يا رسول الله هلكتُ!!
الحمد لله على نعمائه، وأصلي وأسلم على خير داع إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واستن بسنته، ودعا بدعوته.. أما بعد:
فإنه يجب على الصائم أن يتأدب بآداب الصيام، وأن يحفظ صيامه من كل ما يخدشه أو ينقصه، كما يجب عليه أن يمسك عن تعاطي جميع المفطرات الحسية والمعنوية، ومن المفطرات الحسية: الجماع في نهار رمضان، وهذه مسألة يقع فيها بعض الناس من الذين يجهلون الأحكام الشرعية، وقد جاء في الحديث بيان أنها من أعظم المفطرات، يعاقب من تعمد ذلك بكفارة غليظة؛ فعَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَال: بَينماَ نَحن جُلُوسْ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ جَاءه رَجلٌ، فقَالَ: يَا رَسولَ الله، هَلَكتُ!.
وفي رواية قال: (احترقت). فقال: (ما أهلَكَكَ؟) أو (مَالكً؟). قال: وَقَعْتُ على امْرَأْتِي، وأنا صائمٌ. وفي رواية: أصبتُ أهلي في رَمَضَانَ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تعتقها؟)) قال: لا، قال: ((فهل تستطِعُ أن تصوم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعْين؟)) قال: لا. قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)) قال: لا. قال: فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم.
فبينما نَحْنُ على ذلك إذْ أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَق فيهِ تَمرٌ" والعرق: المَكْتَلُ. قال: ((أَيْنَ السَّائِلُ؟)). قالَ: أنا. قال: ((خُذْ هذَا فتصَدَّق بِهِ)). فقال: أعلى أفقَرَ منِّي يَا رَسُولَ اللّه؟ فَوَ الله مَا بَيْنَ لابَتَيْها -يريد الحَرَّتَيْنِ- أهْلُ بَيْتٍ أفْقَر مِنْ أهل بَيْتي!
فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قَالَ: ((أطْعِمْهُ أهْلَكَ))1.
غريب الحديث:
بعرق: "العرق" بفتحتين: هو الزنبيل، يعمل من سعف النخل، وقدروها بما يسع خمسة عشر صاعاً.
اللابة: هي الحرة: وهي الأرض التي تعلوها حجارة سود. والمدينة النبوية بين حرتين، شرقية وغربية.
المِكْتَل: القفة من الخوص، وهي قفص من ورق النخل.
المعنى الإجمالي:
جاء سلمة بن صخر البياضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خائفاً فقال: هلكت. فقال له: ما أهلكك؟ قال: إنه وقع على امرأته وهو صائم في نهار رمضان فلم يعنِّفْه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هل تجد رقبة تعتقها كفارة لما وقع منك؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، وهل أصابني ما أصابني إلا من صيام؛ لأن به شبقاً لا يقدر معه على ترك الجماع وهو نوع مرض.
قال: فهل تجد طعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أو غيره؟
قال: لا. فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ومكث قليلاً، وإذا بأحد من الصحابة -على عادتهم- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزنبيل من تمر، يسع خمسة عشر صاعاً ليتصدَّق به النبي صلى الله عليه وسلم: فقال أين السائل؟ فقال: أنا. فقال: خذ هذا التمر فتصدق به ليكون كفارة على ما اقترفت من الإثم.
فما كان من الرجل الذي جاء خائفاً مبهوتاً- بعد أن وجد عند رسول الله الأمن والطمأنينة- إلا أن طمع في فضل الله تعالى، على يد أرحم الناس بالناس، فقال: أأتصدق به على أفقر مني يا رسول الله؟.
ثم أقسم أنه ليس في المدينة أحد أفقر منه لما يراه من شدة الضيق عليه..
عند ذلك تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حاله، كيف جاء خائفاً يلتمس السلامة فرجع آمناً، معه ما يطعمه أهله، ثم أذن له بإنفاقه على أهله، فصلوات الله وسلامه عليه2.
كفارة من جامع في نهار رمضان:
يعد الجماع مفطراً من مفطرات الصيام، بل هو أعظمها على الإطلاق؛ كما يقول العلامة ابن عثيمين: "وهو أعظمها -المفطرات- وأكبرها إثماً, فمتى جامع الصائم بطل صومه فرضاً كان أو نفلاً، ثم إن كان في نهار رمضان، والصوم واجب عليه لزمه مع القضاء الكفارة المغلظة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر شرعي كأيام العيدين والتشريق, أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر, فإن أفطر لغير عذر ولو يوماً واحداً لزمه استئناف الصيام من جديد ليحصل التتابع، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإطعام ستين مسكينا، لكل مسكين نصف كيلو وعشرة غرامات من البر الجيد ويجزي الرز عن البر لكن تجب ملاحظة الوزن، فإن كان الرز أثقل زيد في وزنه بقدره، وإن كان أخف نقص من وزنه بقدر"3.
وقد عد ابن عثيمين من المفطرات سبعة أنواع، ثم قال: "إن المفطرات السابقة -التي عدها- ما عدا الحيض والنفاس، وهي: الجماع والإنزال بالمباشرة، والأكل والشرب، وما بمعناهما، والحجامة، والقيء، لا يُفَطِّر الصائم شيء منها إلا إذا تناولها عالماً ذاكراً مختاراً.
بعض المفطرات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يُفطِّر بالنص والإجماع الأكلُ والشربُ والجماعُ".
وثبت بالسنة والإجماع أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، ولكن تقضي الصيام.
وقال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)4. فدل على أن نزول الماء من الأنف يفطر الصائم.
فال الخطابي: "لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وفي أن من استقاء عامداً فعليه القضاء، ومن احتلم بغير اختياره، كالنائم لم يفطر بالاتفاق، وأما من استمنى فأنزل فإنه يفطر.
قد ثبت بدلالة الكتاب السنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، ويكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومثل هذا لا تبطل عبادته، فالصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف.
"وأما الكحل والحقنة وما يقطر في الإحليل، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم: فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع.
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويُفْسَدُ الصوم بها لكان هذا مما يجب بيانه على الرسول، ولو ذكر ذلك لعلِمَهُ الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك والحديث المروي في الكحل ضعيف.
والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر لم يكن معهم حجة إلا القياس، وأقوى ما احتجوا به: ((بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً))5. وهو قياس ضعيف، وذلك أن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزيل العطش، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب.
فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوِي، وليس كذلك الكحل والحقنة، ومداواة الجائفة والمأمومة، فإنها لا تغذي البتة.
أما الجماع فإنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: ((يدع شهوته وطعامه من أجلى))6. فترك الإنسان شهوته عبادة مقصودة يثاب عليها، وإنزال المني يجري مجرى الاستفراغ، فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وكونه يضعف البدن يجعل إفساده للصوم أعظم من إفساده الأكل.
والعلماء متنازعون في الحجامة هل تفطر أو لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم)7. كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ.
وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، والقول بأنها تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهؤلاء أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم.
وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله: "وهو صائم"، وقالوا : الثابت أنه احتجم وهو محرم، وبأنه بأي وجه أراد إخراج الدم فقد أفطر.
والسواك جائز بلا نزاع، لكن اختلف العلماء في كراهيته بعد الزوال، ولكن لم يقم على تلك الكراهية دليل شرعي يصلح أن يخصص عموم نصوص السواك.
وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطر. وأما للحاجة فلا يكره"8.
بعض فوائد حديث الموضوع هذا:
1. استدل به على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتيا أنه لا يعاقب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، ومن جهة المعنى أن مجيئه مستفتيا يقتضي الندم والتوبة، والتعزير استصلاح ولا استصلاح مع الصلاح، ولأن معاقبة المستفتي تكون سبباً لترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في مثل ذلك، وهذه مفسدة عظيمة يجب دفعها9.
2. أنَّ الوطء في نهار رمضان من المهلكات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على قوله: "هلكت" ولم لم يكن كذلك، لهوَّن عليه الأمر.
3. أنه يجب على من جامع زوجته في نهار رمضان التوبة الصادقة مع القضاء؛ لما جاء في إحدى روايات الحديث: ((وصم يوماً مكانه))10. ومع ذلك يجب عليه الكفارة المغلظة، وهي على الترتيب: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر شرعي كأيام العيدين والتشريق، أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر، فإن أفطر لغير عذر ولو يوماً واحداً لزمه استئناف الصيام من جديد ليحصل التتابع، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف كيلو غرامات من البر الجيد.
4. أن الكفارة لا تسقط مع الإعسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقطها عنه بفقره، وليس في الحديث ما يدل على السقوط.
5. جواز التكفير عن الغير ولو من أجنبي.
6. أن له الأكل منها وإطعامها أهله ما دامت مخرجة من غيره.
7. ظاهر الحديث أنه لا فرق في الرقبة بين الكافرة والمؤمنة، وبهذا أخذ الحنفية. والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لابد من إيمانها، ويكون الحديث مقيَّداً بالنصوص التي فيها كفارة القتل، فإنه ذكر فيها الإيمان.
8. حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم الوفادة عليه فقد جاءه هذا الرجل خائفاً وجلاً، فراح فرحاً، معه ما يطعم منه أهله11..
والله نسأل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 رواه البخاري ومسلم.
2 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للبسام(1/419).
3 مجالس شهر رمضان، لابن عثيمين.
4 أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث لقيط بن صبرة. وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح أبي داود، رقم(129). وصحيح ابن ماجه، رقم(328). وهو في صحيح الجامع، رقم (927).
5 سبق تخريجه.
6 رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
7 رواه أبو داود، من حديث ثوبان، وقال الألباني: " صحيح"؛ كما في صحيح أبي داود، رقم(2074). وهو صحيح الجامع، رقم (1136).
8 انظر: تيسير العلام (1/422- 423).
9 إحكام الأحكام(1/13).
10 روه أبو داود، وابن ماجه، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح ابن ماجه، رقم(1356).
11 انظر: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للبسام(1/420).