سياسياً وفكرياً إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه، وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه لعباده، وأمرهم به ووعدهم به جنات النعيم، وصدق سبحانه إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (124-126) سورة طـه.
ولا أعظم من الضنك الذي عاقب الله به من عصاه، ولم يستجب لأوامره، فاستبدل أحكام المخلوق الضعيف، بأحكام الله رب العالمين، وما أسفه رأي من لديه كلام الله تعالى، لينطق بالحق ويفصل في الأمور، ويبين الطريق ويهدي الضال، ثم ينبذه ليأخذ بدلا منه أقوال رجل من الناس، أو نظام دولة من الدول، ألم يعلم هؤلاء أنهم خسروا الدنيا والآخرة فلم يحصلوا الفلاح والسعادة في الدنيا، ولم يسلموا من عقاب الله وعذابه يوم القيامة..!؟5.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد, يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أن تنصر الإسلام والمسلمين وتخذل الشرك والمشركين وتدمر أعداء الدين اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر إنك على كل شيء قدير, اللهم حقق النفع وسدد الخطى وعلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً, والعاقبة للمتقين.6 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه لـ(ابن باز).
2 كتاب اتخاذ القرآن الكريم أساسا لشؤون الحياة والحكم في المملكة لـ(أ. د صالح بن غانم السدلان).
3 وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه لت(ابن باز).
4 مجلة البيان العدد 142 ص47 ذو القعدة 1420هـ.
5 وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه لـ(ابن باز).
6 كتاب اتخاذ القرآن الكريم أساساً لشؤون الحياة والحكم في المملكة لـ(أ. د صالح بن غانم السدلان).