شرف المؤمن
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, الذي ذلَّت لعظمته الرقاب, وسجدت له الجباه, وبكت من خشيته العيون, سبحانه من عظيم كريم, والصلاة والسلام على البشير النذير، من كان يقوم بين يدي ربه الكريم حتى تتفطر قدماه؛ محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المشاهد لواقع المسلمين اليوم يراهم ينقسمون في انشغالاتهم ليلاً إلى قسمين:
1- قسم غارق في اللهو والمجون, عاكف على القنوات الخليعة, قد حدَّقت عيناه إلى تلك الشاشة التي يظهر فيها ما يستحيي إبليس من النظر إليه, أو غارق في المعاكسات، وبحار الشهوات.
2- وصنف آخر إذا جن الليل وأرخى جناحه؛ قام من مضجعه الوفير واقفاً بين يدي الله تبارك وتعالى الواحد القهار, راكعاً ساجداً, خاشعاً باكياً ذليلاً, داعياً ربه تبارك وتعالى قال الله تبارك وتعالى في وصف حال هؤلاء الناس: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}1.
وقد جعل اللّه سبحانه قيام الليل من أوصاف الصالحين فقال: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}2.
وأمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بقيام الليل، وحَثَّه عليه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}3, وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}4, فكان صلوات الله وسلامه عليه يأخذ بهذا التوجيه الرباني الكريم مستجيباً للأمر كما تقولُ عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تَفَطَّر رجلاه، فقالتْ عائشة: يا رسولَ اللهِ أتصنَعُ هذا وقد غُفِرَ لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، فقال: ((يا عائِشَةُ أفلا أَكونُ عبداً شكوراً))5، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها, ثم افتتح النساء فقرأها, ثم افتتح آل عمران فقرأها, يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح, وإذا مرَّ بسؤال سأل, وإذا مرَّ بتعوذ تعوذ, ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم, فكان ركوعه نحواً من قيامه, ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد, فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه"6.
هذا حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعله وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فماذا فعلنا نحن ونحن أصحاب المعاصي والذنوب؟
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على قيام الليل ويرغبهم فيه كما قال في شأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((نِعْمَ الرَّجُلُ عبدالله لو كان يصلي من الليل)) قال سالم بن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"7, وعن أبي مالكٍ الأَشْعَرِيّ رضي الله عنه عنِ النَّبِيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إن في الجنة غُرَفاً يُرَى ظاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظاهرها، أعدَّها اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعامَ، وأفشى السَّلامَ، وَصلَّى بالليل والناسُ نِيَام))8, وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "جاءَ جِبْريلُ إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلم فقال "يا مُحَمَّد عِشْ ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مَجْزِيّ به، وأحبب من شئت فإنك مُفَارِقُه، واعلمْ أنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيامُ اللَّيْلِ، وعِزُّه اسْتِغْناؤه عن الناس))"9, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))10؛ وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغَافِلِين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المُقَنْطِرين))11.
ولقد كان ثابت البناني رحمه الله تعالى يقوم الليل، ويصوم النهار، وكان يقول: "ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل"12, وقال حسان بن عطية رحمه الله: "من أطال قيام الليل يهون عليه طول القيام يوم القيامة"13, وقال الحسن رحمه الله: "إن العبد ليذنب الذنب فيُحرَم به قيام الليل"14, وقال شاب للحسن رحمه الله: "أعياني قيام الليل، فقال: قيدتك خطاياك"15, وقال رحمه الله: "ما في الأرض شيء أحبه للناس من قيام الليل، فقال أبو إياس: فأين الورع؟ قال: به به ذلك ملاك الأمر"16.
وقال الشاعر يصف قومه وكانوا أهل جد واجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى:
إذا ما الليل أظلم كابــدوه فيسفر عنهم وهم ركـوع
أطار الخوف نومهم فقامـوا وأهل النوم في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلــوع
وخرس بالنهار لطول صمت عليهم من سكينتهم خشوع
ولأجل أن يدركها من أرادها فقد وقَّت الرسول صلى الله عليه وسلم وقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مَثْنَى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صَلَّى))17, وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإنَّ صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل))18, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟))19.
فيا أصحاب الخطايا: أين الدموع الجارية، ويا أسرى المعاصي ابكوا على الذنوب السالفة, وسلوا الله تبارك وتعالى المغفرة, سلوا الله تعالى التخليص من الذنوب, ولا تفوِّتوا الفرصة، واغتنموا أفضل الأوقات عباد الله فإنه وقت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا.
أسباب معينة على قيام الليل:
1- من الأسباب التي تعين على قيام الليل النوم مبكراً, فإن السهر يُتْعب الإنسان, ويجعله يستيقظ متأخراً، وبخاصة إذا أجهد الإنسان نفسه بالسهر على المعاصي - عياذاً بالله تبارك وتعالى - من مشاهدة القنوات السيئة, أو لعب القمار، والألعاب الورقية, أو مجالس الغيبة والنميمة، ولذلك ثبت عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها، وكان يقرأ في صلاة الفجر من المائة إلى الستين، وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض"20.
2- ومنها الأسباب أيضاً القيلولة بالنهار.
3- العزم على القيام مع الاستعانة بالملك العلام تبارك وتعالى على ذلك.
وإذا كان هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنه لا يسعنا والأمر كذلك إلا أن نسابق إلى الفردوس, ونشمر إلى الجنة {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}21, وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}22.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته ورضاه، وأن يوفقنا لصالح الأعمال والأقوال, وأن يرزقنا حبه وحب من يحبه، وحب عمل يقربنا إليه, ونسأله أن يجعلنا من أهل جنات النعيم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 سورة السجدة (16).
2 سورة آل عمران (113-114).
3 سورة المزمل (1-4).
4 سورة الإسراء (79).
5 رواه مسلم برقم (2820).
6 رواه مسلم برقم (772).
7 رواه البخاري برقم (1070).
8 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (509)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي؛ والحاكم في المستدرك برقم (270)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (618).
9 رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4278)؛ وقال الألباني: حسن لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (627)؛ وحسنه في السلسلة الصحيحة برقم (831).
10 رواه مسلم برقم (1163).
11 رواه أبو داود برقم (1398)؛ وابن خزيمة في صحيحة برقم (1144)؛ وابن حبان برقم (2572)؛ وقال الألباني: حسن صحيح برقم (639)؛ وصححه في صحيح أبي داود برقم (1246).
12 التهجد (233)؛ والصفوة (3/262).
13 صفة الصفوة (4/222).
14 التهجد (406).
15 صفة صفوة (3/234)؛ والعقد الفريد (10/99).
16 الورع (50).
17 رواه البخاري برقم (946)؛ ومسلم برقم (749).
18 رواه مسلم برقم (755).
19 رواه البخاري برقم (1094)، و(5962)، و(7056)؛ ومسلم برقم (758).
20 رواه البخاري برقم (522), و(574)؛ ومسلم برقم (647) واللفظ له.
21 سورة آل عمران (133).
22 سورة الحديد (21).