الإشاعة
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وخالق الكون أجمعين، والصلاة والسلام على النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإن من الآفات العظيمة التي تصيب المجتمع المسلم وتؤثر فيه، وهي وسيلة من الوسائل التي استخدمها ويستخدمها أعداء الإسلام للنيل من أبناء المسلمين.
"الإشاعة" هذه السوق الرائجة، والبضاعة النافقة، التي ما وجدت حين وجدت إلا عندما غاب المنهج الشرعي في تلقي الأخبار، المنهج الرباني الذي يضع لنا الضوابط في تلقي الأخبار وإذاعتها كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء: 83]، فالأخبار خيرها وشرها يجب أن يتثبت منها قبل بثها ونشرها؛ قال ابن كثير رحمه الله: "إنكارٌ على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))1 وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه2، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال3 -أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين-، وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بئس مطية الرجل زعموا))4، وفي الصحيح: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين))5.."6.
قال المناوي رحمه الله في حديث مسلم الأول: أي إذا لم يتثبت؛ لأنه يسمع عادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع لا محالة يكذب، والكذب: هو الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه، وإن لم يتعمد، لكن التعمد شرط الإثم7، قال الضحاك في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ}[النساء: 83] أفشوه وسعوا به وهم المنافقون، وقال غيره: هم ضعفة المسلمين كانوا اذا سمعوا المنافقين يفشون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم توهموا أنه ليس عليهم في ذلك شيء فأفشوه؛ فعاتبهم الله على ذلك.."8، فأمر تعالى في محكم كتابه بالتثبت والتحري، وحذَّر من الطيش والتسرع في الأنباء والأخبار قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]، وكذلك نهى الله عن اتباع ما لا دليل عليه إلا أن تسمع الأذن، أو ترى العين، أو يعتقد القلب عن برهان فقال عز من قائل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36]، وقد عاب القرآن على من يأخذون بالظن فيما لا يكفي فيه الظن فقال الله جل شأنه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم: 28]9.
فهذا هو أدب الإسلام الذي علمنا إياه، والذي قد نسيه أو تناساه الكثير، إنه منهج عظيم، وميزان دقيق أدق من ميزان الذهب في بيان صحيح الأخبار من سقيمها، إنه نداء من المولى وأمر بالتبين، ثم بيان العاقبة الوخيمة في حالة عدم التروي والتثبت.
ونحن اليوم في عصر تعددت فيه أدوات الاتصال، وتنوعت فيه وسائل الإعلام، وبفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل الإمكانات العلمية والتقنية أصبح تبادل المعلومات يسير بسرعة مذهلة جداً، فالخبر ينتشر شرقاً وغرباً في أسرع من طرفة عين، وتلاشت الحدود والمسافات وكأننا نعيش في قرية صغيرة لا يخفى منها شيء، وفي كل يوم بل في كل دقيقة يطرق سمع الإنسان عشرات الأخبار المتنوعة في شتى مجالات الحياة، يختلط فيها الغث بالسمين، ويلتبس الحق بالباطل، وتضيع الحقيقة في بحر الزيف والخيال،
حتى أصبح الإعلام بألوانه المختلفة أخطر وسيلة يمكن أن تصوغ فكر الإنسان، وتغير من تصوراته واتجاهاته الفكرية والسلوكية، فلذلك دعت الحاجة إلى أن نعرف بعض آفات تلقي الأخبار ونقلها دون تثبت أو ما يطلق عليه "الإشاعة".
تعريف الإشاعة:
الإشاعة في اللغة كما قال ابن منظور: "شاع الخبر في الناس يشيع شيعاً وشيعاناً ومشاعاً وشيوعة فهو شائع: انتشر واخترق وذاع وظهر، وقولهم: هذا خبر شائع، وقد شاع في الناس، معناه: قد اتصل بكل أحد فاستوى علم الناس به، ولم يكن علمه عند بعضهم دون بعض، والشاعة: الأخبار المنتشرة"10 المعنى المشترك البارز بين هذه المعاني اللغوية لمادة شيع: هو الانتشار والتكاثر11.
وأما في الاصطلاح: فهي عبارة عن أقوال أو أخبار أو أحاديث يختلقها البعض لأغراض خبيثة، ويتناقلها الناس بحسن نية دون التثبت من صحتها، ودون التحقق من صدقها، وقيل: هي عبارة عن نبأ أو حدث مجرد من أي قيمة يقينية، ينتقل من شخص لآخر، وإنما هو قادر على زعزعة الرأي العام أو تجسيده، وقيل هي: بث خبر من مصدر ما في ظرف معين، ولهدف ما يبغيه المصدر دون علم الآخرين، وانتشار هذا الخبر بين أفراد مجموعة معينة.
والإشاعة في أغلب أحوالها تفخيم للأخبار الصغيرة، وإظهارها بصورة تختلف عن صورتها الحقيقية، وهي كذلك تسخير للأخبار المكذوبة، وطلاؤها بطلاء براق يلفت إليها الانتباه، من أجل إشاعة العداوة والبغضاء بين العباد، أو من أجل التصدر وحب الظهور، أوقد تكون عن غير قصد سيئ؛ إلا أنها متى ما سرت بين الصفوف سرت سرياناً وبائياً، وتصاعدت إلى عنان السماء؛ كادت تسد آفاق الرؤية الواضحة، وتظهر وكأنها هي الحقيقة خاصة إذا ساءت التربية، وغابت الموازين العلمية المعتمدة في القبول والرد، وغاب المرشدون والأمناء.
كيف تتولد الشائعة وما مصادرها؟
تبدأ الشائعة عادةً بكلمة صغيرة، ثم يزيدها الناس من هنا وهناك، وتتولد عادة من خلال إحدى ثلاث:
1- من إيجاد خبر لا أساس له من الصحة.
2- من تلفيق خبر لجزء منه نصيب من الصحة.
3- من المبالغة الجسيمة في نقل خبر ينطوي على بعض العناصر الصحيحة.
وقد ذكرت مصادر شتى للإشاعة12 وهي:
خبر من شخص، أو خبر من جريدة، أو خبر من مجلة، أو خبر من إذاعة، أو خبر من تلفاز، أو خبر من رسالة خطية، أو خبر من شريط مسجل، فهذه بعض وسائل طرق تناقل الأخبار بين الناس، وانتشارها بينهم، ولذا على ناقل الخبر أن يتروى ويتثبت في كل ما يقال، وليحذر أن يبادر بالتصديق الفوري، فإن الأصل البراءة التامة، وتلك الإشاعة ناشئة وطارئة، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى تقوم الأدلة الواضحة على عكس ذلك، وقد يكون المصدر هو أحد المجالس التي يجلس فيها الناس فيأتي أحدهم بخبر، وينفض المجلس، وينقل رجل آخر ذلك الخبر إلى مجلس آخر وهكذا.
أسباب انتشار الشائعات:
أولاً: فصاحة قول المشيع وحسن منطقه، وإجادته عرض الشائعة، ولهذا قال الله عز وجل في وصف المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ..}[المنافقون: 4]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي: كل منافق عليم اللسان))13.
ثانياً: كون المشيع ممن تميل إليه قلوب سامعيه إما بسبب الصحبة، أو التحزب، أو التمشيخ أو غيرها، وهذا يمنع السامع من البحث والنظر فيما ينقل إليه، وإحسان الظن لدرجة الغفلة!!، ينبني على ذلك أن من الناس من لم يرزقه الله بصيرة ناقدة، بل يردد ما يقوله الناس كالإمعة الذي لا يدري ما يقول!.
ثالثاً: إذا وافق الخبر هوى في نفس السامع: كأن يرى في هذا الخبر انتصاراً لنفسه وفئته، أو تقليلاً من قدر الفئات الأخرى، وإلى هذا أشار ابن خلدون بقوله: "ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه فمنها: التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله"14.
رابعاً: أن ينطوي موضوع الإشاعة على شيء من الأهمية بالنسبة للمتحدث والسامع.
خامساً: أن تتسم الوقائع الحقيقية بشيء من الغموض، من أجل هذا كان لزاماً على الإنسان العاقل في مثل هذه الأحوال أن يصبر ويتأنى حتى تتضح الوقائع الحقيقية، ولا يتكلم إلا بعلم، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
ترويج الإشاعة لا يخلو مراده من مقاصد عدة:
الأول: النصح: بمعنى أن ترديده لتلك الإشاعة في مجلسه أو مجالسه إنما هو بدافع الحرص على نصح ذلك المشاع عنه.
الثاني: الشماتة: وذلك بأن يكون الدافع والمحرك لنشر الإشاعة وترويجها بين الناس إنما هو الشماتة بصاحبها والوقيعة فيه - والعياذ بالله من هذا -.
الثالث: الفضول: وهذا حال أغلب المروجين للإشاعة؛ فإن إصغاء السامعين لحديثه، وإشخاصهم بأبصارهم إليه، وتشوقهم لسماع كل ما يقول؛ دافع من أعظم الدوافع لنقل الإشاعة هذا إن سلم من التزيد في الكلام بغية تشويقهم وتعلقهم بما يقول.
الرابع: قطع أوقات المجالس بذكرها: فمن المعلوم المشاهد أن كلاً من الحاضرين أو أغلبهم في المجلس يريد أن يدلي بدلوه للمشاركة في الكلام والنقاش - ولو كان عقيماً -، ويرى السكوت نقصاً في حقه! فتراه يذكر هذه الإشاعة بقصد المشاركة في الحديث بغض النظر عن ما يترتب عليه نقله ذاك.
إن المتصفح للتاريخ الإسلامي يجده مليئاً بالحوادث والأخبار التي ظهرت فيها الآثار السلبية للشائعات ومن ذلك على سبيل المثال (حادثة الإفك)، والقصة مشهورة معلومة؛ ذلك عندما أشاع بعض المنافقين تلك الفرية الآثمة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولقد عالج القرآن ذلك، ووضع حد القذف، وذم الذين يتناقلون ذلك الخبر: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النــور: 15]، ثم أرشدهم المولى بقوله: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[النــور: 16-17]، والحوادث كثيرة ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب التاريخ.
أخيراً: وصايا لناقل الإشاعة ولمستمعها ولِمَن الإشاعة عنه:
أولاً: لناقل الإشاعة: عليه أن يتقي الله في نفسه، ويراقبه في كل ما يقول ويفعل، وعليه أن يتذكر أنه محاسب على كل كلمة يقولها: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18]، وعليه أن يكون قصده سليماً لا لوث فيه، كأن يستغل الإشاعة للتنفيس عن نفسه مما يجد في صدره عن المنقول عنه {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة: 235]، وعليه كذلك: أن يتروى ويتثبت في كل ما يقول وأن يحذر من التزيد في الكلام، وأن لا ينقل إلا ما كان متأكداً من سماعه أو رؤيته وكان الناس محتاجين لذلك، وأن يكون مقصده من نقل الإشاعة التأكد من صحتها إلى المنقول عنه، أما إذا لم يعلموا فالأفضل عدم إخبارهم وعدم نشر ما رأى أو سمع، وخصوصاً إذا كان ذلك يتعلق بمعصية فليستره، بل ذلك واجب عليه، إلا إذا دعت الحاجة كالتحذير منه وفسقه فلا بأس، وكذلك على ناقل الإشاعة أن يفرق بين نوعية المجالس فما كل خبر يصلح أن يذكر في كل مجلس، وكذلك على ناقل الإشاعة أن يسارع أولاً في استشارة أهل العلم والفضل في أمر هذه الإشاعة هل الأفضل نشرها أم كتمها؟ ثم لمن تذكر وتنشر؟ قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء: 83]، قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وحدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً وسروراً لهم وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: 83] أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي: أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب للصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حيث سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان، أم لا فيحجم عنه؟15.
ثانياً:المنقول له: أي الذي نقلت له الإشاعة، عليه أمور:
أولاً: عليه أن يذكر الناقل بالله تعالى، وأنه محاسب ومؤاخذ على كل كلمة يلفظ بها.
ثانياً: عليه أيضاً أن يحثه على التروي وعدم العجلة في نقله.
ثالثاً: عليه أيضاً أن لا يبادر بتصديق الإشاعة فوراً خاصة إذا لم تكن الأدلة والقرائن قائمة أكمل القيام وأتمه.
رابعاً:إذا كانت الإشاعة عن شخص موسوم بالخير فينبغي أن يحمل على المحمل الحسن، ويلتمس له العذر في ذلك إذا كان للعذر مبرر شرعي صحيح، فإن لم يكن له مبرر في ما نسب إليه فعلى المنقول له أن يذكّر الناقل بأن الواجب في هذه الحالة النصح والتوجيه حتى يستقيم الخلل الذي سبَّب وجود الإشاعة.
ثالثاً: المنقول عنه: لا يخلو من نسبت إليه الإشاعة في الجملة من أمرين اثنين: إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً.
فإن كان معلوماً: فإما أن يكون من المشهود لهم بالخير والاستقامة وخاصة العلماء؛ أو من عامة المسلمين؛ فإن كانت الإشاعة منسوبة إلى القسم الأول أي المشهود لهم بالخير فعلى الإنسان أن يتقي الله ويمسك لسانه عن الخوض في أعراضهم خاصة العلماء المشهود لهم بالخير وحسن المعتقد، وإن كان من نسبت إليه الإشاعة غير موسوم بالخير فليحذر الناقل أن يتزيد عليه حتى لو كان عدواً له فإن هذا من الظلم والكذب {..وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..}[المائدة: 8].
أما إن كان الشخص مجهولاً فالحق أن يلحق بالذي قبله، ولا يجِّوز ناقل الإشاعة لنفسه التقول عليه بدون تثبت محكم لجهالته, فالجهالة لا تشفع للقول بلا علم، وأيضاً فقد يبلغ الخبر إذ ذاك المجهول على من تكلم فيه بغير حق16.
وأخيراً: ليتذكر الجميع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويضعوا هذا القول نصب أعينهم وهو يُعرِّف الغيبة فقال بأنها: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإن كان ليس فيه مما تقول فقد بهته))17.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
1 رواه مسلم في المقدمة باب النهي عن الحديث بكل ما سمع برقم (5).
2 كتاب الأدب باب في التشديد في الكذب برقم (4992).
3 رواه البخاري (6108)، ومسلم (593).
4 كتاب الأدب باب في قول الرجل زعموا برقم (4972)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2846).
5 أورده مسلم في المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات(1/12).
6 تفسير ابن كثير (1/703) بتصرف.
7 فيض القدير (5/2).
8 معاني القرآن (2/141).
9 مناهل العرفان (1/220) بتصرف.
10 لسان العرب (8/191).
11 الإشاعة، أحمد نوفل (ص 17).
12 الإشاعة أحمد نوفل (ص 17).
13 أخرجه أحمد في مسنده برقم (143)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (239).
14 مقدمة ابن خلدون ص35-36.
15 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (2/63-64).
16 انظر: كتاب: "أخي أخي.. احذر الإشاعة" للشيخ: عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان، وكتاب: "نحو منهج شرعي في تلقي الأخبار وروايتها" للشيخ: أحمد بن عبد الرحمن الصويان.
17 رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الغيبة برقم (2589).