ساعة فساعة
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, إله الأولين والآخرين، وجامع الناس إلى يوم الدين, والصلاة والسلام على أفضل البشر نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد:
المتأمل في واقع المسلمين يجدهم يمرون بفترة ينشطون فيها في جانب العبادة, ويكونون بعيدين غاية البعد عن معاصي الملك العلام, بل يكون الخوف من الله - تبارك وتعالى - هو المسيطر عليهم, ويمرُّون بأخرى يضعفون فيها عن فعل الطاعات والنوافل لانشغالهم بدنياهم، ومخالطتهم لأهلهم, وهم مع هذا محافظون على ما افترض الله - تبارك وتعالى - عليهم, وهذا الأمر من طبيعة النفس البشرية, إذ تنوبها حالات من التغير والضعف، لكن ينبغي أن يُعلم أن من كان ضعفه في أداء العبادات لا يخرجه إلى ترك المفروضات, ولا يتعدى إلى المعاصي؛ فهو لا يزال على خير، أما من أخرجه ضعفه إلى ترك المفروضات واقتراف المعاصي فقد هلك والعياذ بالله - تبارك وتعالى -؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فأما إلى سُنَّة، وأما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سُنَّة فقد اهتدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك))1.
ووقع بعض الفتور هذا لصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورغم أنه لم يكن سبباً لاقتراف السيئات؛ إلا أنه سبَّبَ وجود حالة الخوف على النفس من النفاق فهذا حنظلة الأسيدي - رضي الله عنه - (وكان من كتَّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يقول: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة, قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج، والأولاد, والضيعات, فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا, فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)), قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين, فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات))2.
وربما فهم بعض الناس من هذا الحديث أن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى إطلاق العنان للنفس بحيث تنطلق مع الشهوات من غير قيود ولا ضوابط, فيفسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ساعة وساعة)) فيقول: ساعة طاعة, وساعة شهوات, أو ساعة لربك، وساعة لقلبك, فأما "ساعة لربك" فيعني أنك لست حراً في تصرفاتك وسلوكك، بل لابد من التقيد بالضوابط، والسير على الكتاب والسنة, وأما "ساعة لقلبك" فتكون فيها حراً في تصرفاتك وسلوكك دون تقيد بقيود, وهذا الفهم لهذا الحديث فاسد غير صحيح, وذلك لعدة أسباب منها:
1. أن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - مرسل من قِبل ربه - تبارك وتعالى - لإخراج الناس من الظلمات إلى النور, وهدايتهم إلى الصراط المستقيم, ويستحيل أن يُفهم من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفهم إذ هو المبلغ عن الله - تبارك وتعالى - قال الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}3, ولا يعقل أن تكون هذه هي فحوى رسالته, ثم يدعو الناس إلى ما يناقضها أو يعارضها من جعل الحياة قسمين: قسم لله، وقسم لنفسه والشيطان.
2. ولأن حياة الإنسان كلها لله - تبارك وتعالى -، فكيف يقول: ساعة لربك, وساعة لقلبك أو لنفسك؟ قال الله - تبارك وتعالى -: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}4.
والعارف بحال المسلم في يومه يجده عندما يستيقظ من نومه فإن أول ما يقوله هو دعاء الاستيقاظ من النوم وهو كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه قال: ((اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور))5, ثم يقوم من نومه فيتوضأ ويصلى صلاة الفجر, ثم يذكر أذكار الصباح, ثم يصلي ركعتي الشروق, ثم يقوم بطلب الرزق من حلِّه, ثم تأتي صلاة الظهر, ثم صلاة العصر, ثم وقت غروب الشمس يذكر أذكار المساء, ثم صلاة المغرب، ثم صلاة العشاء, فهذا هو الحد الأدنى من البرنامج العبادي للمسلم في يومه, فإن كان طالب علم اشتغل في أوقات الراحة بقراءة الكتب العلمية، ثم لا بد من وقت له ليقرأ القرآن، ويتلو كلام الرحمن، ثم هو مع هذا قد يكون في نهاره صائماً، أو يكون في ليله قائماً، أو هو مؤد لغير ذلك من العبادات، وكل ذلك يدل دلالة واضحة على أن حياة المسلم ليس فيها وقت لاتباع الشهوات، واقتراف المنكرات، وتضييع الأوقات مع الشياطين.
فنسأل الله أن يوفقنا لطاعته والفقه في دينه, وأن يغفر لنا ويرحمنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا الكريم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 رواه أحمد في المسند برقم (6477) بطوله من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
2 رواه مسلم برقم (2750).
3 سورة المائدة (15-16).
4 سورة الأنعام (162- 163).
5 رواه مسلم برقم (2711).