أتى أمر الله فلا تستعجلوه
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا, وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, ومنه المبتدأ وإليه المنتهى والمآب, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب.
إخواني:
ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها, وفي ذلك أعظم الاعتبار؛ فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار, وإنما هي طلوع ثم غيوب ثم زوال، ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة الصغيرة كما يولد الأطفال، ثم تنمو رويداً رويداً كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال؟ وهكذا عمر الإنسان سواء! فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاماً بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام؟ وهكذا عمر الإنسان! يتطلع إلى آخره تطلع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (19) سورة ق.
وعظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلًا فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك, وحياتك قبل موتك)1.
ففي الشباب قوة وعزيمة, فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة, وفي الصحة نشاط وانبساط, فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال, وفِى الغنى راحة وفراغ, فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال, وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال, فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان.
عباد الله اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها واعلموا أن كل آت قريب وأن كل موجود منكم زائل فقيد، فابتدروا الأعمال قبل الزوال2.
واجعلوا نصب أعينكم قول الله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} (18) سورة غافر. فالآزفة القيامة, والمعنى: أنذرهم يوم القيامة، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة, وإنما عبر عن القيامة بالآزفة لأجل أزوفها أي قربها, وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من اقتراب قيام الساعة، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (57-58) سورة النجم. وقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُُ} (1) سورة القمر. وقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (1) سورة الأنبياء. وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (63) سورة الأحزاب. وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (17) سورة الشورى3.
أيها الإخوة:
لقد كان مشركو مكة يستعجلون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة, وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالاً، وزادوا استهزاء، وزادوا استهتاراً؛ وحسبوا أن محمداً يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة، ليؤمنوا له ويستسلموا, ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم؛ ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون، وآياته في القرآن, تلكم الآيات التي تخاطب العقول والقلوب، خيراً من خطابها بالعذاب! والتي تليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور، وحرية الإرادة والتفكير.
وجاء مطلع سورة النحل حاسماً جازماً: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} (1) سورة النحل.
يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة؛ وهذا يكفي لتحققه في الموعد الذي قدره الله لوقوعه, {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}؛ فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته، لا يقدمها استعجال, ولا يؤخرها رجاء؛ فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى، أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر4.
والله يقول: {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (61) سورة النحل. {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (51) سورة الإسراء.
إخواني:
كلنا ولله الحمد يؤمن بيوم الحساب وما عندنا فيه من شك ولا ارتياب, غير أننا في غفلة ساهون, وعن الاستعداد له معرضون, وفي دنيانا الدنيئة ولذائذنا منغمسون ولاهون, إننا لنعمل لها كأننا نعمر فيها, وإننا لنفرط بأعمال وأوقات لا يمكننا تلافيها.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وابتدروا الأعمال الصالحة, ففي ذلك فليتنافس المتنافسون, فما بعد الشباب -إن قدر للإنسان البقاء- إلا الهرم, وحينذاك يقرب الموت ويستولي الهم والحزن والندم.
وفقنا الله وإياكم لاغتنام الفرص والأوقات, وجعل أعمالنا مقرونة بالتسديد والإخلاص, وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يوم الأخذ بالنواصي إنه سميع مجيب رحيم قريب5.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, والحمد لله رب العالمين.
1 رواه الحاكم في مستدركه -7957- (18/216), وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3355).
2 خطب مختارة (اختيار وكالة شئون المطبوعات والنشر بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، بالسعودية).
3 أضواء البيان (7/72) لـ(الشنقيطي).
4 في ظلال القرآن - (4/453) لسيد قطب.
5 الضياء اللامع من الخطب الجوامع ل(ابن عثيمين).