صوموا تصحوا
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ما دجى ليل وصبحه.
أما بعد:
فإن الصوم في الإسلام تكليفٌ إلهيٌّ، صادرٌ عن الرب الذي له بمقتضى ربوبيته وإلوهيته أن يكلِّف عبادَه بما شاء من التكاليف، وأن يشرعَ لهم ما يريد من الشرائع والعبادات، فهو تكليفٌ إلهيٌّ كسائر التكاليف الشرعية التي تظهر بها ربوبيةُ الرب، وعبوديةُ العبد.
وما برح الناسُ في كل عصرٍ يرون من فوائد التشريع ما يتَّفق مع تفكيرهم ومنطقهم ومصالحهم، وهذا دليل على أن وراء هذا التشريع خالقٌ عظيمٌ، مدبرٌ حكيمٌ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}1.
ولقد أكتشف العلم الحديث السر في قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}2إن الطب الحديث لم يعد يعتبر الصيام مجرد عملية إرادية يجوز للإنسان ممارستها أو الامتـناع عنها، فإنه وبعد الدراسات العلمية والأبحاث الدقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية، ثبت أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري جداً لصحة الإنسان تماماً كالأكل والتنفس والحركة والنوم، فكما يعاني الإنسان بل يمرض إذا حرم من النوم أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام.
والحقيقة أن الإنسان لا يصوم بمفرده، فقد تبين لعلماء الطبيعة أن جميع المخلوقات الحية تمر بفترة صوم اختياري مهما توفر الغذاء من حولها، فالحيوانات تصوم وتحجز نفسها أياماً وربما شهوراً متوالية في جحورها تمتنع فيها عن الحركة والطعام، والطيور والأسماك والحشرات كلها تصوم.
وهنا تتجلى المعجزة الإلهية بتشريع هذه العبادة فقد جاء عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول -صلى الله عليه وسلم- مرني بعمل ينفعني الله به، قال: ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له))3.
يقول صاحب الظلال في معرض تفسيره لآيات الصوم:... وذلك كله إلى جانب ما ينكشف على مدار الزمن من آثار نافعة للصيام في وظائف الأبدان، ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصلية فيها هي إعداد الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في الحياة الآخرة..... مع هذا فإني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض، وذلك ارتكازاً إلى المفهوم من مراعاة التدبير الإلهي بهذا الذي ينكشف عنه العلم البشري، فمجال هذا العلم محدود لا يرتقي إلى اتساع حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري..."4
أهل الاختصاص يؤكدون:
الأطباء قد أطنبوا في الكلام على الآثار الصحية المترتبة على الصيام قديماً وحديثاً بما في ذلك المسلمون منهم وغير المسلمين وهذه أبحاثهم تنطق بذلك:
فقد قام عدد من الباحثين الغربيين، ومنذ أواخر القرن الماضي، بدراسة آثار الصوم على البدن منهم هالبروك Holbrook الذي قال: ليس الصوم بلعبة سحرية عابرة، بل هو اليقين والضمان الوحيد من أجل صحة جيدة?
ومن أشهر المؤلفين في فوائد الصيام الصحية العالم الأمريكي "ماك فادن" زعيمُ الثقافةِ البدنية في أمريكا، وهو من علماء الصحة الكبار؛ حيث أسَّس مَصَحّاً كبيراً مشهوراً بالولايات المتحدة سماه باسمه، وألَّف كتاب: "الصيام" بعد أن ظهرت له نتائجُ عظيمةٌ من أثر الصيام في القضاء على الأمراض المستعصية.
وقد قال ماك فادن وغيره: إن الصوم نافعٌ للجسم، يصفِّيه من رواسب السموم، التي تشتمل عليها الأغذية والأدوية.
ومن أساطين الطب والتربية في العصر الحديث، الذين استخدموا الصوم الدكتور "آلان كوت" حيث استخدم الصوم في علاج السكر، والنِّقْرس.
وكذلك الدكتور "كارلسون" حيث كانت وسيلته في تجديد الصحة، والدكتور "جيننجز" الذي كان يصفه في الحالات المرضية التي كانت تعرض له.5
يقول ابن القيم في كتابه القيم: "الطب النبوي"
"الصوم جنة من أدواء الروح والقلب والبدن، منافعه تفوت الإحصاء، وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها ولا سيما إذا كان باعتدال، وقصد في أفضل أوقاته شرعاً، وحاجة البدن إليه طبعاً... ولما كان وقاية وجنة بين العبد وبين ما يؤذي قلبه وبدنه عاجلاً وآجلاً قال الله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}6 فأحد مقصودي الصيام الجنة والوقاية وهي حمية عظيمة النفع.7
هاك الفوائد والشوارد:
فإن للصوم فوائدَ لا تحصى على صحة الأبدان، خصوصًا إذا اتَّبع الصائمُ النهجَ السليمَ في صيامه، وذلك من ناحية الاعتدال في مطعمه ومشربه ومن ذلك:
1.أن الصوم راحة للجسم يمكنه من إصلاح أعطابه ومراجعة ذاته.
2.الصوم يوقف عملية امتصاص المواد المتبقية في الأمعاء، ويعمل على طرحها والتي يمكن أن يؤدي طول مكثها إلى تحولها لنفايات سامة، كما أنه الوسيلة الوحيدة الفعالة التي يسمح بطرد السموم المتراكمة في البدن والآتية من المحيط الملوث، يؤكد هذا الكلام ماك فادن بقوله: كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضاً؛ لأن سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خف وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه، وتذهب عنه حتى يصفو صفاءً تاماً، ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد خلاياه في مدة لا تزيد عن 20 يوماً بعد الإفطار، لكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل.
3.بفضل الصوم تستعيد أجهزة الاطراح والإفراغ نشاطها وقوتها ويتحسن أداؤها الوظيفي في تنقية الجسم، مما يؤدي إلى ضبط الثوابت الحيوية في الدم وسوائل البدن، ولذا نرى الإجماع الطبي على ضرورة إجراء الفحوص الدموية على الريق -أي يكون المفحوص صائماً-، فإذا حصل أن عاملاً من هذه الثوابت في غير مستواه فإنه يكون دليلاً على أن هناك خللاً ما.
4.بفضل الصوم يستطيع البدن تحليل المواد الزائدة، والترسبات المختلفة داخل الأنسجة المريضة.
5.الصوم أداة يمكن أن تعيد الشباب والحيوية إلى الخلايا والأنسجة المختلفة في البدن، ولقد أكدت أبحاث مورغوليس Morgulis أن الصوم وحده قادر على إعادة شباب حقيقي للجسد.
6.الصوم يضمن الحفاظ على الطاقة الجسدية ويعمل على ترشيد توزيعها حسب حاجة الجسم.
7.و الصوم يحسن وظيفة الهضم، ويسهل الامتصاص ويسمح بتصحيح فرط التغذية.
8.الصوم يفتح الذهن ويقوي الإدراك ويكتب الدكتور إبراهيم الراوي عن أثر الصيام على القدرات الفكرية عند الإنسان ما نصه: يؤثر الصيام في تنشيط الخلايا الدماغية التي تضاعف حيويتها لتوقف نشاط الجهاز الهضمي، فيندفع الدم بغزارة إلى أنسجة المخ لتغذية تلافيفه، وتزويد الحجر الدماغية بالغذاء الأمثل لعملها.
نعم، إن المخ البشري يحتوي على 15 ألف مليون خلية ألهمتها القدرة الإلهية قابليات خارقة على التفكير والتعمق في المسائل المعقدة وحلها، وتزداد هذه القابليات مع زيادة ورود الدم إليها، وهكذا نرى أصحاب العقول المفكر يصومون كل فترة لتجديد نشاط أدمغتهم.
9. للصوم تأثيرات هامة على الجلد تماماً كما يفعل مرهم التجميل، يُجَمل وينظف الجلد.
10.الصوم علاج شاف، هو الأكثر فعالية والأقل خطراً لكثير من أمراض العصر المتنامية، فهو يخفف العبء عن جهاز الدوران، وتهبط نسبة الدسم وحمض البول في الدم أثناء الصيام، فيقي البدين من الإصابة بتصلب الشرايين، وداء النقرس، وغيرها من أمراض التغذية والدوران وآفات القلب.
وهكذا وبعد أن ينظف الجسم من سمومه وتأخذ أجهزته الراحة الفيزيولوجية الكاملة بسبب الصوم، يتفرغ إلى لأم جروحه، وإصلاح ما تلف من أنسجته، وتنظيم الخلل الحاصل في وظائفها، إذ يسترجع الجسد أنفاسه، ويستجمع قواه؛ لمواجهة الطوارئ بفضل الراحة والاستجمام اللذان أتيحا له بفضل الصوم.
يقول الدكتور ليك Liek: يوفر الجسم بفضل الصوم الجهد، والطاقة المخصصة للهضم، ويدخرها لنشاطات أخرى ذات أولوية وأهمية قصوى: كالتئام الجروح، ومحاربة الأمراض.8
ويعتبر الصيام وسيلة غريزية مجدية في إذابة الشحوم في البدن واعتدال استقلاب الأغذية فيه، كما أن مشاركة الجوع بالعلاجات الفيزيائية: كالمشي، والتمارين الرياضية، والتدليك، والحمامات المائية تعطي أفضل النتائج، فضلاً عن أنها وسائل غير مؤذية، ولا تقضي إلى النتائج الوخيمة المشاهدة عند استعمال الهرمونات، والمدرات، ومثبطات الشهية التي يهرع إليها البدينون بغية إنقاص وزنهم.
من وصايا السلف:
ولقد كان السلف يوصون بالتخفيف و الإقلال من الأكل؛ لعلمهم بأثره السيئ على قلوبهم قبل أن يكون على أجسادهم فهذا لقمان يوصي ابنه فيقول:"يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة".
وقال سفيان الثوري: "بقلة الطعام يملك سهر الليل".
وقال بعض السلف: "لا تأكلوا كثيراً، فتشربوا كثيراً، فترقدوا كثيراً، فتخسروا كثيراً".
وقال سحنون: " لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع".
أيها الصائمون الكرام: هذه بعض فوائد الصوم الصحية، وتلك بعض أقوال أهل الاختصاص في ذلك حتى من غير المسلمين، فيا لها من حكمةٍ إلهيةٍ تجعل الصائم -حقّاً- مَلَكاً في صورة إنسان؛ ليسعد بحياته، ويسعد به الآخرون. وسبحان الكبير المتعال الذي تظهر آياته في كل حين وآن، ولا تنقضي عجائب دينه ما تعاقب الملوان {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}9
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 النمل (88).
2 - سورة البقرة (184).
3 رواه النسائي برقم (2190)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/573).
4 في ظلال القران لسيد عند معرض تفسيره لآيات الصيام {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام..} الآيات,
5 دروس رمضانية لمحمد الحمد (1/59) بتصرف .
6 سورة البقرة (183).
7 الطب النبوي (1/259).
8 خلاصة دراسات لشلتون Shelton في كتابه عن الصوم Le Jeune، ولوتزنر H. lutzner في كتابه: "العودة إلى حياة سليمة بالصوم" _ ترجمة الدكتور طاهر إسماعيل.