آثار الخشوع في الصلاة
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة, وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, إمام الأنبياء والمرسلين, أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وآتاه الحكمة وجوامع الكلم, وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيماً, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً... أما بعد:
فإن الله -عز وجل- امتدح الخاشعين في صلاتهم فقال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1-2) سورة المؤمنون. وإن للخشوع في الصلاة آثاراً كثيرة أخرى ينبغي للمؤمن معرفتها والاطلاع عليها لتكون محفزة له على الخشوع في صلاته ليكون ذلك سبباً لسعادته في دنياه وآخرته, ولنذكر هنا من تلك الآثار ما يلي:
1- تحقق إقامة ذكر الله تعالى في الأرض, وهذه هي أبرز الحكم من شرعية الصلاة، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (45) سورة العنكبوت. فإقامة ذكر الله تعالى في الأرض أعظم مقاصد الصلاة.
2- من الآثار الإيمانية التي يولدها الخشوع في الصلاة القائم على حضور القلب مع الله تعالى خشية الله تعالى وإحياء معاني الخوف من الله -عز وجل- لأن شعور المصلي بأنه واقف بين يدي الله سبحانه مع تذكر عظمته وهيمنته الكاملة على خلقه يزيد من إحساسه بخشية الله سبحانه، كما رُوي عن علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله- أنه كان إذا توضأ اصفر وجهه وارتجفت أطرافه، فقيل له في ذلك فقال: ويحكم أتدرون بين يدي مَن سأقف!
3- فاعلية الصلاة في محو الخطايا, وقد جاء في ذلك أدلة كثيرة منها ما أخرجه الإمام مسلم من حديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)1. فهذا الحديث الشريف يبين لنا آثار الصلاة الكاملة في محو الخطايا، وفيه إشارة إلى مخبر الصلاة ومظهرها، فمن الإشارة إلى مخبر الصلاة ذكر الخشوع، ومن الإشارة إلى مظهر الصلاة ذكر الوضوء الذي يعبر عن شروط الصلاة، وذكر الركوع الذي يعبر عن أركان الصلاة.
وقوله: (ما لم يُؤْت كبيرة) يبين أن الصلاة وسائر الأعمال الصالحة يكفِّر الله تعَالى بها الذنوب الصغيرة، وعلى ذلك يحمل قول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (114) سورة هود. ومما يدل على أثر الخشوع في الصلاة في مغفرة الذنوب ما أخرجه الشيخان من حديث حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ –رضي الله عنه- دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ: (مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)2 والنصوص في هذا الباب كثيرة.
4- قبولها عند الله تعالى وأثرها في رفع الدرجات في الجنة, فأما قبولها فقد اتفق العلماء على أن الصلاة لا يثاب عليها فاعلها إلا بمقدار ما يحضر قلبه فيها، وإنما اختلفوا في إجزائها وحكم إعادتها لمن يحضر قلبه مع الصلاة, وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-: "وقد اختلف الفقهاء في حكم إعادة الصلاة لمن غلب عليه الوسواس فلم يحضر قلبه مع الصلاة, فأوجبها ابن حامد من الحنابلة وأبو حامد الغزالي كما ذكر ذلك في الإحياء، ولم يوجبها أكثر الفقهاء واحتجوا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله: (إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول: اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى)3. ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله- ثم قال: "ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها...حتى بلغ عشرها)4.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها".
وأما أثر الصلاة في رفع الدرجات في الجنة فمن أدلة ذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: "لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ, أَوْ قَالَ قُلْتُ بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ فَسَكَتَ, ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ, ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: "سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً) قَالَ: مَعْدَانُ ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ"5.
وكذلك ما أخرجه الإمام مسلم –أيضاً- من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي –رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ, قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟) قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ, قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)6.
وإذا كان كثرة السجود يُبلٍّغ صاحبه مرافقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة فإن ذلك دليل على أن الصلاة ترفع صاحبها في درجات الجنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدرجات العليا من الجنة, ومعلوم أن المقصود بهذه الصلاة, الصلاة الكاملة التي تشتمل على الخشوع؛ لأنها هي الصلاة المقبولة عند الله تعالى.
ومما جاء في التصريح بذكر الخشوع وأثر ذلك في الحصول على الثواب في الجنة حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)7.
5- ومن آثار الخشوع في الصلاة تحقق أثرها في تهذيب السلوك في هذه الحياة, فأما تقويم سلوك الإنسان فبينه الله تعالى بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر} (45) سورة العنكبوت. ومفهوم الآية أنها تأمر بالمعروف والإحسان, فالصلاة التي يحضر فيها المصلي قلبه مع الله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل كفيلة بأن ترفعه إلى الاستقامة على أوامر الله تعالى, وأن تردعه عن ارتكاب ما نهى عنه. إن عبدًا قد انقطع إلى معبوده يناجيه بلسانه وقلبه ويستلهم منه الهداية والقوة يبعد منه أن يميل بعد لحظات إلى معصيته، وإن استطاع شياطين الجن أو الإنس أن يؤثروا عليه فيزينوا له الشهوات المحرمة فإن له في لقائه الآخر القريب مع الله تعالى ما يطرد عنه هذه الوساوس والأوهام, ولعل ذلك من حكمة تكرار الصلوات المفروضة خمس مرات في اليوم والليلة إلى جانب الصلوات التي شرعت بينها، خاصة في الأوقات الطويلة نسبياً كصلاة الليل وصلاة الضحى.
أما ما نراه في المجتمع الإسلامي من كثرة المصلين وهم مع ذلك يرتكبون الفواحش والمنكرات فمردُّ ذلك إلى أنهم لم يقيموا صلواتهم على منهج الله تعالى ومراده؛ لأن صلاتهم تفقد أهم مكوناتها الأساسية ألا وهو حضور القلب مع الصلاة الذي يترتب عليه الخشوع، وبالتالي فإن صلاتهم لا تؤثر في سلوكهم؛ لأن ذلك واضح من تصرفاتهم في حياتهم ولا تقربهم من الله تعالى لأن قلوبهم ليست معه -جل وعلا- ولهذا إذا رأينا مسلماً يرتكب المنكرات فإن ما يجدي معه أن نقول له: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وأن نبين له صفة الصلاة الكاملة المؤثرة، فإذا ضمِنَّا منه أداء الصلاة كاملة كما شرعها الله تعالى فإنه حري به أن يقلع عن ارتكاب الفواحش والمنكرات كما ذكر الله سبحانه, ولهذا يجب أن نربي أبناءنا على أداء الصلاة المشتملة على الخشوع حتى نهيئهم -بعون الله وتوفيقه- لحياة صالحة وسعيدة، ولن نحتاج بعد ذلك إلى جهد كبير في تربيتهم على الفضيلة وتحذيرهم من الرذيلة؛ لأنه يكفي مع إقامة الصلاة على وجهها أن يعرفوا الفضائل فيستقيموا عليها, وأن يعرفوا الرذائل فيجتنبوها على الفور, فالصلاة الكاملة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ لأنها تقوي الإيمان بالله تعالى وتعمق في نفس المصلي تعظيمه سبحانه والخوف من عذابه ورجاء ثوابه، وإذا تعمق هذا الشعور الإيماني في قلب المسلم فإنه يتكوَّن لديه الوازع الديني الذي يدفعه إلى الفضائل ويردعه عن الرذائل، وبالتالي يكون حكماً على تصرفاته وسلوكه في هذه الحياة.
ولقد فهم الكفار من قوم شعيب -عليه الصلاة والسلام- دعوته إلى هذه المزية من مزايا الصلاة فذكروا ذلك له بأسلوب من السخرية والإنكار, وذلك فيما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (87) سورة هود. فقوم شعيب -عليه الصلاة والسلام- ينكرون عليه أن أمرهم بالصلاة لله تعالى التي تمنعهم من السجود للأوثان ومن التصرف في أموالهم بما لا يُرضي الله تعالى, وقد كانوا يطففون في المكاييل والموازين ويبخسون الناس أشياءهم.
ألا وإن صلاته -عليه الصلاة والسلام- لتأمره بجميع الفضائل وتنهاه عن جميع الرذائل رغم أنوف الحيارى الحاقدين الذين قصرت أفهامهم عن إدراك المقاصد العالية للتكاليف الشرعية.
وقد قرن الله تعالى بين إضاعة الصلاة وإتباع الشهوات حيث يقول سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (59) سورة مريم. مما يدل على أهمية الصلاة وأثرها في حجر صاحبها عن الركون إلى الشهوات.
6 - تحقق أثرها في الصبر على الشدائد, فقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقيام الليل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (1-2) سورة المزمل. ثم اتبع ذلك بقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (5) سورة المزمل. مما يدل على مكانة الصلاة في الإعانة على تحمل الشدائد ومواجهة الصعاب, ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يواجه عنتا وشدة من الكفار، ولقد كان في أمره بقيام الليل وما يتزود به في مناجاة الله تعالى من زاد روحي كبير أكبر العون على مواجهة متاعب الحياة وقسوة المخالفين, ولقد قرن الله تعالى الأمر بالصلاة بالأمر بالصبر في مواجهة الشدائد وتحمل الصعاب حيث يقول -جل وعلا-: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (46) سورة البقرة. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة. وقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} يعني الصلاة، أو الوصية المفهومة من الآية بالجمع بين الصبر والصلاة. ولقد كان الأنبياء -عليهم السلام- يفزعون إلى الصلاة عند الشدائد, كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد من حديث صهيب -رضي الله عنه- قال:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا صَلَّى هَمَسَ شَيْئًا لَا نَفْهَمُهُ وَلَا يُحَدِّثُنَا بِهِ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَطِنْتُمْ لِي) قَالَ قَائِلٌ: نَعَمْ, قَالَ: (فَإِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ جُنُودًا مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ مَنْ يُكَافِئُ هَؤُلَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ -أَوْ كَلِمَةً شَبِيهَةً بِهَذِهِ شَكَّ سُلَيْمَانُ- قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ اخْتَرْ لِقَوْمِكَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ الْجُوعَ، أَوْ الْمَوْتَ, قَالَ: فَاسْتَشَارَ قَوْمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ نَكِلُ ذَلِكَ إِلَيْكَ فَخِرْ لَنَا, قَالَ: فَقَامَ إِلَى صَلَاتِهِ, قَالَ: وَكَانُوا يَفْزَعُونَ إِذَا فَزِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ, قَالَ: فَصَلَّى, قَالَ: أَمَّا عَدُوٌّ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا, أَوْ الْجُوعُ فَلَا, وَلَكِنْ الْمَوْتُ, قَالَ: فَسُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْمَوْتُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا, فَهَمْسِي الَّذِي تَرَوْنَ أَنِّي أَقُولُ: اللَّهُمَّ يَا رَبِّ بِكَ أُقَاتِلُ وَبِكَ أُصَاوِلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"8. وفي رواية أن ذلك كان في أيام حنين.
ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يبيتون في ليالي الجهاد سجدًا وقيامًا تأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يقاتلون أعداءهم في النهار بقوة ومعنوية عالية, ومما يذكر لصلاح الدين الأيوبي الذي هزم الله على يده الصليبيين أنه كان ليلة معركة حطين الفاصلة يتفقد خيام الجند فوجدهم ما بين قائم وساجد ما عدا خيمة واحدة وجد أهلها نيامًا، فقال: "إن أتينا فإنما سنؤتى من هذه، فسرَّح أهلها إلى دمشق".
7- ومن أثر الخشوع في الصلاة تحقق أثرها في الطمأنينة وراحة النفس؛ فالصلاة في الإسلام واحة روحية يفيء إليها المسلم ليتفيأ ظلالها الوارف فيجد فيها علاجًا لمشكلاته النفسية ويتخلى بها عن هموم الحياة, وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتبر الصلاة راحة النفس وقرة للعين، كما أخرج الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)9.
وكان يعتبر الصلاة راحة للنفس كما أخرج الإمام أحمد من حديث سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)10.
نسأل الله أن يهدينا سبيل الهدى والرشاد, وأن يرزقنا الخشوع والإخلاص في الصلاة وأن ينفعنا بها في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين11.
1 رواه مسلم -335- (1/13).
2 رواه البخاري -159- (1/285) ومسلم -331- (2/8).
3 رواه البخاري -573-(2/471) ومسلم -884- (3/200).
4 مدارج السالكين (1/112) والحديث مذكور في: سنن أبي داود -675- (2/450) ولفظه: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود -796- (2/296).
5 رواه مسلم -753- (3/39).
6 صحيح مسلم -754- (3/40).
7 رواه أبو داود -771- (3/81) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(5802).
8 رواه أحمد -18174- (38/400) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: (1061).
9 رواه النسائي -3878- (12/288) وأحمد -11845- (24/391) وصححه الألباني في سنن النسائي برقم (3940).
10 رواه أبو داود -4334- (13/166) وأحمد -22009- (47/62) وصححه الألباني في سنن أبي داود -4986-(10/486).
11 استفيد الموضوع من كتاب عمارة المساجد المعنوية وفضلها( عبد العزيز عبد الله الحميدي) (1/13).