إزالة المنكر فريضة إسلامية
المقدمة:
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له أمرنا بإزالة المنكر.. فقال: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (آل عمران:104) ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من أزال المنكر بيده, وبلسانه, وبقلبه، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين جاهدوا لإزالة المنكر, فضحوا بأنفسهم, وأموالهم, وأهليهم، وعلى التابعين, وتابعيهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله- عز وجل- وطاعة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ، قال-تعالى-:)كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ((آل عمران:110)
نص الحديث:
عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريَّ-رَضي الله عنه-قالَ: سَمِعْتُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يَقولُ: (مَنْ رَأَى مِنكُم مُنكَراً فَليُغيَِرُه بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِع فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أضْعَفُ الإيمانِ)(1).
مفردات الحديث:
"منكم": أي من المسلمين المكلَّفين، فهو خطاب لجميع الأمة.
"منكراً": وهو ترك واجب, أو فعل حرام ولو كان صغيراً.
"فليغيره": فليزله ويذهبه ويغيره إلى طاعة.
"بيده": إن توقف تغييره عليها ككسر آلات اللهو, وإراقة الخمر, ومنع ظالم عن ضرب ونحوه(2).
أهمية هذا الحديث:
هذا الحديث عظيم الشأن؛ لأنه نص على وجوب إنكار المنكر، وهذا كما قال النووي:" باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث، عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعذاب)فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (النور: من الآية63) فينبغي لطالب الآخرة الساعي في تحصيل رضا الله- عز وجل- أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم"(3)
في ظلال الحديث :
إن الحق والباطل مقترنان على وجه الأرض منذ وجود البشر، وكلما خمدت جذور الإيمان في النفوس بعث الله-عز وجل-من يزكيها ويؤججها، وهيأ للحق رجالاً ينهضون به, وينافحون عنه، فيبقى أهل الباطل والضلال خانعين، فإذا سنحت لهم فرصة نشطوا ليعيثوا في الأرض الفساد، وعندها تصبح المهمة شاقة على من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، ليقفوا في وجه الشر يصفعونه بالفعل والقول، وسخط النفس ومقت القلب.
فعن ابن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته, ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(4).
فائدة:
سبب إيراد أبي سعيد للحديث: عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول ثم ذكر الحديث(5).
وفي رواية البخاري أن الذي أنكر على مروان أبو سعيد-رضي الله عنه-فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي, فجبذته بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة, فقلت له غيرتم والله, فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة(6) والجمع بين الروايتين يحتمل أن الرجل أنكر بلسانه وحاول أبو سعيد أن ينكر بيده, ويحتمل تعدد الواقعة, قال النووي: "فيحتمل أنهما قصتان؛أحداهما لأبي سعيد,والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد"(7).
وقال الحافظ: "يحتمل أن تكون القصة تعددت، ويدل على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتي عياض ورجاء, ففي رواية عياض أن المنبر بني بالمصلى، وفي رواية رجاء أن مروان أخرج المنبر معه، فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر، ترك إخراجه بعد، وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلى، ولا بُعد في أن ينكر عليه تقديم الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى، ويدل على التغاير أيضاً أن إنكار أبي سعيد، وقع بينه وبينه, وإنكار الآخر وقع على رؤوس الناس"(8).
حكم إنكار المنكر:
يمكن ان يقسم حكم انكار المنكر على حالتين :
1- فرض كفاية: قال الله-تعالى-: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (آل عمران:104).
1-قال الإمام ابن كثير-رحمه الله-في تفسير هذه الآية: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن"(9).
وقال "ابن العربي" في تفسيره لهذه الآية: في هذه الآية والتي بعدها-يعني-)كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ( (آل عمران:110) دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة الدين بإقامة الحجة على المخالفين"(10).
2- فرض عين: قوله-صلى الله عليه وسلم-:(مَنْ رَأَى مِنكُم مُنكَراً فَليُغيَِرُه بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِع فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أضْعَفُ الإيمانِ)(11). دل عموم هذا الحديث على وجوب إنكار المنكر على كل فرد مستطيع علم بالمنكر أو رآه.
قال "القاضي ابن العربي": "وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال، أو عرف ذلك منه"(12).
وقال "ابن كثير": "وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من رأى منكم منكراً فليغيره...) ثم ساق الحديث(13).
وقال النووي: "ثم إنه قد يتعين-يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته, أو ولده, أو غلامه على منكر, أو تقصير في معروف"(14).
شروط إنكار المنكر:
إنَّ لإنكار المنكر شروطاً يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعرفها ويراعيها عند إزالته للمنكر، حتى لا يقع أثناء تغييره للمنكر في منكر مساوٍ أو أكبر منه، وهذه الشروط هي:
1- التحقق من كونه مُنكراً :
فالمنكر كل ما نهى عنه الشارع سواءً كان محرماً أو مكروهاً، وكلمة المنكر في باب الحسبة, تُطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة، وإن كان لا يُعتبر معصية في حق فاعله, إما لصغر سنه, أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون, أو هم بفعل الزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكراً يستحق الإنكار، وإن لم يُعتبر معصية في حقِّهما لفواتِ شرطي التكليف وهما البلوغ والعقل.
2- أن يكون المنكر موجوداً في الحال:
وله ثلاث حالات :
الحالة الأولى: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يتردد مراراً على أسواق النساء، ويصوب النظر إلى واحدة بعينها، أو كشابِ يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن، أو يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر وطريقة تركيبه. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ، والنصح، والإرشاد، والتخويف بالله-سبحانه وتعالى-من عذابه وبطشه.
الحالة الثانية: أن يكون متلبساً بالمنكر: كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه، أو كمن أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك، ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار عليه, ونهيه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضرراً أو أذى .
الحالة الثالثة: أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه, أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية عنه، ونحو ذلك. ففي هذه الحالة ليس هناك وقت للنهي أو التغيير، وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل المعصية. وهذا الأمر ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، وانما لمن له ولاية عليه كالوالد أو السلطان .
3- أن يكون ظاهراً من غير تجسس ما لم يكن مجاهراً:
يجب على المسلم أن ينكر المنكر إذا كان ظاهراً وشاهده ورآه، دل على ذلك قوله-صلى الله عليه وسلم-:(من رأى منكم منكراً) فإذا داخله ريبة وشك في منكر خفي مستور عنه، فإنه لا يتعرض له ولا يفتش عنه؛لأن هذا النوع من التجسس المنهي عنه.
4- أن يكون الإنكار في الأمور التي لا اجتهاد فيها:
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسع صدره لقبول الاجتهاد فيما يسوغ فيه الخلاف. وهناك مسائل فرعية ليست من الأصول يختلف فيها الناس كثيراً، وتتباين أقوالهم فيها، وهي في الحقيقة مما يجوز فيه الاجتهاد، فمثل هذه المسائل لا يكفر من خالف فيها، ولا يُنكر عليه؛ لأنها مما وسع الله فيها على عباده ،قال–تعالى-:)وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ( (هود: من الآية119).
أما المسائل التي لا اجتهاد فيها فهي كمن يُخالف ما جاء في كتابِ اللهِ-تعالى- وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، أو ما أجمعت عليه الأمة، أو ما عُلم من الدين بالضرورة، فهذا يُنكر على من أتى به(15).
تفاوت مسؤولية الناس في إنكار المنكر:
إن الله- عزوجل-أوجب علينا جميعاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌ بحسب قدرته، ولكن مما ينبغي التنبيه عليه أن الناس يتفاوتون في هذا الواجب، فالمسلم العامي عليه القيام بهذا الواجب حسب قدرته وطاقته، فيأمر أهله, وأبناءه بما يعلم من أمور الدين التي يسمعها على المنابر, وفي دروس الوعظ.
والعلماء عليهم من الواجب ما ليس على غيرهم، وذلك أنهم ورثة الأنبياء فإذا تساهلوا بهذه المهمة دخل النقص على الأمة، كما حدث لبني إسرائيل.
وأما واجب الحكام في هذه المهمة فعظيم؛ لأن بيدهم الشوكة، والسلطان، والتي يرتدع بها السواد الأعظم من الناس عن المنكر؛ لأن الذين يتأثرون بالوعظ قلة. وتقصير الحاكم بهذه المهمة طامة كبرى، حيث بسبب ذلك يظهر المنكر، ويجترئ أهل الباطل والفسوق بباطلهم على أهل الحق والصلاح(16).
فيجب على المسلم أن يغير المنكر بحسب طاقته وقدرته, إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان.
الإنكار باليد أو اللسان له حكمان:
فرض كفاية:
إذا رأى المنكر أو علمه أكثر من واحد من المسلمين وجب إنكاره وتغييره على مجموعهم، فإذا قام به بعضهم ولو واحداً كفى وسقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم كل من كان يتمكن منه بلا عذر ولا خوف، ودل على الكفاية قوله-تعالى-: )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ(آل عمران: 104. والأمة الجماعة، وهي بعض المسلمين.
فرض عين:
أما إذا رأى المنكر أو علمه واحد، وهو قادر على إنكاره أو تغييره، فقد تعين عليه ذلك. وكذلك إذا رآه أو علمه جماعة، وكان لا يتمكن من إنكاره إلا واحد منهم، فإنه يتعين عليه، فإن لم يقم به أثم(17).
الإنكار بالقلب:
من الفروض العينية التي يُكَلَّف بها كل مسلم، ولا تسقط عن أحد في حال من الأحوال، معرفة المعروف والمنكر، وإنكار المنكر في القلب، فمن لم يعرف المعروف و المنكر في قلبه هلك، ومن لم ينكر المنكر في قلبه دل على ذهاب الإيمان منه. قال ابن مسعود: "هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر"(18) يشير إلى أن معرفة المعروفِ وإنكار المنكر بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هَلَكَ(19).
فإنكار القلب يُخَلِّص المسلم من المسؤولية إذا كان عاجزاً عن الإنكار باليد أو اللسان. قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "يوشك من عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيع له غير أن يَعلم اللهُ من قلبه أنه له كاره"(20).
والعجز أن يخاف إلحاق ضرر ببدنه, أو ماله، ولا طاقة له على تحمل ذلك، فإذا لم يغلب على ظنه حصول شيء من هذا لا يسقط عنه الواجب بإنكار قلبه فقط، بل لابد له من الإنكار باليد, أو اللسان حسب القدرة(21).
عاقبة ترك إزالة المنكر مع القدرة عليها:
1- إذا تُرِكَ النهي عن المنكر استشرى الشر في الأرض، وشاعت المعصية والفجور، وكثر أهل الفساد، وتسلطوا على الأخيار وقهروهم، وعجز هؤلاء عن ردعهم بعد أن كانوا قادرين عليهم، فتطمس معالم الفضيلة، وتعم الرذيلة، وعندها يستحق الجميع غضب الله-تعالى-وإذلاله وانتقامه، قال الله-تعالى-حاكياً عن بني إسرائيل: )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون *كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(المائدة: 78 - 79. لا يتناهون: لا ينهى بعضهم بعضاً إذا رآه على المنكر. والأحاديث في هذا كثيرة، منها:
ما جاء عن أبي بكر-رضي الله عنه-، عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)(22).
2- الهلاك في الدنيا: قال-صلى الله عليه وسلم-: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم, فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(23).
3- عدم استجابة الدعاء: فعن حذيفة-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)(24).
ترك الإنكار خشية وقوع مفسدة:
إذا كان المكلف قادراً على إنكار المنكر الذي رآه أو علمه، لكنه غلب على ظنه أن تحدث نتيجة إنكاره مفسدة ويترتب عليه شر، هو أكبر من المنكر الذي أنكره أو غيره، فإنه في هذه الحالة يسقط وجوب الإنكار، عملاً بالأصل الفقهي: "يُرَتَكَبُ أَخَفُّ الضررين تفادياً لأشدهما".
على أنه ينبغي أن يتنبه هنا إلى أن الذي يسقط وجوب الإنكار غالبية الظن، لا الوهم والاحتمال الذي قد يتذرع به الكثير من المسلمين، ليبرروا لأنفسهم ترك هذا الواجب العظيم من شرع الله-عز وجل-(25).
قول الحق دون خوف أو رهبة:
على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلتفت إلى شأن من يأمره أو ينهاه، من منصب, أو جاه أو غنى، ودون أن يلتفت إلى لوم الناس, وعبثهم, وتخذيلهم، ودون أن يأبه بما قد يناله من أذى مادي, أو معنوي يقدر على تحمله ويدخل في طاقته، على أن يستعمل الحِكْمة في ذلك، ويخاطب كُلاًّ بما يناسبه، ويعطي كل موقف ما يلائمه. فعن أبي سعيد-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال في خطبة: (ألا لا يَمْنَعَنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه)(26).
عموم المسؤولية وخصوصها:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الأمة جمعاء، فكل مسلم علم بالمنكر وقدر على إنكاره وجب عليه ذلك، لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، أو عالم وعامي. ولكن هذه المسؤولية تتأكد على صنفين من الناس، وهما: العلماء, والأمراء:
أما العلماء: فلأنهم يعرفون من شرع الله-تعالى-ما لا يعرفه غيرهم من الأمة، ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب، مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول. والخطر الكبير عندما يتساهل علماء الأمة بهذه الأمانة التي وضعها الله-تعالى-في أعناقهم.
أما الأمراء: أي الحكام، فإن مسؤوليتهم أعظم، وخطرهم إن قصروا في الأمر والنهي أكبر؛ لأن الحكام لهم ولاية وسلطان، ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهَون عنه وحمل الناس على الامتثال، ولا يخشى من إنكارهم مفسدة؛ لأن القوة والسلاح في أيديهم, والناس ما زالوا يحسبون حساباً لأمر الحاكم ونهيه.
فإذا قصر الحاكم في الأمر والنهي طمع أهل المعاصي والفجور، ونشطوا لنشر الشر والفساد، دون أن يراعوا حرمة أو يقدسوا شرعاً، ولذا كان من الصفات الأساسية للحاكم الذي يتولى الله تأييده ونصرته، ويثبت ملكه ويسدد خطته، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فإذا أهمل الحكام هذا الواجب العظيم فقد خانوا الأمانة التي وضعها الله-تعالى-في أعناقهم، وضيعوا الرعية التي استرعاهم الله –تعالى- عليها.
آداب الآمر والناهي:
1- أن يكون ممتثلاً لما يأمر به، مجتنباً لما ينهى عنه، حتى يكون لأمره ونهيه أثر في نفس من يأمره وينهاه، ويكون لفعله قبول عند الله-عز وجل-، فلا يكون تصرفه حجة عليه توقعه في نار جهنم يوم القيامة.
2- النية والقصد في الأمر والنهي: ينبغي أن يكون الحامل على الأمر والنهي هو ابتغاء-رضوان الله تعالى-وامتثال أمره، لاحب الشهرة والعلو وغير ذلك من الأغراض الدنيوية. فالمؤمن يأمر وينهى غضباً لله-تعالى-إذا انتهكت محارمه، ونصيحة للمسلمين ورحمة بهم إذا رأى منهم ما يُعَرِّضهم لغضب الله-عز وجل-وعقوبته في الدنيا والآخرة، وإنقاذاً لهم من شر الويلات والمصائب عندما ينغمسون في المخالفات وينقادون للأهواء والشهوات. يبتغي من وراء ذلك كله الأجر والمثوبة عند الله-سبحانه-، ويقي نفسه من أن يناله عذاب جهنم إن هو قصر في أداء الواجب، وترك الأمر والنهي.
3- العبودية الحقة: قد يكون الباعث لدى المؤمن على الأمر والنهي إجلاله البالغ لعظمة الله-سبحانه-، وشعوره أنه أهل لأن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. ويزكي ذلك في نفسه محبته الصادقة لله-عز وجل-، التي تمكنت من قلبه وسرت في آفاق روحه سريان الدم في العروق، ولذلك تجده يؤثر أن يستقيم الخلق ويلتزموا طاعة الحق، وأن يفتدي ذلك بكل غال ونفيس يملكه، بل حتى ولو ناله الأذى وحصل له الضرر، يتقبل ذلك بصدر رحب، وربما تضرع إلى الله-عز وجل-أن يغفر لمن أساء إليه ويهديه سواء السبيل. وهذه مرتبة لا يصل إليها إلا من تحققت في نفسه العبودية الخالصة لله-عز وجل-، وانظر إليه-صلى الله عليه وسلم- وقد آذاه قومه وضربوه، فجعل يمسح الدم عن وجهه,ويقول:(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)(27). (28).
ما يُستفاد من الحديث:
1- يدلُّ الحديث على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الإيمان، لذلك أخرج مسلم هذا الحديث في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
2- من قدر على خصلة من خصاله وقام بها كان خيراً ممن تركها عجزاً وإن كان معذوراً في ذلك، فالمرأة مثلاً معذورة في ترك الصلاة أثناء الحيض ومع ذلك عَدَّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ذلك نقصاناً في دينها.
3- من خاف على نفسه الضرب أو القتل أو خاف على ماله الضياع سقط عنه التغيير باليد واللسان.
4- كما فيه أن الصلاة قبل الخطبة يوم العيد، وهذا ما عليه سلف الأمة.
5- في الحديث دلالة على تغيير المنكر على الحكام باليد، مثل ما فعل أبو سعيد-رضي الله عنه-، مثل أن يريق خمورهم ويكسر آلات اللهو التي لهم، أما الخروج عليهم بالسيف فهذا لا يجوز لثبوت الأحاديث الناهية عن ذلك(29).
اللهم وفقنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رب العالمين، والله أعلم.
1 - صحيح مسلم، كتاب الإيمان(1-69)(49)، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.
2 - راجع: كتاب الوافي في شرح الأربعين النووية ص (266).
3 - النووي على شرح مسلم (1/266).
4 - صحيح مسلم(1-69)(50).
5 - صحيح مسلم(49).
6 - راجع: فتح الباري (3-102).
7 - راجع: شرح مسلم (1/225).
8 - راجع: فتح الباري (3-102).
9 - تفسير ابن كثير(2/75).
10 - راجع: أحكام القرآن (1/292).
11 - صحيح مسلم، كتاب الإيمان(1-69)(49)، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.
12 - راجع: أحكام القرآن(1/292).
13 - راجع: تفسير ابن كثير(2/75).
14 - راجع: شرح مسلم للنووي (1/225).
15 - راجع: قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة، للشيخ الرحيلي. ص (11-16). بتصرف.
16 -راجع: كتاب قواعد وفوائد ص (288-289).
17 -راجع: كتاب الوافي ص (269).
18 - رواه الطبراني في " الكبير"(8564)، وذكره الهيثمي في" المجمع"(7/257).، وقال : رجاله رجال الصحيح.
19 - راجع: جامع العلوم والحكم (2/245).
20 - راجع: مصنف بن أبي شيبة (7/504).
21 - الوافي ص (268).
22 - سنن أبي داود، (4338). وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (3644).
23 - رواه البخاري، كتاب الشركة (3/111)(2361).
24 - رواه أحمد (5/388) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(6947).
25 - راجع: الوافي ص (271).
26 - الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (3237).
27 - صحيح البخاري(3290).
28 - بتصرف من كتاب الوافي في شرح الأربعين النووية ص (270-282).
29 - راجع: قواعد وفوائد من الأربعين ص (295).