أمة الإسلام بين الواقع والمأمول
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، ونشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله كريم السجايا وشريف الخصال، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وأفض آل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي وصيته سبحانه للأوائل والأواخر، وبها تسمو الضمائر، وترق المشاعر، وتقبل الشعائر، وهي الزاد الحقيقي في هذه الدنيا وفي غياهب المقابر، وبها النجاة يوم تبلى السرائرُ.
أيها المسلمون: حيثما تخيم على الأمة الليالي الحوالك، فإنها بحاجة إلى من يضيء لها المسالك، وعندما تتقاذف سفينة المجتمع أمواج من التيارات، وطوفان من التحديات، تمس الحاجة إلى ربانين1 مهرة، وأئمة مصلحين بررة، يقودون دفتها إلى بر الأمان، وشاطئ السلام.
إخوة الإسلام: الصراع بين قوى الخير وقوى الشر: سنة جارية، وشرعة ماضية، تؤكدها شواهد التاريخ، وشهادات الواقع، غير أن النهاية الحتمية- تأكيداً لوعد الله الذي لا يتخلف، وسنته التي لا تتغير ولا تتبدل- هي إحقاق الحق، وإبطال الباطل ولو كره المجرمون؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} سورة الرعد(17).
ومن فضل الله ولطفه ورحمته بعباده: أن هيأ لهذه الأمة في كل زمان ومكان من يضيء لها معالم الدروب، ومن يقارع -بإذن الله- عواتي الخطوب، ويقاوم شدة الأمواج العاتية، ويصارع قوة التيارات الغاشمة، ومن يجدد لهذه الأمة أمر دينها؛ {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} سورة التوبة(32)؛ فلما علا الطوفان الجاهلية الأولى، وطغى الشرك والوثنية منَّ الله على هذه الأمة ببعثة النبي المصطفى، والحبيب المجتبى، والرسول المرتضى، محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أمة الإسلام: لقد حمل لواء الدعوة بعد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صحابته الغر الميامين. وتمر القرون، وتتابع السنون، وتعيش أمة الإسلام في أوضاعها بين مدٍ وجزرٍ، ولا يزال -ولله الحمد والمنّة- في كل الأعصار والأمصار من هو قائم لله بحجيته، منافحٌ عن دينه وملته، واليوم ترسو سفينة الأمة على شاطئ عالمنا المعاصر، حيث علا طوفان الافتتان بالحضارة الغربية، وطغى تيار الحياة المادية، فانبهر كثير من بني جلدتنا، ومن يتكلمون بألسنتنا، بما عليه ظاهر القوم، وأصيب كثير من أرباب الفكر والثقافة، وحملة الأقلام، ورجال الإعلام، أُصيبوا بالانهزامية الفكرية والخلقية والثقافية، فآثروا على الرعاع2، وخدعوا الدهماء بزخرف القول، وقشور التقدمية المزعومة، والمدنية الزائفة.
وبعد سنوات من الصراع بين الحضارة الإسلامية والمادية، أيقن الناس بعدها بإفلاس حضارة المادة، وتعرت الشعارات الزائفة، وأفلست النظريات الجوفاء، وشعر العالم- لاسيما المنصفون- بالحاجة إلى دين حق، يهذب النفوس، ويزكي الضمائر، ويضبط الأخلاق والسلوك، ونمت -ولله الحمد والمنَّة- توجهات إسلامية عالمية، ستعيد -بإذن الله- للأمة المفقودة من أمجادها، والمنشور من عزها، والمعقود من آمالها؛ فانتشرت المراكز الإسلامية، وكثرت الصروح العلمية والحضارية التي تعد معاقل خير وهداية، وصروح إشعاع وإصلاح، وجسوراً للتواصل بين حضارة الإسلام وغيرها، وانتشرت بيوت الله في أرض الله، بعمارة الموفقين من عباد الله، في عقره دور أهل الحضارة المادية.
ومع هذه البشائر فإن هناك من يريد إسدال الستار على عقول أبناء هذه الأمة؛ لتتمكن خفافيش وأدعياء الحضارة من التسلل في ليل حالك، لترتفع ألسنة لهيب المفتونين لحماية هذه العفن، والدفاع عنه، والدعوة إليه بدعاوى مزركشة، وأقوال مزخرفة، وألبسة فاتنة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، يركبون مطايا من الموضات، ويتزينون بأشكال من التقليعات؛ في سماجة خلقية، وسذاجة فكرية، فكان لا بد من كشف ستورها، وإخراج مغمورها، وإماطة اللثام، والعمل على إشعاع النور في الظلام، تنويراً للخلائق، وإيضاحاً للحقائق؛ {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} سورة التوبة(32).
معاشر المسلمين: ولم تكد القرون المفضلة تنقضي، والعصور الزاهية لهذه الأمة تنتهي، حتى بدأ في الأمة الانحدار، وأخذ تطبيق الإسلام في الانحسار، فكثرت الانحرافات، وتمكنت الفرقة والخلافات، تبدلت قوة الأمة ضعفاً ووهناً، وعزتها ذلة واستجداء3، وأغار أعداء الأمة على كثر من بلادها؛ فنهبوا خيراتها، وعبثوا بمقدراتها، واستغلوا ثرواتها، و" وتداعوا عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها" فتتابعت الحملات الصليبية، والهجمات التتارية، وتهاوت الحضارة الإسلامية في الأندلس، بعدما نعمت بها ثمانية قرون، واقتسم الأعداء تركة الرجل المريض، وعبثوا بمقدسات الأمة، وسقطت دويلات المسلمين في أيدي العابثين المستعمرين، وبدأت حملات التغريب، وسياسات تجفيف المنابع الخيرية في الأمة، ومسخت الهوية الإسلامية في كثير من بلاد المسلمين، وعلت الشعارات القومية والنعرات الطائفية، تلتها الحدود الجغرافية، والتقسيمات الإقليمية، وخطب كثير من المنتسبين على الإسلام ود أعدائهم.
وحورب الإسلام بمصطلحات غربية؛ أشهرها في هذه الآونة: ما يعرف بمصطلح "العولمة" الذي يعد -باختصار- غابة مظلمة، تملؤها وحوش كاسرة، إنه يرمي إلى تحويل العالم إلى قرية واحدة، لكنه يثير اليوم زوابع منتنة4، وينفث سموماً قاتلة؛ من الممارسات والفواجع المدمرة، ويفضي إلى هيمنة غربية على الأمة الإسلامية، ومن البدهي: أن الأمة المسيطرة تسعى لفرض معتقداتها وثقافاتها ومصالحها على الأمم المستجدية؛ إنها لا تريد انتقال معلومات مجردة، وتقنيات ميسرة فحسب، وإنما تريد أن تبذر بذوراً من حنضل؛ لتجتني الأمة ثماراً من علقم، تتجرع مرارتها شج5 في الحلوق، وطعنات في الخواطر.
وإن تعجبوا -يا رعاكم الله- فعجب كيل أرباب العولمة بمكيالين حينما تبدوا سياستهم أكثر انغلاقا وعنصرية ورفضا للعالمية الصحيحة، حينما تمس أنماط معيشتهم؛ وإلا فالمسلمون هم أهل العالمية الحقة التي تملأ الأرض رحمة وعدلاً وسلاماً؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} سورة الأنبياء(107).
ثم من حق المسلمين أن يتساءلوا: لماذا يتخذ دعاة العولمة الإسلام عدوا لدوداً، ويحاولون تشويه صورته، وطمس حقائقه، ظلماً وعلواً، وجر بلاده إلى أنواع من العولمة المفضوحة، لعل من أشدها أثراً، وأكبرها خطراً، وأعظمها ضرراً: تلك العولمة الثقافية والإعلامية التي تبث الحرب ضد عقيدة المسلمين، وقيمهم وفكرهم النير، وتروج لثقافات مسمومة، تنذر طلائعها بمزيد من الشقاء للبشرية، فهل يا ترى يتنبه المسلمون لما يراد بهم، ويخطط لهم؟!.
إن هذه المصطلحات تحدٍ كثير يحتاج من الغيورين في الأمة إلى رصدها، والتصدي لها من وجهة شرعية؛ كما أنها قضية تحتاج إلى النظر فيها بدقة وتفهم؛ لإمكان الاستفادة من إيجابياتها التي لا تتعارض مع مصالح أمتنا الإسلامية، وثوابتها العقدية والشرعية.
وتبقى الحقيقة المسلمة في منطلق هذه الصيحات والمصطلحات، وهي المشعل الوضاء في نهاية نفق التحديات المليء بالكيد والمؤامرات؛ فلن تهزم هذه المصطلحات -بإذن الله- عقيدة الإيمان المتغلغلة في نفوس المسلمين -بحمد الله- وإنه لا يمكن للمسلمين أن يواجهوا هذه التحديات إلا بتوحيد الجهود، وتنسيق المواقف في منظومة متألقة في عالم يموج بالتحولات، وتعصف بعوامل استقراره المتغيرات.
ألا فليعلم سماسمرة العولمة في عالمنا الإسلامي: أن أمتنا الإسلامية -بتاريخها وأجيالها- لن تفرط في شيء من ثوابتها، ولن تتنازل عن شيء من خصائصها مهما عملوا على خلخلة البُنى التحتية -الثقافية والأخلاقية- في كثير من المجتمعات؛ فلن نعمل -بإذن الله- مستوردين لأنماط العادات الموضوعات في بعد عن قيمنا ومبادئنا.
لقد خيّل لبعض المنهزمين أمام الحضارة الغربية ممن استعبد الغزو الفكري قلوبهم: أن السبب فيما أصاب أمتنا من ضعف وتأخر، كان نتيجة حتمية لتمسكهم بدينهم، فالله المستعان، وسبحان الله!
عباد الله: كيف انخدعت فئام من الأمة؟! وكيف انحدرت إلى هذا المستوى من الواقع المرير؟! احتلت فلسطيننا الصامدة المجاهدة، واستبيحت مقدساتنا المسلمة، وعبث بأرضنا المباركة، ونحيت شريعة الله في كثير من البلاد، بل أقيمت المتاريس ضدها بأجيال انتزعت هويتهم، وتربوا على فكر أعدائهم، وسممت جملة من مناهج التعليم، ووسائل الإعلام- في كثير من بلاد المسلمين- فأفرزت أجيالاً نافرة عن دينها، ومنسلخة من قيمها، فخرجت تنعق6 بدعوات غريبة، وتعتنق أفكاراً جاهلية وترى في الدين تأخراً ورجعية فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألم يئن الأوان -يا أمة الإسلام- أن تعي الأمة رسالتها، وأن تتعرف على الخلل الكبير في حضارة أعدائها؟! فيا أهل الإسلام يا من أعزكم الله بهذا الدين، وشرفكم بحمل أمانته- يوم أن عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها- إن عليكم مسئولية كبيرة تجاه دين الله؛ تعلماً وتعليماً ودعوة وإصلاحاً؛ فالدين قادم -بحمد الله- لا بد أن تستيقن الأمة بمراتب اليقين كلها: أنه لا مخلص لعالم اليوم -من أزماته الخانقة، وأوضاعه المتردية- إلا الإسلام الحق على عقيدة التوحيد الصافية، والمتابعة الصحيحة للمنهج السليم، كتباً وسنة بفهم سلف الأمة.
وإن الناظر الغيور ليأسى أشد الأسى من تضييع الأمة لكثير من الفرص في الدعوة على دينها، واستثمار وسائل العصر الحديثة، كالفضائي من القنوات، العالمي من الشبكات، ووسائل المعلومات، فأين من يحمل هموم العمل للإسلام؟! هاهو العالم يفتح صدره للإسلام، فأين العاملون المخلصون بمنهج قويم، وأسلوب سليم؟! كم يبذل المسلمون من أوقاتهم وجهودهم لدينهم؟!
كفى حزناً للـدين أن حماته *** إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر؟!
أما والله والإسلام حـق *** يدافــع عنه شبان وشيب
أمة الإسلام: إن من البشائر أن الحضارة المعاصرة تعلن إفلاسها، وتلفظ أنفاسها؛ وذلك لأنها فرطت في أعظم مقومات البقاء؛ حيث أهدرت القيم الإنسانية،ورفضت أن يكون للدين سلطان على الحياة، ومن هذه الثغرة دخلت عليها آفات النقص، وعوامل الإفلاس، ومع أنها حققت التقدم المادي، كلنها تجاهلت الجانب الإنساني، والمصير الأخروي: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} سورة الروم(6) (7)؛ لقد أهملتِ الإنسان، وتجاهلت روحه ووجدانه، وعقله وقلبه، ولم تنسجم مع فطرته التي فطره الله عليها؛ بل قدمت له الشهوات البهيمية بدعوى الحرية الشخصية، وجعلت منه آلة موَّارة7، ورحى دوارة، خلية من معاني الروح، ومعالي القيم؛ ولذلك تتعالى الصيحات من هنالك وهناك، منذرة بسوء مصير البشرية في ظل هذه الحضارة المادية الخاوية من مقومات الروح والإيمان، وتوشك أن تنحدر إلى الهاوية.
هاهم المنصفون يعلنون صيحات الخطر بأنه لا حضارة إلا بالإسلام، و: ما راء كمن سمعَ،
لقد أعز الله هذه الأمة بالإسلام ، وهزمت معسكرات الوثنية، ودكت معاقل الجاهلية، وحُطم القياصرة، وكُسر الأكاسرة، وهُزم التتار والصليبيون برفع شعار: الله أكبر، وانتصر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، وعزَّ عمر وسعد وخالد وطارق، وصلاح الدين بإعلاء راية "لا إله إلا الله محمد رسوله الله" وأصبحت الأمة قوية مرهوبة الجانب بالإسلام ليس إلا، وستنصر هذه الأمة المعاصرة بالإسلام- بإذن الله- لأنه دين الفطرة؛ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} سورة الروم(30).
ومع هذا كله؛ فلابد أن يقدم المسلمون لدينهم، يصلحوا أنفسهم، ويعالجوا عيوبهم من الداخل، ويسدوا كل ثغرة يريد أن ينفذ العدو منها، وأن يتحدوا على المصدرين العظيمين، الكتاب والسنة، وينبذوا كل الاتجاهات والمذاهب، وجميع الأحزاب والمشارب، التي تخالف تعليمه، وأن يؤصلوا- في أنفسهم وأجيالهم- العلم الشرعي النافع، والتربية السليمة الراشدة.
سدد الله خُطا العاملين، وبارك في جهود الغيورين؛ لنصرة دينهم، وخدمة أمتهم وبلادهم، وجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم؛ إنه خير مسئول، وأكرم مأمول.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ومنّ علينا بلباس الإيمان خير لباس، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة سيد الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الفضل والإنعام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله بدر التمام، ومسك الختام، وخير من عمل بالدين وقام، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إخوة العقيدة: إن المسلم يتفاءل كثيراً بأنّ المستقبل لدين الله؛ كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} سورة الروم(47)، وكما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبشر: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيز، وبذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)8. وتلك ليست أحلاماً أو أوهاماً حاشا وكلا!! وإنما هي وعود حق، وأخبار صدق، غير أن الواجب على الأمة الإسلامية: أن يكون لها مزيد اهتمام، وبذل جهود أكثر في خدمة الدعوة الإسلامية، وإننا لنتوجه إلى قادة المسلمين بتذكيرهم بالواجب الأكبر في إعزاز دين الله، وتحكيم شريعة الله، ونصرة أولياء الله.
على المسلمين جميعاً أن يبذلوا لدينهم؛ لأن الناس متعطشون لغذاء الروح بعد أن ملوا التففن بالماديات لاسيما في العالم الغربي، وإن على العلماء، والدعاة إلى الله، وأهل الخير والإصلاح، وذوي الكفاءة العلمية والآداب المرعية: أن يسهموا في النهوض بمستوى الدعوة والتوجيه؛ لما لها من الأثر البالغ عالمياً عالمياً؛ تصحيحاً للمناهج، وتقوية للأواصر، وتشجيعاً للمسلمين في كل مكان، وإشعاراً لهم بمكانهم، ودور بلاد الإسلام التي يشعرون بأنها تهتم بهم، وترعى شئونهم، وتشاطرهم آلامهم وآمالهم؛ وبالتالي: سد الباب أمام كل من يريد الاصطياد في الماء العكر من أصحاب الاتجاهات المنحرفة، والمسالك الضالة، والمسارب المشبوهة؛ كما أن الدعوة متجددة -وبإلحاح شديد في عصرنا الحاضر- إلى العمل على إيجاد قنوات إعلامية إسلامية تبث الدعوة إلى الله ومحاسن الدين القويم بلغات شتى؛ لأن الإعلام اليوم -في العالم كله- يؤدي دوراً كبيراً في التأثير على جميع الفئات، مما يتطلب من المعنيين بشئون المسلمين- لاسيما أهل الثراء واليسار ورجل الأعمال وذوو الاقتدار- أن يسهموا بسد هذه الثغرة؛ أداء للواجب عليهم تجاه دينهم ومجتمعاتهم.
وأمتنا -بحمد الله- أمة مليئة بالكفاءات، ثرية بالطاقات، وزاخرة بالقدرات، في شتى التخصصات، ممن هم مؤهلون للعمل بجدارة واقتدار، أتعجز الأمة بكفاءاتها ورجالها ومواردها: أن ينبري منها من يقوم-تسلية للمحزون، وإقراراً للعيون- بإنشاء قنوات إعلامية إسلامية تواكب تطورات العصر، وتحمل رسالة الإسلام الحق، بعد أن عملت القنوات الفضائية المسفة أبشع أعمالها؛ بوأد الفضيلة، ورفع راية الرذيلة، غثاء وهراء، وعفنا وانحلالاً، تبكي له الفضيلة، وتئن من لأوائه الأخلاق والقيم، ومما يزيد القلب أسى وحرقة: أنها قد تعود في معظمها إلى ملاك من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا؛ فأين حمية القوم الدينية؟! وشهامتهم، العربية؟! وغيرتهم الإسلامية؟! نعوذ بالله من الردى بعد الهدى!.
وللحوادث سلوان يسهلها **** وما لما حلَّ بالإسلام سلوان
ألا نفـوس أبيات لها همم *** أما على الخير أنصار وأعوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد *** إن كان في القلب إسلام وإيمان
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} سورة العنكبوت(69).
أيها الأحبة في الله: إن دين الإسلام الذي هدانا الله إليه -وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله- هو المنة الكبرى، والنعمة العظمى، التي نسأل الله أن يوزعنا شكرها، علماً وعملاً، ظاهراً وباطناً، هو دين الخير والعدل والسلام، والرحمة والمحبة والوئام، والبشرية اليوم تتطلع على أن تتفيأ ظلال هذا الدين القويم؛ مما يتطلب الجد في مجال العمل للإسلام، والنهوض بمستوى الدعوة إلى الله، وتنسيق الجهود بين العاملين، والحذر من الخلاف والفرقة التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص.
ألا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفها في درجاتكم؛ كثرة صلاتكم وسلامكم على الهادي البشير، والسراج المنير، كما أمركم الله بذلك المولى اللطيف الخبير؛ فقال تعالى قولا كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}9. سورة الأحزاب (56).
1 الربانين: جمع ربان، وربان السفينة الذي يجريها. والمقصود هنا قادة الدعوة الإسلامية من العلماء.
2 الرعاع: غوغاء الناس وسقّاطهم وسفلتهم.
3 الاستجداء: طلب الجدوى، وهي العطية.
4 أي: أعاصير كريهة، والزوابع جمع زوبعة، وهي الإعصار.
5 الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
6 تنعق: تصيح.
7 أي كثرة الجري والحركة,
8 رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث تميم الداري، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم(3).
9 راجع: كوكبة الخطب المنيفية من منبر الكعبة الشريفة، صـ(602- 618). للدكتور عبد الرحمن السديس، خطيب المسجد الحرام. بتصرف.