ولا يزالون يقاتلونكم
الحمد لله رب العالمين، عم بنعمته الخلائق كلها، على مدار الأعوام والسنين، وأكمل دين الإسلام ورضيه ديناً لعباده المؤمنين.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن سنن الله تعالى الكونية الصراع بين الحق والباطل، واستمرار عداء أهل الكفر والنفاق لذوي الإيمان حتى قيام الساعة.
ومظاهر الصراع والعداء لفسطاط الإيمان تتباين صوراً وأوضاعاً ومظاهر وشدة وقوة وحجماً؛ لكنها تتفق جميعها على الهدف النهائي والغاية المقصودة ألا وهي النيل من الدين.
فالمؤامرات السياسية والمخابراتية، والكيد العسكري والأمني، والمكر الاقتصادي والمعيشي، والمخططات الثقافية والتعليمية والإعلامية والاجتماعية كلها جميعاً تبتغي القضاء على الإسلام وتدمير مقوماته وإبادة أهله، وذاك ما حدثنا عنه القرآن.
قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ...} (217) سورة البقرة.
وقوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...} (120) سورة البقرة.
وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً...} (109) سورة البقرة.
وواضح من الآيات الواردة في السورة ذاتها في أول القرآن أن الله تعالى يبين لنا سبيل المجرمين ويوضح لنا مبتغاهم حتى نأخذ حذرنا ونعد عُدتنا ونحذِّر قومنا.
الدين بُغيتهم:
والأعداء على مر الزمان وفي كل مكان يريدون القضاء على إيماننا وعقيدتنا وديننا، وأن نترك دين الله الذي ارتضاه لنا إلى ملتهم المعوجة المحرَّفة، ويستخدمون لذلك كل ما يمكنهم من أدوات يرونها قوية وسريعة التأثير وتحدث دماراً أوسع وخراباً أعم.
يتولى كبر ذلك العداء: اليهود والنصارى كما أشار القرآن، بل إنهم لينسون عداواتهم الدينية القديمة ويؤلِّفون حلفاً شيطانياً ضد ديننا وأمتنا: {... بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (51) سورة المائدة. و{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ...} (73) سورة الأنفال.1
إن من دأب الصليبين واليهود على مر التاريخ ومنذ بزوغ فجر الإسلام معاداة ومحاربة الإسلام والغدر بالمسلمين ومقاتلتهم حتى لا يتمكنوا من إعادة مجدهم الإسلامي التليد.
وتبعاً لهذا النهج العدائي للإسلام والمسلمين الذي تتبعه الصليبية واليهودية المعاصرة فإن ما يحدث الآن من تطورات خطيرة في بلدان العالم الإسلامي وبالأخص الشرق الأوسط، لهو مؤشر خطر على النظم العربية والإسلامية.
وسائل قتالهم:
وقد استنفد الكفار كافة الوسائل والسبل في قتال المسلمين، ومن تلك الوسائل:
القنوات الفضائية: الفكرية والإخبارية والثقافية والإباحية وما تبثه من سموم: فهي أخطر ما يواجه به المسلمون اليوم لأنها تبث وترى وتسمع ليلاً ونهاراً صباحاً ومساء.
"إنه أسلوب حديث في الحرب.. لا تشارك فيه الطائرات ولا الدبابات.. ولا القنابل والمدرعات.. حرب ليس له في صفوف الأعداء خسائر تُذكر.. فخسائره في صفوفنا نحن المسلمين.. غزو الشهوات.. غزو الكأس والمخدرات.. غزو المرأة الفاتنة.. والرقصة الماجنة.. والشذوذ والفساد.. غزو الأفلام والمسلسلات.. والأغاني والرقصات.. وإهدار الأعمار بتضييع الأوقات.
إنه غزو لعقيدة المسلمين في إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وأمور الغيب التي وردت في كتاب الله وصحت عن نبينا محمد.
إنه غزو لمفهوم الولاء والبراء، والأخوة الإسلامية، والاهتمام بقضايا الإسلام والمسلمين المتمثل في مبدأ الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
فأينما ذُكر اسم الله في بلدٍ
أعددت ذاك الحِمى من بعض أوطاني
إن هذا الغزو القادم إلينا من الفضاء يفعل ما لا تفعله الطائرات ولا الدبابات ولا الجيوش الجرارة.
إنه يهدم العقائد الصحيحة.. والأخلاق الكريمة.. والعادات الحسنة.. والشمائل الطيبة.. والشيم الحميدة.. والخصال الجميلة"2.
ومتى تخلت الأمة عن عقيدتها وأخلاقها وقيمها سقطت في بؤر الضياع والانحلال.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن سهامهم القاتلة في حربهم مع المسلمين:
الابتعاث أو البعثات والتي تسمى بـ-العلمية- إلى بلدان الكفار، وهي بعثات مشؤومة موبوءة يطلعونهم من خلالها على مناهجهم وأفكارهم، وحضارتهم، في مقابل التهوين من الحضارة الإسلامية.
كما "يواجهون هناك بسلسلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم, وخطط مدروسة, وأساليب ملتوية, في غاية المكر والدهاء, وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسخ وتبذل وخلاعة وتفكك ومجون وإباحية."3
فهي تحمل في طياتها كل حقد وغل للإسلام والمسلمين، وبها ينحل كثير ممن يُبعث إليها من القيم الإسلامية، وتحل محلها ما يمليه الغرب الكافر من ثقافة.
فلا تكاد تجد أحداً من أولئك المبعوثين إلا وقد تغيرت معالم إسلامه، وظهر بإسلام يريده الغرب حسب ما يتطلبه الواقع العلماني والمصالح الغربية.
ومن أساليبهم في تلك الحرب:
إضعاف دراسة تاريخ الأمة الإسلامية: في المدارس والجامعات ومراكز العلم في العالم الإسلامي، ومزاحمته بتواريخ الأمم الكافرة سواء القديم منها والحديث، مما يضعف شأنه في نفوس الدارسين، حيث يعطى لهم بصورة مختصرة ومشوهة، بينما يفسح المجال لدراسات واسعة في التاريخ القديم، ويربط سكان كل منطقة بتواريخ الأمم الجاهلية التي عاشت فيها، ففي مصر الفرعونية، وفي العراق البابلية والسومرية، وفي بلاد الشام الفينيقية، وفي اليمن السبئية والحميرية، مما يوجد الوطنيات العرقية الضيقة ويفتت الوحدة الإسلامية، ويشتت أوصال التاريخ الإسلامي، بحيث يبدو وكأنه نقطة في بحر أو جدول صغير في نهر.4
ومنها الغزوات والحملات التبشيرية المركزة على بلاد المسلمين في إندونيسيا والفلبين وبنغلادش وأوغندا والسودان وغيرها من البلاد, ويسلكون في ذلك وسائل كإنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ وإقامة الاجتماعات الترفيهية والجمعيات الإنسانية , وغايتهم في ذلك تدمير أخلاق المسلمين وعقولهم وقطع صلتهم بالله وإطلاق شهواتهم وهل هناك أنجح من حضنهم للمراهقين في مثل هذه الرحلات وغسل أدمغتهم بما يلقونه عليهم من توجيه.
هذه بعض وسائل القتال الفكري أو ما يعرف بالغزو الفكري، وهناك وسائل قتال عسكرية وهي التي أعلنها رئيس أمريكا "بوش" والتي سماها بالحرب الصليبية، وقد بدأها بالغارة على أفغانستان ثم العراق ثم الصومال..
فبالرغم مما يبدو للرأي العام العربي بشكل خاص من الحروب التي شنها ويشنها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش, بداية بغزو أفغانستان لتأمين بترول قزوين ولتهديد الصين، والحرب على العراق بدوافع اقتصادية –تامين منابع النفط- والقضاء على الإرهاب حسب زعمه.. إلا أن هذه الحروب وحسب المقولات التاريخية المذكورة سابقاً و "زلات لسان!" الرئيس بوش نفسه والعديد من كبار القادة هي حرب ضروس ضد الإسلام والمسلمين ومعظم الحركات الإسلامية.
لقد كشف الرئيس بوش عن جوهر سياسته العدائية واتخذ من ضرب البرجين "أحداث سبتمبر" ذريعة لشن الحرب على المسلمين كافة وتأكيد لكلامنا حتى لا نتهم بأننا نلقى الكلام جزافا..
فمعظم الذين قتلوا على أيدي الجنود الأمريكان في العراق كانوا مواطنين عاديين مسالمين... ومن بينهم نسبة كبيرة من الأطفال والنساء والشيوخ..
ويدل على العداء القديم للإسلام والمسلمين ما قام به الجنرال الفرنسي "هوغو" عندما دخل إلى سوريا ذهب مباشرة إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ليركله بقدمه ويقول بكل خسة ووقاحة وكبرياء "ها قد عدنا يا صلاح الدين...".
والأدلة في ذلك كثيرة جداً فمن أول بزوغ شمس الإسلام كان وما يزال الكفار يحاربونه ويقاتلون من أجل محو آثاره الطيبة.
ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ولن يستطيعوا أبداً، ما دام في المسلمين عرق ينبض بالإسلام.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (8) سورة الصف.
وسائل الدفاع:
وهنا نذكر بعض وسائل الدفاع ومنها:
1. أما عن مجابهة الغزو المتمثل في الإذاعات والكتب والصحف والمجلات والأقلام التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر, وأخذت تشغل أكثر أوقات المرء المسلم والمرأة المسلمة رغم ما تشتمل عليه في أكثر الأحيان من السم الزعاف, والدعاية المضللة فهي من أهم المهمات لحماية الإسلام والثقافة الإسلامية من مكائده وشره، مع التأكيد على دعاة الإسلام وحماته للتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة, والدعوة إلى الإسلام, والرد على أصناف الغزو الثقافي, وكشف عواره, وتبيين زيفه.5
2. وأما الطريق إلى السلامة من خطر البعثات إلى الخارج والبعد عن مساوئها وأضرارها فيتلخص في إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحد من الابتعاث إلى الخارج, وتدريس العلوم بكافة أنواعها مع العناية بالمواد الدينية والثقافة الإسلامية في جميع الجامعات والكليات والمعاهد; حرصا على سلامة عقيدة الطلبة, وصيانة أخلاقهم, وخوفا على مستقبلهم, وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على نور من تعاليم الشريعة الإسلامية, وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة, والواجب التضييق من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصره في علوم معينة لا تتوافر في الداخل.6
3. تذكير المسلمين بواجبهم تجاه أبنائهم من تربيتهم التربية الصالحة وأمرهم بأداء الشعائر والتحلي بالآداب الإسلامية ونهيهم عن المحرمات وعن الرذائل ووسائلها وغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم وصيانتهم عن رفقاء السوء وعن المجتمعات الفاسدة.
4. الجهاد في سبيل الله تعالى وتربية النشء على ذلك، ويشمل ذلك جهاد النفس، فلا يمكن أن تتحقق نتائج إيجابية لجهاد الأعداء حتى تتحقق في نفس كل مسلم.
والأدلة في ذلك كثيرة جداً ليس هذا محل حصر لها.
بم ننتصر؟
ولا يمكن أن يتحقق نصر للأمة الإسلامية على عدوها حتى يعيشوا الإسلام واقعاً حياً في حياتهم العملية والعلمية.
كما أننا لا ننتصر على الأعداء بالعدد والعدة فحسب ولكن نقاتلهم بهذا الدين، وليس معناه أنها ليست من وسائل النصر، ولكن الرجوع إلى الدين هو الأساس.
دروس وعبر:
1. قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ}.
قال الشنقيطي: "لم يبين هنا هل استطاعوا ذلك أولا؟ ولكنه بين في موضع آخر أنهم لم يستطيعوا، وأنهم حصل لهم اليأس من رد المؤمنين عن دينهم، وهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (3) سورة المائدة.
وبين في مواضع أخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في براءة، والصف والفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة.7
2. قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} دليل على استمرارية قتالهم لنا، وهم على الباطل ونحن على الحق، كما أن في ذلك دلالة على طول نفس الكافرين في أنهم لم ييأسوا من قتال المسلمين بل يسعون جاهدين للنيل منهم ومن مقدساتهم ولا سيما ما حصل في هذه السنوات الأخيرة من تمزيق للمصحف وتشويه لصورة الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير ذلك من الاستفزازات.
نسأل الله تعالى أن يرد كيد الكافرين في نحورهم، وأن يبطل بأسهم.
كما نسأله أن يرد كيد المعتدي، وأن يلوي ساعد الردي، وأن يجنب الأخيار من كل يد.
والحمد لله رب العالمين.
1 مجلة البيان - العدد [149 ص: (124) محرم 1421 - مايو 2000م.
2 الفضائيات غزو جديد.. مطوية.. دار الوطن.
3 مجموع فتاوى ومقالات ابن باز: (1/387).
4 مجلة البيان - العدد 21 ص: (68) - صفر 1410هـ سبتمبر 1989م.
5 مجموع فتاوى ومقالات ابن باز: (1/387).
6 مجموع فتاوى ومقالات ابن باز: (1/387).
7 أضواء البيان – في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي: (1/120).