التجديد في الإسلام
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله –تعالى-.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }(1)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(2) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(3) .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة,وكل بدعة ضلالة،وكل ضلالة في النار.
عباد الله : إن العالم الذي نعيش فيه تصطرع فيه العقائد والأفكار،وتتصادم المبادئ والآراء، وقد اقتضت سنة الله في هذا الكون أن يكون الصراع بين الخير والشر صراعاً مستمراً ما استمرت الحياة، ولا تزال شياطين الإنس والجن تواجهه بشتى الأسلحة منذ أن بُعث محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم الناس هذا. وإن أعظم الأخطار التي تهدد هذا الدين ما كان داخلياً نابعاً من صفوف متبعيه، فالذي يتتبع حركة هذا الدين في التاريخ يجد مصداق ذلك، فكل أنواع الإخفاق والانهزام التي مني بها أصحابه كانت أسبابها ترجع إلى تراخٍيهم في التمسك بهذه العقيدة، وابتعادهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وقد اقتضت حكمة الله أن يكون العلماء هم الرواد الذين يحملون النور في الظلمات الحالكة، وأن يكون علمهم هو الهادي للمسلمين، فيبثون بهذا العلم الثقة في النفوس المهزومة,ويبعثون الأمل في القلوب المقهورة، ويشخصون الداء ويصفون الدواء.
ولقد بدأ المسلمون يتنبهون لواقعهم الذي آلوا إليه: تراجع في القوى،وتشتت وتفرق، وملوك وولاة أنهكوا شعوبهم بظلمهم واستبدادهم، وأماتوا فيهم عوامل الوثوب والمقاومة،حتى غدوا جهلاء فقراء إلى جانب أمم الغرب التي استعدت عليهم،وبدأت تهددهم، وأخيراً قضت على آخر كيان سياسي كان يتكلم باسم هذا الدين وهو الدولة العثمانية، وتمكنت من أن تسيطر على بلدانهم وثرواتهم،وتجعلهم وبلدانهم غذاءً لمصانعها،وسوقاً لمنتجاتها، وقبل كل ذلك وضعت الخطط والبرامج من أجل تغيير عقائد هذه الشعوب، وقطع صلتها بتشريعها وقيمها وأخلاقها، وإحلال عقائد ومناهج الغرب الكافر محلها، فتقترب العقول من العقول، وتردم الهوة التي تفصل بين قيم وقيم، وعادات وعادات، فيسلس لها قياد هذه الشعوب، ويسهل لها تحقيق مطامعها في بسط الهيمنة ورفع الحضارة الغربية المسيحية الوثنية، وتدمير المعاني الإسلامية الربانية.
عباد الله: لقد ختم الله الرسالات برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانقطع بموته - عليه الصلاة والسلام - الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
وإن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن، ويطرأ عليها بمرور الزمن ما يكدر صفاءها، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عوامل الانحراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال..
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها، وتجلي الحقائق الملتبسة، وتحيي الفرائض المعطلة، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة. وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف. فقد روى الإمام أبو داود - رحمه الله تعالي - (في سننه): حدثنا سليمان بن داود المُهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا سعد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه. وقال السخاوي: سنده صحيح، ورجاله كلهم ثقات (4). وقال الألباني: والسند صحيح، ورجاله ثقات، رجال مسلم (5).
عباد الله: إن هذا الحديث العظيم يعتبر من البشائر التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها أمته،وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين، ويمنحه - فوق هذا - دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظاً من أجر المجدِّدين. وسنقف مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث: فأول ما يستوقف المتأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: « يبعث لهذه الأمة » إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش « لهذه الأمة » وسواء كان المقصود أمة الدعوة -على ما رآه قوم- أو أمة الإجابة - على ما رآه آخرون -؛ فإن هذا المجدد تعدى إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة الحياة، ومن ثم يحدث التوازن في مسيرة الحياة البشرية كلها، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود. وهو بهذا مجدّد للأمة الإسلامية بإيقاظها، وإعادة ثقتها بدينها، وردها إلى المنهج الصحيح.
وهو مجدد للبشرية كلها، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان.. المحتاجة إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير، ويرضون بالدون، فيكتفي أحدهم بحفظ نفسه ومن تحت يده - إن استطاع - ثم يترك أمر الناس للناس ! بل قد عظمت همته واشتدت عزيمته فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف، وأقلق قلبه تسلط الظالمين والمفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون، فآلى على نفسه أن يزاحمهم ما استطاع، ويشق الطريق للأخيار حتى يأخذوا دورهم في الحياة من جديد.
إن الذين تتحرك في نفوسهم الآمال والتطلعات كثيرون، ولكنهم يتساقطون واحداً بعد الآخر كلما تقدمت بهم الطريق وازدادت التحديات وكثرت المتاعب.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون؛ لأنهم صابروا العقبات، وغالبوها حتى غلبوها؛ لأن همتهم كانت أعظم من تلك العقبات: كانت تجديد الدين لهذه الأمة، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم، مع تحقيق معنى انتمائهم للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي، ويمارسون دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله,الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون قال -عليه الصلاة والسلام-:(إن الله يبعث لهذه الأمة) فالبعث المذكور يكون على رأس المائة، والبعث هو الإثارة والإرسال، فيكون المعنى:(إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجدداً، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام، وينتصب لنشر الأحكام) (6). فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة، بل تجديده. ولذلك استغرب الإمام المناوي فهْم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن,وقال: (وموته على رأس القرن أخذٌ لا بعثٌ)(7).
وقال السيوطي في منظومته التي سماها: (تحفة المهتدين بأخبار المجدِّدين)(8):
والشرط في ذلك أن تمضي المائة ***** وهو على حياته بين الفئة
يشـار بـالعلم إلى مقامـه ***** وينصر السنة في كلامه (9)
أما المقصود بـ (الرأس) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: « على رأس كل مائة سنة »قال بعضهم: يعني في أولها، وقال آخرون: بل في آخرها (10).
وحين نعود إلى تحديد الأئمة للمجددين نجده محتملاً للوجهين، فهذا عمر بن عبد العزيز الذي أطبقت عليه الأمة تولى سنة 99 هـ، وتوفي - رحمه الله - سنة 101 هـ.
ثم من بعده الشافعي، توفي - رحمه الله - سنة 204 هـ، ولعل القضية تقريبية لا تحتمل الحسم القاطع,بحيث لو وجد من تنطبق عليه صفات المجدد,ثم مات قبل تمام المائة يكون مجدداً. إن عدم تحديد المقصود بالرأس، وعدم تحديد المبتدأ.. كل ذلك أمرٌ مقصود حيث يظهر المجدد كلما دعت الحاجة إليه لبعد الناس عن عهد النبوة، أو لبعدهم عن عصر المجدد السابق.
ومما يبين ذلك ويجليه أن الأحداث والمصائب النازلة بالمسلمين في دينهم ودنياهم، والتي يفتقر المسلمون خلالها إلى ذلك المجدد هي غير مسلسلة ولا محددة بأزمنة خاصة.
وفي تلك النكبات تتجلى رحمة الله بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - حيث ينقذها بفضله من الهلكة بمن يبعثه يحمل النور في ظلمة الديجور. كما أن هذا المجدد ينبغي أن يُتَصوَّر أن له من التأثير الممتد زماناً ومكاناً ما يجعله حياً في الأجيال التالية بعلمه وعمله، وإن كانت حياته الدنيوية المحدودة قد انتهت. وإن من شأن هذا التصور الذي عرضناه، وهذا الرأي الذي اخترناه أن تُردَّ الأمور إلى نصابها فبحسب من أحيا للأمة ما اندرس من أمر دينها إحياءً ظاهراً ملموساً للعيان من المجددين دون أن يعكر على ذلك كون وفاته تقدمت أو تأخرت عن رأس القرن.
أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: « من يجدِّد لها دينها». فيثار حوله سؤال ذو أهمية كبيرة: هل المقصود بذلك فرد أو جماعة كما صرحت به بعض الروايات؟ أم أن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟.
فأما لفظ « مَنْ » فهو يطلق على المفرد وعلى الجماعة - من حيث اللفظ -، ومن حيث المراد بها في الحديث,قال بعضهم: المقصود بها فردٌ، وحملوا « مَنْ » في هذه الرواية على لفظ (رجل)، واختار هذا الرأي عدد من العلماء،واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والذهبي، والمناوي، والعظيم آبادي، وغيرهم. وأيَّن كان الراجح من القولين فهناك حديث عظيم يبعث الأمل في نفوس أبناء هذه الأمة ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)(11). وهذا حديث عظيم مشهور، فقد ورد من طرق كثيرة جداً عن عدد من الصحابة.وفيه إشارة إلى ما يصيب الأمة من الانحراف والضعف والوهن والاختلاف حتى لا تبقى إلا هذه الطائفة القائمة بالحق، المقاتلة دونه، القاهرة لعدوها، الصابرة، فلا يضرّها من خذلها، ولا من ناوأها، إلا ما يصيبها من اللأواء(12). اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين يا رب العالمين,وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 -(102) سورة آل عمران.
2 -(1) سورة النساء.
3 -(70)-(71) سورة الأحزاب.
4 - المقاصد الحسنة، ص 121، ثم قال: (وقد اعتمد الأئمة هذا الحديث).
5 - سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2، ص 150، رقم 599 وقال في صحيح الجامع: حديث صحيح، ج2، ص 143، رقم 1870، ط: المكتب الإسلامي أما قوله: (رجال مسلم) فنعم، وانظر في ذلك: تهذيب التهذيب ج6، ص 71، ج4، ص7، ج4، ص 320، 323، 326، ج12، ص 173.
6 - مقدمة فيض القدير للمناوي، ج1، ص10.
7 -المصدر السابقً 1/12.
8- موجودة بكاملها في آخر رسالته (التنبئة)، وموجودة في فيض القدير ج 2، ص282، وعون المعبود 4/81.
9 -التنبئة ص18/ب.
10 -انظر: عون المعبود ج4، ص 178 - 179.
11 -رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق رقم 7311، ورقم 7312، ج13، ص293 ومسلم في:كتاب الإيمان، باب نزول عيسى عليه السلام، حديث رقم 156، ج1، ص137
12-راجع مجلة البيان العدد الأول ص 10.