شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلاله وعظمته وقدرته وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي أوجب الصيام في رمضان على عباده، والصلاة والسلام على من سن القيام في رمضان لأصحابه واتباعه. أما بعد:
فإنا نحمد الله إليكم أن بلغنا رمضان لهذا العام، ولا يخفى على كل مسلم ما لرمضان من مكانة في القلوب، كيف لا وهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر كله هبات وعطايا ومنن من الحق سبحانه وتعالى، وسنتطرق إلى خاصية من خصائص هذا الشهر الكريم عن سواه من الشهور.
ومن خلال آية البقرة وفي قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ1. نقف جميعاً مع تلك الخاصية العظيمة، بل هي أعظم خصائص هذا الشهر الكريم.
فإن هذه الآية الكريمة من سورة البقرة من أعظم آي القرآن الكريم خيراً وبركة؛ وذلك لأنها أوجبت صوم شهر رمضان الذي هو شهر البركة والخير، ولأنها أشادت بفضل القرآن العظيم ونوّهت إلى ما فيه من الهدى والفرقان، والقرآن كله بركة وخير؛ ولأنها قرّرت رخصة الإفطار للمريض والمسافر والرخصة يسر، واليسر بركة وخير؛ ولأنها أبانت عن مراد الله تعالى لأمة الإسلام، ذلك المراد الكريم وهو اليسر في كل أمور هذه الأمة وشؤونها, والبعد بها عن مواطن الحرج والعسر. وفي هذا المراد الإلهي الخير كله والبركة جميعها؛ ولأنها بشرت أمة القرآن بهداية الله تعالى لها وهيأتها لشكر نعم ربها عليها وفي ذلك من الخير والبركة ما لا يعلم مداه إلا الله.
ألفاظها ومفرداتها:
"قوله تعالى: شهر رمضان: هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا حرّ جوفه من العطش.
وقوله تعالى: الذي أنزل فيه القرآن هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور، حيث أنزل فيه القرآن.
وقوله تعالى: هدى للناس هادياً للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين.
وقوله: وبينات من الهدى والفرقان البينات: جمع بينة، والهدى: الإرشاد، والمراد: أن القرآن نزل هادياً للناس، ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة، فارقاً لهم بين الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
قوله: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ حضر الإِعلان عن رؤيته.
قوله: فعدة من أيام أخر فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضاً أو مسافراً.
قوله: ولتكملوا العدة وجب القضاء؛ من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً.
قوله: وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد، والتكبير مشروع، وفيه أجر كبير، وصفته المشهورة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
قوله: ولعلكم تشكرون فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير؛ لتكونوا بذلك من الشاكرين لله تعالى على نعمه؛ لأن الشكر هو الطاعة".2
المعنى العام للآية الكريمة:
لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإِسلام الصيام في الآية السابقة، وأنه أيام معدودات، بينّ في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هادياً وموضحاً طرق الهداية، وفارقاً بين الحق والباطل، فقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.
فهو سيد الشهور وأفضلها؛ بما خصه الله تعالى به من نزول القرآن سيد الكتب وأفضلها فيه ابتداءً، حيث نزل الروح الأمين بأول آية منه وهي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ3، في رمضان بلا خلاف، وانتهاءً؛ حيث نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من رمضان لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ4، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ5. وهي ليلة القدر ويشهد لذلك الاحتفاء بها من قبل الملائكة في السماء والمؤمنين من الناس في الأرض كل ليلة قدر من رمضان تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ6.
كما أن الله تعالى قد أنزل في شأن صيام رمضان قرآناً، به وجب صومه وتحتم على المؤمنين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ7، وقال: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ8.
فهذه المعاني الثلاثة التي أوردناها تندرج كلها تحت لفظ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
ثم قال تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ إذن القضية رؤيا بصرية فمن شهد، والشهود معلوم كيف يكون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)9 فعلقه بالرؤية، وما جعلت الأهلة مواقيت للناس، إلا لعباداتهم من صوم وحج، وعدة نسائهم، وآجال ديونهم، هذا الهلال الذي يظهر فيكبر، ثم يصغر فيختفي؛ ليعود من جديد آية بينة من آيات الله، وعلامة في العبادات، فمن شهد منكم الشهر ولا يمكن أن تترك هذه الرؤية ما دامت النصوص الشرعية قد نصت عليها أبداً، ولا أن نلغي النصوص، ولا أن نعتدي عليها، ولا أن نعطلها، ولا أن نوقف العمل بها؛ لما يقترحه البعض من إجراء الحسابات.10
ثم قال تعالى: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وفي هذا المقطع من الآية تعليل لرخصة الإفطار في رمضان بسبب المرض أو السفر، كما فيه بشرى تثلج لها صدور المؤمنين وتقرّ بها أعين المسلمين، إذ أخبرهم ربهم أن شأنه سبحانه وتعالى معهم دائماً إرادة اليسر بهم، ونفي العسر عنهم في كل ما يشرع لهم, ويدعوهم إليه ويهديهم إلى فعله والقيام به من سائر العبادات والقرب والطاعات.
ثم علل تعالى للقضاء بقوله: لِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي عدة أيام رمضان هذا أولاً، وثانياً: لتكبروا الله على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلال شوال، وأخيراً: ليعدكم بالصيام والذكر للشكر.
وقال عز وجل: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.11
ويتضمن هذا الجزء الأخير من الآية ثلاث تعليلات:
الأول: التعليل لقضاء ما أفطر فيه المريض والمسافر من رمضان، فإن العلة في القضاء هي أن يكمل المؤمن عدة صوم رمضان, فيصوم تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، فيثاب ثواب من صام كل رمضان ولم يفطر فيه، وهذا خير عظيم وفضل كبير حيث أيام القضاء - وهي قطعاً من غير شهر رمضان بانضمامها إلى عدة أيام رمضان- تصبح ذات فضل وأجر كأنما هي من شهر رمضان.
والثاني: التعليل لهداية الله تعالى لهذه الأمة إلى أكمل الشرائع وأحسنها، وأجلها وأعظمها، مع التوفيق للأخذ بها والعمل بما فيها، مما يبعث على تكبير الله تعالى وتعظيمه، فالقلوب تستشعر عظمة الله تعالى من عظمة علمه وتشريعه، والألسن تلهج بذكره وتكبيره: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد.
والتعليل الثالث: فإنه مسوق لكل ما تقدم من الإنعامات الإلهية على هذه الأمة، فالله تعالى يَخْلُق ليُذكر ويُنعِم ليُشكَر، وتلك الغاية التي من أجلها خلق الخلق، فإنه ما خلق ولا رزق ولا أكرم ولا أنعم إلا ليذكر بذلك؛ ويشكر فيما أنعم تعالى على هذه الأمة المسلمة من جزيل النعم، وعظيم الامتنان فهو أعدها لشكره, وهو الشكور الحليم.12
ما في الآية من هداية:
إنّ في كل آية من كتاب الله تعالى هداية خاصة تحملها للمؤمنين، وللناس أجمعين، إذ كل آية تدل باللزوم على وجود الله وقدرته، وعلمه، ورحمته وسائر نعوت الكمال له، كما تدل على نبوة محمد ورسالته -صلى الله عليه وسلم-، وأعظم بهذه الهداية من هداية للعالمين, كما تدل بدلالة الخطاب على هداية خاصة، وقد تتعدد وجوه الهداية في الآية الواحدة كما في هذه الآية المباركة فتبلغ العدد الكثير، وهذا طرف مما حملته هذه الآية من هداية لأمة الإسلام:
1 – جمع قلوب المسلمين على تعظيم ما عظم الله تعالى من شهر رمضان والقرآن العظيم، وفي هذا من الهداية والبركة والخير ما لا يقدر قدره، ولا يعرف مداه ولا يُطاق حصره.
2 – رفع قيمة أمة الإسلام، وإظهارها في مظاهر الوحدة والنظام مما يجعلها المثل الكامل بين شعوب العالم وأممه إذا التزمت ذلك.
3 –المحافظة على ينابيع الخير والجمال والكمال في أمة الإسلام، وذلك بقيامها بشكر الله تعالى بذكره وطاعته، والشكر يقيد النعم الواردة ويجلب النعم الشاردة، كما قيل وصح.
4 – تقرير مبدأ الخير والجمال، وهما زينة حياة الأمم والشعوب، وسرّ مجدها وعنصر بقائها حية قوية نامية صالحة تنفع وتضر، وتهدي الحيارى إلى سبل الخير والسلام.13
اللهم اجعلنا دعاة إلى سبيلك يا رب العالمين، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم كثرت ذنوبنا وعفوك أكثر فيا عفو أعف عنا، والحمد لله رب العالمين.
1 (185) سورة البقرة.
2 أيسر التفاسير (1/82).
3 (1-5) سورة العلق.
4 (1) سورة القدر.
5 (3) سورة الدخان.
6 (4) سورة القدر.
7 (183) سورة البقرة.
8 (185) سورة البقرة، أي شهر رمضان.
9 رواه البخاري (1810) ومسلم (10809).
10 من خطبة للشيخ محمد المنجد بعنوان: (تفسير آيات الصيام)
11 أيسر التفاسير للجزائري (1/82).
12 نقلاً من مقال للشيخ أبي بكر الجزائري بمناسبة رمضان بتصرف.
13 مقال للشيخ أبي بكر الجزائري بتصرف.